الفصل الأول يسوع المسيح الحياة في إنجيل يوحنا

 

الفصل الأول
يسوع المسيح الحياة في إنجيل يوحنا
المطران كيرلّس سليم بسترس
رئيس أساقفة بعلبك وما للروم الكاثوليك

"في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، وكان الكلمة الله. إنّه في البدء كان لدى الله. به كان كلّ شيء وبغيره لم يكن شيء مّما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس" (يو 1: 1-4). هكذا يبدأ إنجيل يوحنا. وينتهي بالقول: "وصنع يسوع أمام التلاميذ آيات أخرى كثيرة لم تدوَّن في هذا الكتاب. وإنما دوِّنت هذه لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله، فتكون لكم، إذا آمنتم، الحياة باسمه" (يو 20: 30- 31). فيبدأ بالقول إنّ الحياة كانت في الكلمة: "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس". وينتهي بمنح الحياة للذين يؤمنون به. فالهدف من كتابة إنجيل يوحنا هو "لتؤمنوا بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله"، وتكون لكم، نتيجة لهذا الإيمان، "الحياة باسمه".
الايمان بأن يسوع هو المسيح ابن الله وبأن من يؤمن به ينال الحياة الأبدّية، هما النقطتان الأساسيّتان اللتان يتوسّع فيهما إنجيل يوحنا من بدايته، كما يتبيَّن لنا من خلال نظرة سريعة لمضمونه. وهذا ما سنوضحه من خلال خمس عشرة شهادة تؤكد كلّها أنّ يسوع هو المسيح ابن الله، ولأنّه ابن يستطيع من ثمّ أن يعطي الحياة للّذين يؤمنون به.

1- شهادة يوحنا المعمدان: يسوع هو حمل الله والممتلىء من الروح القدس
الشهادة الأولى التي ترد على الفور بعد فاتحة الإنجيل هي شهادة يوحنا المعمدان، الذي قال عن نفسه: "أنا لست المسيح" (1: 19). ثم قال عن يسوع: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم. إنه هو الذي قلت عنه: يأتي رجل قد تقدّمني لأنه كان قبلي" (29:1-30). منذ بدء إنجيله، يضع يوحنا نصب أعيننا حمل الله المذبوح منذ إنشاء العالم، والذي بموته سوف يرفع خطايا العالم ويمنح الناس الحياة. وهذه الحياة هي حياة الروح القدس نفسه. فالمسيح، لكونه ممتلئا من الروح القدس، يستطيع أن يمنح الروح القدس، كما يتّضح مما يلي: "إنّي رأيت الروح ينزل من السماء كمثل حمامة ويستقرّ عليه. أنا لم أكن أعرفه، غير أنّ الذي أرسلني أعمّد بالماء هو قال لي: إنّ الذي ترى الروح ينزل ويستقرّ عليه هو الذي يعمّد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وأشهد أنّه ابن الله" (1: 32-34). وهكذا تنتهي الشهادة الأولى لإعلان الإيمان بأنّ يسوع هو ابن الله الممتلئ من روح الله.

2- شهادة الرسولين أندراوس ونتنائيل: يسوع هو المسيح، ابن الله
أندراوس هو أوّل الرسل الذين دعاهم يسوع. فحالما وجد أخاه بطرس، قال له: لأقد وجدنا هامشيحا، أي المسيح" (1: 41). وبعد ذلك اعترف نتنائيل قائلاً ليسوع: "رابّي أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل" (1: 49). وهكذا ينتهي المقطع أيضًا بالايمان بيسوع المسيح والشهادة بأنه ابن الله.

3- تحويل الماء الى خمر في عرس قانا الجليل: ظهور مجد ابن الله
ثم يروي إنجيل يوحنا أولى عجائب المسيح، وهي تحويله الماء الى خمر في عرس قانا الجليل. والخمر رمز الدم، والدم رمز الحياة. فأول عجيبة صنعها يسوع المسيح تدلّ على أنّه هو المسيح ابن الله، وأن عنده ينبوع الحياة. وهذا ما يوضحه الإنجيل في نهاية الرواية بقوله: "تلك كانت أولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذ" (2: 11). والمجد هنا يعني ظهور كيان الله في شخص ابنه. فالكلمة الذي منذ البدء كانت فيه الحياة "صار بشرًا، وسكن بيننا مملوءًا نعمة وحقًّا. وقد رأينا مجده، مجد ابن وحيد آت من الآب" (1: 14). وتنتهي أيضًا رواية عرس قانا بإيمان التلاميذ بيسوع.

4- حديث يسوع مع نيقوديمس: الولادة من الماء والروح
لدخول الملكوت والحصول على الحياة
في الفصل الثالث يؤكد يسوع لنيقوديمس ضرورة الولادة الجديدة "من فوق" و "من الماء والروح" لدخول ملكوت الله. وملكوت الله هو مرادف الحياة. "ما من أحد يستطيع دخول ملكوت الله ما لم يُولد من الماء والروح" (3: 5). وهذه الولادة ودخول الملكوت لا يستطيع أحد أن يمنحهما إلاّ ابن الله: "فإنه لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء ابن البشر الكائن في السماء. وإنه كما رفع موسى الحيّة في البريّة كذلك ينبغي أن يُرفع ابن البشر، لتكون به الحياة الأبدية لكلّ من يؤمن به، أجل لقد أحبّ الله العالم حتى إنّه بذل ابنه، وحيده، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة" (13:3-16). وفي المقارنة بين يوحنا المعمدان وشموع يقول يوحنا المعمدان لتلاميذه: "أنتم أنفسكم تشهدون لي بأني قلت: إنّي لست المسيح، بل أنا رسول قدامه. فالذي له العروس هو العريس؛ وأما صديق العريس فإنه يقف هناك ويسمعه، فيملأه صوتُ العريس فرحًا؛ فهذا الفرح الذي هو فرحي قد تمّ. فله إذن ينمو ولي أن أنقص" (28: 3-30). ثم يضيف الإنجيليّ: "إنّ الآتي من فوق هو فوق الكلّ، والذي من الأرض أرضيّ هو، وكلامه كلامُ أهل الإرض. إن الآتي من السماء يشهد بما رأى وسمع [...]. ذلك بأنّ الذي أرسله الله يتكلّم بكلام الله، لأن الله يُعطيه الروح بغير حساب. الآب يحبّ الابنَ، فجعل في يده كلّ شيء. فمن بؤمن بالابن فله الحياة الأبديّة. ومن لا يؤمن فلا يرى الحياة، بل غضبُ الله مستقرٌّ عليه" (3: 31-36). وينتهي المقطع أيضًا بالإيمان بابن الله الذي يعطي من يؤمن به الحياة الأبديّة.

5- المرأة السامريّة وماء الحياة: يسوع المسيح مخلّص العالم
الفصل الرابع يدور حول الإيمان بأنّ يسوع هو المسيح الذي يعطي ماء الحياة. ففي حديث يسوع مع السامريّة يؤكد الإنجيل أنّ يسوع هو المسيح، لذلك يستطيع أن يعطي ماء الحياة. فيقول يسوع للسامريّة: "لو كنت تعرفين عطيّة الله ومن ذا الذي يقول لكِ أسقيني لكنتِ أنتِ تسألينه فيعطيك ماء حيًا (4: 10). ثم يضيف: "إن من يشرب من هذا الماء يعود فيعطش. وأمّا الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش أبدًا. بل الماء الذي أعطيه إيّاه يتفجر حياةً أبديّة" (4: 13-14). وعندما تقول له المرأة: "إنّي أعلم أن هامشيحا- ذاك الذي يقال له المسيح- سيأتي، فمتى أتى أخبرنا بكلّ شيء"، يجيبها يسوع: "أنا هو، أنا الذي يكلّمك" (4: 25-26). ويؤكّد الإنجيل: "وآمن به كثير من سامريّ تلك المدينة بفعل كلام المرأة..." (4: 39). وبعد أن أقام عندهم يومين، "آمن به لسماع كلامه عدد أكبر جدًا. وقالوا للمرأة: لسنا لكلامكِ فقط نؤمن، فإنّا قد سمعنا نحن أنفسُنا أنهّ حفا مخلّص العالم" (4: 41).

6- شفاء ابن الضابط الملكيّ: يسوع يمنح الحياة
الأعجوبة الثانية التي يذكرها إنجيل يوحنا هي شفاء ابن ضابط ملكي مشرف على الموت: "اذهب، فابنُك حيّ" (4: 50). يسوع يمنح الحياة. وتنتهي الرواية أيضًا بالإيمان بيسوع: فآمن الضابط "هو وأهل بيته جميعًا" (4: 53).

7- شفاء المخلع يوم السبت: يسوع هو ابن الله الذي يعطي الحياة على مثال الله الآب
الفصل الخامس يروي شفاء مخلّع يوم السبت. فالسبت هو النهار المقدس والمكرّس لعمل الله. والمخلّع هو أشبه بالميّت. فيقول له المسيح سيّد الحياة: "قم، احمل فراشكَ وامش" (8:5). ويلي ذلك خطاب يسوع في وحدته مع الآب، وفي سلطانه على الحياة: "كلّ ما يعمله الآب يعمله الابن على مثاله [...] فكما أنّ الآب يُقيم الأموات ويعطي الحياةَ، كذلك الابن يعطي الحياة لمن يشاء [...] الحق الحق أقول لكم إنّ من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله الحياة الأبديّة، ولا يصير الى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة". ثم يستفيض يسوع بالحديث ليؤكّد سلطانه على الحياة، وأنّ الحياة الأبديّة التي لا يقوى عليها الموت قد أتت بمجيئه: "الحق الحق أقول لكم أنّها ستأتي الساعة- وقد أتت الآن- التي يسمع فيها الأموات صوت ابن الله، والذين يسمعون يحيون. لأنه كما أنّ الآب له الحياة في ذاته كذلك أعطى الابنَ أن تكون له الحياة في ذاته، وأعطاه سلطان القضاء لأنه ابن البشر. لا تتعجّبوا من هذا. فإنّها ستأتي الساعة التي يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرجون منها: فالذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذي عملوا السّيئات إلى قيامة الدينونة" (5: 25- 30).
ويؤنّب اليهود على عدم إيمانهم به: "أنتم تتفحّصون الكتب لأنكم تظنّون أنّ لكم بها الحياة الأبديّة، وهي التي تشهد لي. ولكنّكم لا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم الحياة" (39:5-40). فالحياة لم تعد في كتب العهد القديم الذي تحتوي كلام الله متفرّقًا، بل في شخص يسوع المسيح الذي هو كلمة الله وابن الله. وهذا الفصل أيضًا ينتهي بالدعوة إلى الإيمان بيسوع المسيح بأنّه النبيّ الذي تكلّم عنه موسى: "فلو كنتم تصدّقون موسى لصدّقتموني لأنه كتب عنّي" (5: 46)، وبأنّه ابن الله المعطي الحياة.

8- يسوع خبز الحياة الذي يعطي الحياة ببذل ذاته
الفصل السادس يروي أعجوبة تكثير الخبزات، وإيمان الناس بأنّ يسوع هو النبيّ الآتي إلى العالم الذي أنبأ بمجيئه موسى. "فلمّا شاهد الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إنه حقًا النبيّ الآتي إلى العالم" (6: 14). ويلي الأعجوبة خطاب طويل في خبز الحياة الآتي من السماء، الذي هو يسوع المسيح ابن الله نفسه الآتي من السماء. وتتوالى الأقوال الإلهيّة كالمطر الكثيف الهاطل من السماء: "اعملوا لا للطعام الذي يفنى بل للطعام الذي يبقى للحياة الأبديّة الذي يعطيكموه ابن البشر، فإنّه هو الذي ثبّته الله الآب بختمه" (6: 27). "الحق الحق أقول لكم إنّ موسى لم يعطكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، لأنّ خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي الحياة للعالم" 6: 32-33). "أنا خبز الحياة، من يأت إليّ فلن يجوع أبدًا، ومن يؤمن بي فلن يعطش أبدًا" 35:6). "أجل تلك مشيئة أبي: أن تكون لكلّ من يرى الابن ويؤمن به الحياةُ الأبديّة؛ وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (6: 51). "الحق الحق أقول لكم إنّ من آمن فله الحياةُ الأبديّة" (6: 47). "أنا هو الخبز الحيّ، النازل من السماء. فمن أكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه أنا هو جسدي المبذول لأجل حياة العالم" (6: 51). "الحق الحق أقول لكم، إذا لم تأكلوا جسد ابن البشر وإذا لم تشربوا دمه، فلا حياة لكم في أنفسكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير. [...] وكما أنّ الآب الذي أرسلني حيّ وأنا أحيا بالآب فكذلك من يأكلني فإنّه يحيا بي" (53:6-57)، "إنّ الروح هو الذي يُحيي، وأمّا الجسد فلا يملكُ نفعًا. والكلام الذي كلّمتكم به هو روح وحياة" (6: 63).
في كلّ هذه الأقوال التي تتكرّر بتعابير مختلفة وتصاوير متنوّعة، يؤكّد الإنجيل الحقيقية الواحدة: يسوع هو المسيح ابن الله الآتي من السماء، أعني من عند الله ليمنح الحياة الأبديّة لكلّ من يؤمن به. وعندما "ارتدّ عنه كثير من تلاميذه وانقطوا عن السير معه، قال يسوع للاثني عشر: "وأنتم، أفلا تريدون أن تذهبوا؟"، أجابه سمعان بطرس: "إلى من نذهب، يا ربّ؟ إنّ عندك كلامَ الحياة الأبديّة. فإنّا نحن قد آمنّا بك وعرفنا أنّك قدّوس الله" (6: 66-69). وهنا أيضًا ينتهي الفصل بإعلان إيمان الرسل بيسوع مع إضافة لقب جديد ليسوع، لقب قدّوس الله. فيسوع هو إذن المسيح، والنبيّ، وكلمة الله، وابن الله، وقدّوس الله. لذلك هو الماء الحيّ، وهو خبز الحياة، وهو الذي أرسله الله وأعطاه الروح بغير حساب. ولذلك يستطيع أن يمنح حياة الله للناس.

9- يسوع المعطي الروح
في الفصل السابع يعود إنجيل يوحنّا فيؤكّد أنّ يسوع هو مُرسَل الله. فعندما يقول اليهود متعجّبين: "كيف له كلّ هذا العلم وهو لم يتعلّم؟"، يجيبهم يسوع: "إنّ تعليمي ليست من عندي بل من عند الذي أرسلني" (7: 16). ويعود الى صورة الماء الحيّ، ويطبّقها على الروح القدس: "وفي اليوم الأخير من العيد، وهو يومه الأعظم، وقف يسوع وصاح قائلاً: من كان عطشان فليأت إليّ، ومن آمن بي فليشرب. فإنّه، كما قال الكتاب، ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي سيقبله المؤمنون به: فإنّ الروح لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن بعد قد مُجّد" (37:7-39).

10- يسوع يُحرّر من الخطيئة ويُنير العالم ويمنحه الحياة
الفصل الثامن يروي قصة المرأة الزانية التي أراد أليهود أن يرجموها. أمّا يسوع فيغفر لها قائلاً: "اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة" (8: 11). ثم يقول يسوع لليهود: "أنا نور العالم. فمن تبعني لا يمشي في الظلام، بل يكون له النور الذي يقود إلى الحياة" (8: 12). والحياة هنا هي الخلاص من الخطايا. والمسيح يستطيع أن يخلّص من موت الخطيئة، لأنه آت من عند الله: "أنتم من أسفل، وأنا من فوق. أنتم من هذا العالم وأنا لست من هذا العالم. من أجل ذلك قلت لكم إنّكم ستموتون في خطاياكم. أجل، إنّكم، إذا لم تؤمنوا بأنّي أنا هو، ستموتون في خطاياكم" (23:8). "الحق أقول لكم إنّ من ارتكب الخطيئة كان عبدًا للخطيئة. والعبد لا يقيم في البيت على الدوام، بل الابن يقيم على الدوام. فإذا حرّركم الابن صرتم بالحقيقة أحرارًا" (8: 34-36). "الحق الحق أقول لكم إنّ من يحفظ كلامي لا يرى الموتَ أبدًا. فقال له اليهود: الآن أيقنّا أن بك شيطانًا: فإبراهيم قد مات، والأنبياء أيضًا، وتقول أنت إن من يحفظ كلامي لا يذوق طعم الموت أبدًا. أفتكون أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات؟ والأنبياء أيضًا ماتوا! فمن تجعل نفسَك؟". وجاء جواب يسوع يفسّر سلطانه على مغفرة الخطايا وقدرته على منح الحياة: "الحق الحق أقول لكم إنّي، قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن" (8: 51-58). هنا أيضًا يستنتج الإنجيل قدرة يسوع على منح الحياة الإلهيّة من كيانه الإلهي.

11- شفاء الأعمى منذ مولده: يسوع هو النور والحياة
في الفصل التاسع، يعود موضوع المسيح نور العالم في أعجوبة شفاء الأعمى منذ مولده: "ما دمتُ في العالم، فأنا نور العالم" (9: 5). والنور والحياة متلازمان، كما في مطلع الإنجيل: "والحياة كانت نور الناس، والنور يُضيء في الظلمة" (1: 4- 5). ويعقب الأعجوبة إعلان إيمان الأعمى الذي شُفي، بأن يسوع هو "نبي" (9: 17)، وبأنّه "ابن البشر" (9: 35).

12- يسوع هو الراعي الصالح الذي يبذل حياتَه عن الخراف
في الفصل العاشر يبدأ إنجيل يوحنا بتهيئة الأجواء لموت يسوع المعطي الحياة. فيسوع هو الراعي الصالح الذي أتى ليمنح خرافه الحياة: "وأما أنا فإنّما أتيت لتكون للخراف الحياة، وتكون لها وافرة. أنا الراعي الصالح: الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (10: 10- 11). "إنّ خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها، وهي تتبعني. وأنا أعطيها الحياة الأبديّة فلا تهلك أبدًا، ولا ينتزعها أحد من يدي. إنّ ما أعطانيه الآب أثمن من كلّ شيء، وما من أحد يقدر أن ينتزع من يد الآب شيئًا". ثم يخلص إلى القول، موضحًا من أين له هذا السلطان على الحياة الأبديّة: "أنا والآب واحد" (10: 27- 30).

13- إحياء لعازر: يسوع هو المسيح ابن الله، وهو القيامة والحياة
في الفصل الحادي عشر يظهر يسوع سيّد الحياة والموت بإعادته الحياة للعازر. ويوضح ذلك بقوله لمرتا: "أنا القيامة والحياة. فمن آمن بي وإن مات يحيا. ومن كان حيّا وآمن بي فلن يموت أبدًا. أتؤمنين بهذا؟ قالت: نعم يا ربّ، أنا أومن أنّك المسيح، أنّك ابنُ الله الآتي إلى العالم" (11: 25-27). "وجاء يسوع إلى القبر، [...] وقال: إرفعرا الحجر. فقالت له أخت الميت: إنه أنتن، يا ربّ، فإنّ له أربعة أيّام. قال لها يسوع: أما قلت لك إنّك إذا آمنت ترينَ مجدَ الله؟ وصاح يسوع بصوت شديد: يا لعازر، هلم خارجًا! فخرج الذي كان ميتًا ويداه ورجلاه مشدودات بلفائف، ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم يسوع: فكوّه، ودعوه يذهب!" (11: 39-44). وتنتهي الرواية بالإيمان: فكما آمنت مرتا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله، على مثالها، "آمن به كثير من اليهود الذين كانوا قد جاؤوا الى مريم وشاهدوا ما فعل" (11: 45). يسوع هو المسيح ابن الله. يسوع هو كلمة الله الذي منذ البدء كانت فيه الحياة. وها هو اليوم، بكلمة، يعيد الحياة إلى الأموات.
وبعد هذه الأعجوبة ينبىء الإنجيل بقتل يسوع على لسان قيافا رئيس الكهنة: "خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلكَ الأمّة بأجمعها" (11: 50). سيموت يسوع ولن تهلك الأمّة، بل ستكون لها الحياة. ويشير الإنجيل إلى أنّ يسوع لم يمت "عن الأمّة فقط، بل ليجمع في الوحدة أبناء الله المشتتين" (52:11).

14- حبّة الحنطة: يسوع يقبل الموت ليمنح بموته الحياة
لدى شعور يسوع باقتراب موته، قال: "الحقّ أقول لكم إنّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض تبقى وحدها إذا لم تمت. أمّا إذا ماتت أتت بثمر كثير. فمن أحبّ حياته أضاعها. ومن أبغض حياتَه في هذا العالم حفظها للحياة الأبديّة" (12: 24-25). وفي نهاية الفصل الثاني عشر، أوجز يسوع تعليمه بقوله: "من آمن بي فليس بي يؤمن بل بالذي أرسلني، ومن رآني رأى الذي أرسلني [...]. لأنّي لم أتكلّم من عند نفسي، بل الآب الذي أرسلني قد أوصاني بما أقول وأعلن. وأنا أعلم أنّ وصيّته حياة أبديّة: فما أقول إنّما أقول كما قاله لي أبي" (12: 44- 50). يسوع هو مرسل من قبل الآب، وما يقوله هو كلام الله، وكلام الحياة الأبديّة. وما يعمله هو عمل الله ويعطي الحياة الأبديّة. وهكذا نصل إلى موت المسيح وقيامته.

15- موت يسوع وقيامته: يسوع هو الطريق والحق والحياة
تبدأ رواية الآلام بغسل يسوع أرجل تلاميذه، علامة لتواضعه وعطاء ذاته الذي سيقوده إلى الموت من أجل حياة العالم. وهذا العمل الرمزيّ يحلّ في إنجيل يوحنّا محلّ ما يرويه الإزائيّون في عطاء يسوع ذاته في الخبز والخمر. والهدف واحد في كلا العلامتين: يُظهر يسوع لتلاميذه أنّ طريق الآلام التي يسلكها هي طريق الحياة. هذه الطريق هي طريق الله إلى الناس، وهي في الوقت عينه طريق الناس إلى الآب: "أنا الطريق والحق والحياة. فلا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي. فإذا كنتم تعرفوني عرفتم أبي أيضًا، بل تعرفونه منذ الآن وقد رأيتموه. فقال له فيلبس: يا ربّ، أرنا الآب وحسُبنا. فقال له يسوع: أنا معكم كلّ هذا الزمان، يا فيلبس، ولم تعرفني! إنّ من رآني رأى الآب. فلماذا تقول: أرنا الآب؟ أفلا تؤمن أنّي في الآب وأنّ الآب فيّ؟ إنّ الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عند نفسي، بل هو الآب المقيم فيّ يعمل أعماله" (14: 6- 11).
في هذا السياق عينه يعطي يسوع تلاميذه وصيّته التي بإمكانها أن تعطيهم الحياة: "إني أعطيكم وصيّة جديدة: أحبوا بعضكم بعضًا. ولكن كما أحببتكم أنا تحّبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا. فأذا أحببتم بعضكم عرف الجميع أنكم تلاميذي" (34:13-35). "كما أحببتكم أنا"، أي حتى الموت
(رج 15: 12-13). وسنجد صدى لهذه الوصيّة في قول يوحنا في رسالته الأولى: "نحن نعلم أنّنا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأنا نحبّ الإخوة. من لا يحبّ يثبت في الموت" (1 يو 3: 14).
ولمّا كان الآب يقيم في يسوع، يستطيع يسوع أن يعطي الحياة الأبدية، كما يؤكّد ذلك في صلاته الأخيرة: "يا أبت، قد أتت الساعة، فمجّد ابنك لكي يمجدّك ابنك، ويعطي، بما أوليته من سلطان على كلّ بشر، الحياة الأبديّة لجميع الذين أعطيتهم له. والحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك، ويعرفوا يسوع المسيح رسولك" (17: 1-3).
ولما مات يسوع، طعن أحد الجند جنبه بحربة، "فخرج للوقت دم وماء" (19: 34). الموت والدم هما علامة الموت، ولكنهما في الوقت عينه علامة الحياة التي أعطاها المسيح العالم بموته.
وقام المسيح، تاركًا في القبر الأكفان التي كان ملفوفًا بها جسده المائت والمنديل الذي كان على رأسه، على مثال العازر (20: 6-7). وتراءى حيًا لتلاميذه، "ونفخ فيهم وقال لهم: خذوا الروح القدس. من غفرتم خطاياهم غُفرت لهم، ومن أمسكتوها عليهم أمسكت" (20: 22). روح المسيح الذي يحيي الأجساد يحيي أيضًا النفوس المائتة بالخطيئة. وتراءى أخيرًا لتوما وقال له: لأنّك رأيتني آمنت: طوبى للذين لم يروا وآمنوا" (20: 29). والدعوة الأخيرة هي أيضًا للإيمان.

خلاصة
هكذا تبيّن لنا أنّ انجيل يوحنّا هو، من بدايته حتى نهايته، إنجيل الإيمان بأن يسوع هو الحياة، لأنّه هو النبيّ الذي أنبأ به موسى، وهو المسيح الذي تنبّأ عنه الأنبياء، وهو ابن البشر الذي أعلن عنه دانيال، وهو كلمة الله وابن الله، الذي كان منذ البدء مع الله، وكانت فيه منذ البدء الحياة، والذي أرسله الله إلى العالم بالجسد ليعطي الحياة لكلّ ذي جسد. ونراه في أثناء حياته على الأرض يمنح الحياة للناس. فيشفي ابن الضابط الملكي: "اذهب، فابنُك حيّ"، ويقيم المخلع: "قم، احمل فراشك وامش"، ويعيد حياة النفس للزانية: "اذهبي، ولا تعودي بعد إلى الخطيئة"، ويُحي لعازر الميت: دايا لعازر، هلمّ خارجًا!". ويقول للسامريّة: "أنا ماء الحياة"، ويقول قبل شفاء الأعمى: "ما دمتُ في العالم، فأنا نور العالم". ويقول لليهود: "أنا نور العالم، من تبعني فلا يمشي في الظلام، بل يكون له النور الذي يقود إلى الحياة"، ويقول للجموع: "أنا الخبز الحي"، ويقول لمرتا: "أنا القيامة والحياة"، ويقول لتلاميذه: "أنا الطريق والحق والحياة"، وأخيرًا يبذل حياته ويُدفن كحبّة الحنطة ثم يقوم مانحًا العالم الحياة.
وعندما أراد يوحنّا أن يكتب رسالته الأولى، أوجز في مطلعها شهادة انجيله كلّها. فعلى مثال انجيل يوحنا، تبدأ رسالته الأولى بالشهادة لظهور الحياة الإلهية في شخص يسوع المسيح: "إنّ ما كان من البدء، ما سمعناه، وما رأيناه بأعيننا، وما تأمّلناه وما لمسته أيدينا في شأن كلمة الحياة- لأنّ الحياة قد ظهرت، لقد رأيناها، ونشهد لها، ونبشِّركم بهذه الحياة التي كانت لدى الآب وظهرت لنا- إنّ ما رأيناه وسمعناه به نبشّركم أنتم أيضًا، لتكون لكم، أنتم أيضًا، شركة معنا. وشركتنا نحن، إنّما هي مع الآب ومع يسوع المسيح ابنه" (1 يو 1: 1-3). وتؤكّد الرسالة: "ها هي هذه الشهادة: أنّ الله أعطانا الحياة الأبديّة، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فله الحياة، ومن ليس له الابن فليس له الحياة" (1 يو 5: 11-12).
وينتهي آخر سفر من العهد الجديد، سفر الرؤيا، بتأكيد دور يسوع في منح الحياة: "وقال الجالس على العرش: ها إنّي أجعل كلّ شيء جديدًا... لقد تمّ. أنا الألف والياء، والمبدأ والغاية؛ أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجّانًا" (رؤ 21: 5-6). "ثم أراني نهر ماء الحياة صافيًا طاهرًا مقدّسًا من عرش الله والحمل" (رؤ 22: 1) أي من الآب، ومن الحمل، أي من يسوع المسيح الذي بذل ذاته لأجل حياة العالم. وعندما يصف المدينة السماويّة يقول: لألم أرَ فيها هيكلاً، فإن الربّ الإلهَ القدير والحمل هما هيكلُها. ولا حاجة للمدينة إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لإنّ مجد ألله ينيرها، والحمل مصباحها" (رؤ 21: 22-23). وهنا أيضًا، كما في مطلع الإنجيل، "الحياة هي نور الناس". وتنتهي الرؤيا بالروح والكنيسة يدعوان الناس إلى أن يأتوا إلى يسوع المسيح، حمل الله وعريس الكنيسة (رؤ:29:3)، ليستقوا منه ماء الحياة: "الروح والعرس يقولان: هلمّ! ومن سمع فليقل أيضًا: هلمّ! من كان عطشان فليأتِ، من شاء فليأخذ ماء الحياة، مجّانًا" (رؤ 17:22).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM