الفصل السادس والأربعون: خلاص الوثنيين

الفصل السادس والأربعون
خلاص الوثنيين في سفر الأعمال
أ- مقدمة
عرف القديس لوقا التاريخ الإنجيلي كما روته الكنيسة الأولى ودوّنه القديس مرقس، ولكنه رأى من الضروري أن يزيد أخباراً كوّنت موضوع الجزء الثاني (أو الكتاب الثاني) من مؤلّفه المقدَّم إلى "تيوفيلوس". فما كان هدفه حين قدّم لنا هذا الشيء الجديد؟ يتفق الشرّاح عامة على القول إن هدفه لم يكن تاريخياً محضاً: لم يهدف فقط إلى اللذة المجردة في رسم أصول الحركة المسيحية رسمة مليئة بالموضوعية. فهناك أسباب أخرى دفعت لوقا لينشر كتابه.
هناك شرّاح يبرزون الأسباب الدفاعية. قالوا، كتب لوقا لتيوفيلوس الذي كان موظفاً وثنياً، وتوجّه من خلاله إلى قراء وثنيين يؤثّرون على الرأي العام، فحاول أن يبرّئ المسيحية من اتهامات تلصق بها، وأن يبيّن أن المسيحية هي الوارثة الشرعية لليهودية. فيحق لها أن تنعم بما تنعم به ديانة إسرائيل من امتيازات. وفكر بعض هؤلاء في هدف مباشر: ألّف لوقا دفاعاً عن بولس، يمكنه أن يؤثّر على حكم المحكمة.
وهناك شرّاح يعتبرون أن أع موجّه إلى قرّاء مسيحيين. لهذا نراهم يشددون على الطابع التعليمي في الكتاب. لن نتكلّم عن نظرية تعداها الزمن، وهي تعتبر أن أع دوّن ليزيل كل اثر للتناقض بين نظرة بطرس ونظرة بولس. بل نفضل أن نرى في عمل لوقا كرازة تهدف إلى تكميل التعليم الديني لدى المؤمنين. وقالوا: وُجدت الأسباب الدفاعية بجانب الهدف التعليمي، فكان تأثير متبادل.
سنحاول أن نجمع الإشارات التي تدل على المعنى الذي نسبه لوقا إلى خبره والذي يهتمّ بأن يوصله إلى القارئ. وهناك ترتيب المواد. ومن الواضح أن تصميم الكتاب يعطينا معلومات ثمينة عن هدف كتابه. من هنا أهمية إدراك البُعد الدقيق للكتاب. لقد استقى لوقا الأطر العامة في خبره من رسمة جغرافية. في القسم الأول، تحدّث عن رسالة يسوع في الجليل، ثم السفر من الجليل إلى أورشليم، وأخيراً أحداث أورشليم. لا شك في أننا أمام ترتيب مصطنع: حافظ القسم الجليلي على تناسقه بفضل ما أهمله لوقا من أمور (لا يتكلّم لوقا عن سفرة يسوع إلى بلاد صور مع عودة عبر ديكابوليس والمدن العشر، مر 7: 24، 31، لا يحدد لوقا في 9: 18 مكان حدث قيصرية فيليبس، مر 8: 26) أو نقله من مكان إلى آخر (حادثة الناصرة في 4: 16- 30؛ رج مر 6: 1- 6؛ مت 13: 54- 58). أما قسم الصعود إلى أورشليم فنعرفه، لا من مضمونه، بل من ثلاث آيات أقحمها لوقا في خبره (لو 9: 51؛ 13: 22؛ 17: 11). ونهاية الإنجيل تبقينا في أورشليم. تحذف كل إشارة إلى الظهورات الجليلية (قال مر 16: 7: "اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: هو يسبقكم إلى الجليل، وهناك ترونه كما قال لكم؛ رج مت 28: 7. أما لو 24: 6 فقال: "اذكرن كلامه لكنّ وهو في الجليل").
ونجد رسمة الكتاب الثاني في أع 1: 8: "ستكونون لي شهوداً في أورشليم، في اليهودية كلها وفي السامرة، وحتى أقاصي الأرض". وفي الواقع، إن الفصول الأولى تعني الكرازة الرسولية في أورشليم. ويبيّن قسم ثان امتدادها إلى السامرة والسهل الساحلي، ثم تجذّرها في أنطاكية. وانطلقت الرحلات البولسية من أنطاكية إلى حوض بحر إيجه. ثم تتوجّه الأنظار إلى رومة بعد 19: 21 (رج 23: 11؛ 27: 24. يُذكر سفر بولس 3 مرات إلى رومة، كما يذكر سفر يسوع 3 مرات إلى أورشليم) وحين يصل بولس (أو الكلمة) إلى رومة، ينتهي أع بسرعة.
هي رسمة جغرافية وليست فقط جغرافية (تحدّث بعضهم عن مراحل لاهوتية). فأورشليم التي يهتم بها لوقا اهتماماً خاصاً هي المدينة المقدسة التي فيها تتمّ النبوءات. وهي تتضمّن هكذا مدلولاً لاهوتياً. امتدت المسيحية تدريجياً من أورشليم إلى رومة، فلم يكن امتدادها فقط جغرافياً: هناك انتقال من العالم اليهودي إلى العالم الوثني. هذا لم يهم لوقا بصورة رئيسية. فهو يشدّد بصورة واضحة على أن تبشير الوثنيين ليس وليد الصدف. لقد أراده الله تحقيقاً للنبوءات التي تُعلن أن المسيح سيحمل الخلاص إلى الأمم الوثنية. إذن، تبشير الوثنيين جزء لا يتجزأ من البرنامج الذي خصّت به الكتب المقدسة المسيح. هذا هو السبب الذي لأجله زاد لوقا على خبر حياة يسوع خبر "أعمال" الرسل: لولا هذه الأعمال، لظل عمل الخلاص الذي صوّرته النبوءات المسيحانية غير كامل. وهكذا يبدو التاريخ الذي رواه أع مضمّخاً باللاهوت.
هذا ما سنبيّنه مستندين إلى المقاطع التي تدلّنا على فكرة لوقا حين دوّن خبره. سنتوقّف بصورة خاصة عند المقدمة والخاتمة، فنرى المنظار اللاهوتي الذي يعطي هذا التاريخ بُعده العميق.
ب- خاتمة أع ومقدمة لو
هناك أسلوب أدبي واحد يميّز نهاية الكتابين الموجّهين إلى تيوفيلوس. أولاً، في الإنجيل: خاتمة احتفالية يكوّنها إعلان يسوع القائم من الموت (لو 24: 44- 49). في أع: إعلان بولس، سجين المسيح (أع 28: 25- 28). ثانياً، خاتمة الإنجيل (لو 24: 50- 53) تصوّر موقف الرسل الذين ينتظرون مجيء الروح: نفحة الفرح والتقوى تجعل خاتمة لو تتوافق مع بداية أع. وخاتمة أع (28: 30- 31) تميّز وضع بولس حين كان سجيناً في رومة وتنهي الكتاب في جو الانتصار. وتنتهي الخاتمتان في مناخ بنَّاء. من جهة تنظيم مؤلف لوقا، لا نستطيع أن ننسب إلى هاتين الخاتمتين أهمية شبيهة بإعلانات يسوع وبولس الكبرى. سنتوقّف الآن عند خاتمة أع، ثم نعود إلى خاتمة لو.
يتألف إعلان بولس إلى يهود رومة من إيراد كبير مأخوذ من أش 6: 9- 10. يلاحظ بولس أن رسالته (كرسالة النبي) أدت إلى عمى شعب نقصه الفهم الروحي فلم يتعرّف إلى ضرورة الارتداد (أع 28: 25- 27). ويزيد (وهذا هو ذروة كلامه): "اعلموا إذن، أن الله أرسل خلاصه إلى الوثنيين: هم سيستمعون إليه" (أع 28: 28). رذل شعب إسرائيل تعليم الخلاص، فحُمل هذا التعليم إلى الأمم الوثنية (إلى الوثنيين). يستعمل بولس عبارة "خلاص الله هذا". من أين جاء بهذه العبارة التي لا تعود إلى أش 6. هنا نقرب بين نهاية أع وبداية لو.
يبدأ الإنجيل، حسب فكرة الكنيسة الأولى، مع معمودية يوحنا. اتّبع مرقس هذا السياق، أما سائر الإنجيليون فعادوا إلى ما قبل. ألّف يوحنا مطلع إنجيله، وتحدّث متى ولوقا عن ظروف ولادة يسوع. ولكنهم يعرفون (ولوقا أولهم) أن رسالة يوحنا المعمدان هي البداية الحقيقية للإنجيل. هذا ما يذكّرنا به مرتين أع: بمناسبة اختيار متيا (1: 22) وفي ملخص لحياة يسوع (10: 37؛ رج 1: 1). جعل لوقا قبل هذه البداية توطئه طويلة، فشدّد على الزمن الحاسم بالطريقة الاحتفالية التي بها بدأ إنجيله. أولاً: ألّف لوحة زمنية كبيرة (لو 3: 1- 2) تحدّد موقع التاريخ الإنجيلي بالنسبة إلى التاريخ العام. ثم زاد إيراداً من أش 40: 3- 5 يضع الخبر في منظار لاهوتي (لو 3: 4- 6). ونحن سنتوقف عند نصّ أش هذا.
نلاحظ أولاً أن لوقا أورد أش 40: 3 فلم يختلف عن مرقس (1: 3) ولا عن متى (3: 3). ثم إن الإزائيين الثلاثة يقدّمون النص في الشكل عينه: "صوت صارخ في البرية: هيّئوا طريق الرب. مهّدوا سبله". ليست الألفاظ المذكورة هنا هي الموجودة في التوراة: "مهدوا سبل إلهنا" (حسب النص المأسوري ونص السبعينية. في الترجوم: "مهدوا السبل أمام جماعة إلهنا"). وضع الإنجيليون الضمير (سبله بدل سبل إلهنا)، فربطوا النص النبوي بتفسير كرستولوجي: إن يوحنا يهيئ مجيء الرب الذي هو يسوع المسيح، لا طريق الله نفسه، طريق الآب. إن لوقا يتبع في هذا المجال تقليدا معروفاً.
ولكن لوقا يتفرّد حين يمدّ إيراد أش حتى آ 5. بهذا يعمل عملاً شخصياً، ويكشف عن نظرته الخاصة إلى التاريخ. واليك آ 5: "كل بشر، كل جسد يرى خلاص (سوتيريون) الله". حين يتكلّم العهد الجديد عن الخلاص يستعمل صيغة المؤنث (سوتيريا) لا صيغة الحياد (سوتيريون). فنحن لا نجد صيغة الحياد إلا 4 مرات في كل العهد الجديد: مرة في أف 3:2 وثلاث مرات عند لوقا (لو 2: 30 التي تلمح إلى أش 40: 5؛ لوقا 3: 6؛ أع 28: 28).
تفرّد لوقا بإيراد أش 40: 5، كما تفرّد بجعل خبر الأعمال الرسولية في امتداد الخبر الإنجيلي. وحين ينهي مؤلفه بكلمات "أرسل خلاص الله إلى الأمم الوثنية"، نجد في هذه العبارة تذكيراً بخلاص الله الذي سيتجلّى لكل بشر، أي لليهود كما للوثنيين.
حين وضع لوقا أش 40: 5 في رأس الخبر الإنجيلي، وحين استقى خاتمة كتابه من كلمات تذكر هذا النص، أظهر فكرته وهي: إن خلاص الله يتجلّى لجميع البشر.
ج- خاتمة لو وبداية أع
قسم لوقا مؤلّفه إلى كتابين (أو جزأين). لهذا لن نبحث عن هدفه فقط في بداية لو (الكتاب الأول) ونهاية أع (الكتاب الثاني)، بل في خاتمة لو وفي بداية أع. إن هذين المقطعين يرتبطان ببعضهما ارتباطاً عميقاً، وينير الواحد الاخر.
إن خاتمة الإنجيل، كما قلنا، مؤلّفة من تعليمات أعطاها يسوع المنبعث إلى رسله قبل أن يتركهم (لو 24: 44- 49). يبدأ فيفهمهم الأسفار المقدسة: "إنها تعنيه ويجب أن تتمّ". ويعود تعليم النبوءات المسيحانية إلى ثلاث نقاط: "هكذا كُتب أن على المسيح أن يتألم، ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، وتعلن باسمه بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع الأمم ابتداء من أورشليم" (آ 46- 47). ثم يعطي يسوع رسله الذين هم شهود هذه الأمور، أمراً بأن ينتظروا في أورشليم مجيء الروح القدس (آ 48- 49).
تستند شروح آ 46- 47 إلى الأسفار المقدسة، فلا عجب إن أشارت الكلمات المختارة للحديث عن الآلام والقيامة، إلى نصوص محدّدة (أش 53: 4؛ هو 6: 2). أما بشارة التوبة (ميتانويا) المعلنة لكل الأمم فهي لا ترتبط مباشرة بنص محدّد. نحن أمام برنامج سيَروي أع كيف سيتحقّق.
يتوجّه لوقا في مقدمة أع إلى تيوفيلوس الذي يهدي إليه كتابه. فيبدأ حسب العادات الحسنة بأن يذكر بإيجاز مضمون الكتاب (أو الجزء) الذي أنهاه (أع 1: 1- 2). وبعد هذا يعلن موضوع الكتاب (الجزء) الثاني. ولكن ذكر الأحداث السابقة يمتّد بحيث ينسى الكاتب القسم الثاني من الجملة. ولكن هذا التعدي على القواعد الغراماطيقية سيعوّض علينا شيئاً آخر: سيرسم يسوع بنفسه برنامج أع في آ 8: "ستنالون قوة، قوة الروح القدس الذي يحل عليكم. حينئذ تكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض". ترسم هذه الآية المراحل الكبرى لانتشار الرسالة، وتقدّم الإطار العام الذي فيه ينظّم لوقا خبره.
إذا قابلنا مقدمة أع مع خاتمة لو، وجدناها أنها أوضح لأنها لا تميّز فقط حقبتين في الكرازة الرسولية (كل الأمم ابتداءً من أورشليم)، بل أربع حقبات: أورشليم، اليهودية، السامرة، أقاصي الأرض الإشارات الثلاث الأولى واضحة، وهي تدل على نقاط جغرافية محدّدة. ويمكننا أن نقول الشيء عينه إذا دلت "أقاصي الأرض" على رومة حيث ينتهي خبر أع. قد تدل العبارة على هذا المعنى من وجهة اليهودي العائش في فلسطين. ولكن يبدو غريباً أن يحتفظ بها لوقا، وهو مواطن الإمبراطورية، حين يتوجه إلى تيوفيلوس والى قرّاء يونانيين ورومانيين لن يفهموا أنه إن وصل التعليم الإنجيلي إلى رومة فهذا يعني أنه وصل إلى أقاصي الأرض.
وهناك حديث عن "أقاصي الأرض" في خطبة بولس الرسولية الأولى (13: 46- 47). سيساعدنا هذا المقطع على إدراك السبب الذي لأجله استعمل لوقا في 1: 8 عبارة قد لا يفهمها قراؤه. فنهاية خطبة بولس في مجمع أنطاكية بسيدية، تشبه الإعلان الذي به ينهي كرازته ليهود رومة (وهذا ما يشكّل خاتمة أع): إذن، هي فكرة يهتمّ بها لوقا اهتماماً خاصاً. هنا أيضاً يبدأ بولس بتحذير يتّخذه من نص نبوي: إن إيراد حب 1: 5 يلعب الدور الذي لعبه أش 6: 9- 10 في أع 28: 26- 27. إنه يعلن أنه سيتوجّه إلى الأمم. كانت فكرته أوضح مما في 28: 28 فعاد إلى أش 49: 6: "كان يجب أن نبشرّكم أنتم أولاً بكلمة الله. ولكنكم رفضتموها فحكمتم أنكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبدية. ولذلك نتوجّه الآن إلى الوثنيين. فالرب أوصانا هكذا فقال: جعلتك نوراً للأمم (الوثنية) لتحمل. الخلاص إلى أقاصي الأرض" (13: 46- 47).
يدلّ هذا النص أن عبارة "أقاصي الأرض" لا تُفهم فقط في معنى جغرافي. تجاه أورشليم التي هي "مدينة الملك العظيم" (مز 47: 3؛ رج مت 5: 35) ومركز عبادة الإله الحقيقي، تمثّل أقاصي الأرض الأمم الوثنية. من هنا الموازاة: "جعلتك نور الأمم الوثنية لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض". هذا الكلام الذي يجعلنا في إطار ديني محض، يتيح لنا أن ندرك الموازاة بين إعلان الإنجيل إلى كل الأمم الوثنية (لو 24: 47)، وبين إعلان الشهادة الرسولية "حتى أقاصي الأرض" (أع 1: 8). إن انتشار المسيحية إلى أقاصي الأرض، ليس فقط انتشارا جغرافياً. إنه يتضمّن عبوراً من عالم اليهود إلى عالم الوثنيين. إن رومة عاصمة العالم الوثني تقع حقاً في أقاصي الأرض لأسباب دينية لا لأسباب جغرافية.
ولكي يصل التعليم إلى أقاصي الأرض، لا يكفي أن يُكرز به في كل مكان، بل يجب أن يُعلن على الوثنيين لتتم حقاً النبوءات المسيحانية. فآلام يسوع وقيامته ليست كل عمل المسيح. فيجب على بولس أن يعلن الخلاص للأمم وان يحمل التعليم الإنجيلي إلى رومة (المدينة التي تسود على الأمم) لتتم النبوءات. بهذا يبدو خبر أع التتمة الضرورية للتاريخ الإنجيلي: إن عبور المسيحية من أورشليم إلى أقاصي الأرض يتم تحقيق البرنامج الذي عيّنته للمسيح النبوءات المسيحانية.
د- خطبة الناصرة وخطبة العنصرة
حين أردنا أن نشرح مقدمة أع، عدنا إلى أولى خطب بولس (وخاصة الخاتمة)، فلاحظنا التشابه بين إعلانات بولس ليهود أنطاكية بسيدية وإعلاناته ليهود رومة في خاتمة كتابه. وهذا يبرز الأهمية التي يعلّقها لوقا على خطبة ف 13 التي هي برنامج حقيقي لكرازة بولس لليهود. وبعد أن يحذر بولس اليهود، يتوجّه إلى الوثنيين لكي تتم النبوءات. ما لاحظناه في كرازة بولس، يوجّه انتباهنا إلى خطب أخرى يجعل منها لوقا برنامجاً للأشخاص الرئيسيين الذين يتحدث عنهم: الخطبة الأولى ليسوع في مجمع الناصرة، الخطبة الأولى لبطرس يوم العنصرة. فخاتمة كل من هذه الخطب متقاربة مع بعضها ومع خاتمة أع ولو.
وضع لو في بداية حياة يسوع العلنية خطبة هي برنامج. هذا ما فعله متى حين قدم "عظة الجبل". لم يحتفظ متى إلا بالإشارات الضرورية لفهم الوضع تاركاً إلى ما بعد أحداثاً جعلها مرقس في بداية الرسالة الجليلية. أغنى الخطبة التي وصلت إليه، فضمّ مواد أخذها من أطر أخرى. وهكذا شكلت خطبة الجبل عند متى لوحة كاملة عن مثال الحياة المسيحية التي يقدّمها يسوع.
أما خطبة السهل عند لوقا (6: 20- 49) فلم تكن لها الأهمية عينها بالنسبة إلى الخبر. فخطبة الناصرة (لو 4: 16- 30) هي البرنامج. قام لوقا ببعض التحويلات ليبرز حدث مجمع الناصرة وإعلانات يسوع في تلك المناسبة. فأهمية هذا المقطع تجعلنا نفكّر أن له مدلوله لفهم الكتاب كله.
تبدأ خطبة الناصرة بإعلان مسيحاني. قرأ يسوع قول أش 61: 1- 2: "روح الرب عليّ: مسحني وأرسلني لأحمل البشارة إلى المساكين". ويزيد يسوع: "لقد تمّت هذه النبوءة". إذاً يقدم نفسه بطريقة واضحة كالمسيح مخلّص التعساء الذي أنبأ به أشعيا. بدأ أهل الناصرة يجادلون لأنهم لم يصّدقوا. هذا الموقف يشبه موقف اليهود (في أع) الذين رفضوا تعليم بولس في أنطاكية بسيدية (13: 45) وكورنتوس (18: 6) ورومة (28: 24- 25). حينئذ تكّلم يسوع، فعاد إلى مقطعين من كتاب الملوك: منح النبي إيليا إنعام الله إلى أرملة في صرفت صيدا (1 مل 17). وشفى النبي أليشاع نعمان السوري من برصه (2 مل 5). كانت الأرامل عديدات في إسرائيل وكذا كان البرص. ولكن حسنات الله توجّهت إلى الغرباء.
ما هو بُعد هذه الشروح؟ هناك أولاً بُعد مباشر في الإطار الذي وردت فيه: إنحسد معاصرو يسوع من معجزات اجترحها في كفرناحوم، فأجابهم عائداً إلى مثل إيليا وأليشاع اللذين عملا المعجزات للغرباء. ولكن الجدال يتوسّع. ففي القرينة العامة لمؤلّف لوقا، يتخذ برهان يسوع مدلولاً أعمق: هناك إسرائيل وهناك رجل سوري وامرأة فينيقية. إذن، هناك إسرائيل وهناك الأمم. فمثل إيليا وأليشاع اللذين منحا إنعام الله للوثنيين يجعلنا نرى مسبقاً أن رسالة الخلاص التي رفضها مواطنو يسوع ستنتقل إلى الوثنيين، وحدث الناصرة يدل مسبقا على ما سيحدث في أنطاكية بسيدية وفي رومة. ما فعله بولس حين توجّه إلى الوثنيين، يجد ما يبرّره في ما فعل إيليا وأليشاع.
وتتوجّه أولى خطب بطرس (أع 2: 14- 40) إلى الشعب الذي جمعته معجزة العنصرة. تألّف هذا الشعب من يهود ودخلاء (آ 11)، أي أناس أتقياء جاؤوا من كل أمة تحت السماء (آ 5). لم يحن الوقت بعد ليتحدّث أع عن الوثنيين. ولكن هذا لا يمنع لوقا من أن يعبّر عن سروره حين يعدّد الأمم الممثلة هنا: الفراتيون، المادايون، العيلاميون، سكان بلاد الرافدين، سكان اليهودية، سكان كبادوكية (آ 9- 11). وهذا التشديد على جميع الأمم التي شاهدت المعجزة بواسطة ممثّلينَ، يتضّمن خلفيّة رمزية. فعبر السامعين اليهود، يبشّر بطرس بشكل من الأشكال كل أمم الأرض.
ثم إن خاتمة الخطبة هي قريبة من خاتمة خطبة يسوع في الناصرة وخطبة بولس في كل من أنطاكية بسيدية ورومة. أعلن بطرس: "الوعد لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين بقدر ما يدعو منهم الرب إلهنا" (آ 39) تعود الكلمات الأخيرة إلى يوء 3: 5 الذي ورد في آ 21: "كل من يدعو باسم الرب يخلص. لأنه سيكون مخلصون على جبل صهيون وفي أورشليم، كما يقول الرب. وسيكون مؤنجلون (نالوا الإنجيل أو البشارة) يدعوهم الرب". يقول يوئيل: الذين هم على صهيون وفي أورشليم. فيوضح بطرس: أنتم وأبناؤكم وجميع البعيدين. ولكن تبدّل الأفق، ورافق هذا التحول استعمال عبارة متأثرة بنص أش 57: 19: وعد سلام للذين هم بعيدون وللذين هم قريبون. تورد أف 2: 13 النص وتماثل البعيدين مع الوثنيين والقريبين مع اليهود. وهناك تلميح إلى النص في أع، والى تفسيره المسيحي في مقطع يتحدث فيه بولس عما رآه في الهيكل. أمره الرب أن يترك أورشليم وقال له: "سأرسلك إلى الأمم، إلى البعيد" (22: 21). وهكذا فعبارة 2: 39 "البعيدون" تقابل "انتم وأبناؤكم" وتدل على الوثنيين، لاسيّما الذين يدعوهم الرب.
ويتأكد هذا التفسير إذا قرّبنا بين نهاية خطبة بطرس الأولى ونهاية خطبته الثانية: "أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عقده الله مع آبائنا حين قال لإبراهيم: بنسلك تتبارك كل شعوب الأرض. فلكم أولاً أقام الله فتاه (أو عبده) وأرسله ليبارككم" (3: 25- 26). تتحقق البركة المعطاة لإبراهيم بالمسيح القائم من الموت. ويوضح بطرس: تحقّق أولاً لكم. وهذا "أولاً" يفترض "ثانياً". فالقرينة تدل بوضوح على المعنى: "في نسلك (أي في إسرائيل) تتبارك كل شعوب الأرض". البركة هي أولاً لإسرائيل، وثانياَ لكل شعوب الأرض. وقد يجد هذا الشرح سنداً في مقطع من أع تظهر فيه كلمة "أولاً": "كان يجب أن نبشركم أنتم أولاً بكلمة الله. بما أنكم رفضتموها نتوجّه إلى الوثنيين" (13: 46- 47).
إذاً، تنتهي خطبتا بطرس الأوليان بتوسيع في الأفق يوصلنا إلى تبشير الأمم الوثنية.
هـ- بطرس وضابط قيصرية (كورنيليوس)
بعد أن تحدثنا عن أولى خطب بطرس، يبدو من المفروض أن نتطلّع إلى آخر إعلان له قبل أن يترك مسرح الأحداث. ففي 15: 7- 11، خلال مجمع أورشليم، سيتخذ بطرس موقفاً بالنسبة إلى قبول الوثنيين (غير المختونين) في الكنيسة. في الواقع، أبرز تدخل بطرس العبرة التي استخلصها من خبر ارتداد كورنيليوس، ضابط قيصرية. إن لوقا ينسب أهمية كبيرة إلى هذا الحدث في كتابه: يتوسّع فيه توسعاً طويلاً (48 آية في ف 10، 18 آية في ف 11، وذكره في 15: 7- 9، 15- 18) ويجعل من كورنيليوس أول وثني ينضم إلى الجماعة المسيحية. فكما أن وصول بولس إلى رومة وكرازته للوثنيين في عاصمة الامبراطورية، يشكلان نهاية مسيرته الرسولية، كذلك يشكل عماد كورنيليوس نهاية مسيرة بطرس الرسولية: بعد هذا التدخّل الحاسم، لم يبق لبطرس إلا أن يختفي ويترك الساحة لبولس.
إن مداخلة بطرس في مجمع أورشليم، تجعل من عماد كورنيليوس حالة نموذجية: "منذ الأيام الأولى، اختارني الله من بينكم ليسمع الوثنيون من فمي كلمة البشارة ويؤمنوا" (15: 7). كان بطرس أول من حمل الإنجيل إلى الوثنيين: لا إلى وثني واحد، بل إلى الوثنيين إجمالاً. وقد تصرّف هكذا بفضل تدخّل من قبل الله الذي أوضح إرادته حين جدّد معجزة العنصرة للوثنيين: "والله الذي يعرف ما في القلوب، شهد على رضاه عنهم، فوهب لهم الروح القدس كما وهبه لنا" (15: 8). إن الله يلغي كل تفريق بين اليهود والأمم (15: 9). إنه يريد خلاص هؤلاء وأولئك "بنعمة الرب يسوع" (15: 11). وقدّم بولس وبرنابا شهادتهما (15 : 12)، كما قدّم يعقوب شهادة الأنبياء (15: 14- 18). وهكذا، كان حدث ضابط قيصرية أساس حلّ يوافق على نشاط بولس الرسولي. فتح بطرس أبواب الكنيسة للوثنيين، فدخل بولس في هذه الأبواب وأدخل معه العالم الوثني.
إن الأهمية التي أعطاها لوقا لارتداد كورنيليولس، لا تنفصل عن الدور الذي لعبه هذا الحدث في قرار أورشليم. في الواقع، إن الخبر الذي يورد هذا الارتداد ليس متناسقاً. فنحن نجد فيه مركزين متميزين.
أولاً، مسألة العلاقات بين اليهود والوثنيين. تشدّد عليها ملاحظة بطرس حين وصوله إلى بيت كورنيليوس: "تعرفون أن اليهودي لا يحل له أن يخالط أجنبياً (أو غريباً) أو يدخل بيته" (10: 28). وفي هذا الإطار، سيعاتب مسيحيو أورشليم بطرس: "لماذا دخلتَ إلى قوم غير مختونين وأكلت معهم" (11: 3)؟ طرحت المسألة بهذه الكلمات، فعنت قواعد الطهارة المفروضة على كل يهودي. وأوضح بطرس موقفه حين قال لكورنيليوس. "أراني الله أن لا أحسب أحدا من الناس نجساً أو دنساً" (10: 28). وهو بهذا يلمح إلى رؤيته قطعة قماش كبيرة عليها من كلٍ دواب الأرض... قال له الرب: "ما طهّره الله لا تعتبره أنت نجساً" (10: 15). برّر موقفه في أورشليم حين روى هذه الرؤية (11: 5- 10؛ رج 15: 9).
ثانياً، مسألة قبول الوثنيين في الكنيسة أدت بنا إلى مجمع أورشليم، كما أن المسألة الأولى أوصلتنا إلى حادث أنطاكية، غل 2: 11- 14. هنا، توقّف لوقا عند المقدمة والخاتمة في ف 11: "وسمع الرسل والإخوة في اليهودية أن الوثنيين قبلوا كلمة الله" (11: 1). "مجّدوا الإله وقالوا: أنعم الله، إذن، على الوثنيين أيضاً بالتوبة التي تقود إلى الحياة" (11: 18). وإن سؤال بطرس في 10: 47 يجعلنا في الوجهة عينها: "هل نستطيع أن نمنع ماء المعمودية عن الذين نالوا الروح القدس مثلنا" (رج 15: 1- 5، 7، 14، 16- 17)؟
يورد لوقا المسألة الأولى، ولكنه يتوقّف عند المسألة الثانية. فارتداد كورنيليوس ليس فقط حالة فردية. فعلى ضوء هذا الارتداد ستكتشف أورشليم مبدأ دخول الوثنيين إلى الكنيسة.
وستشدّد على أهمية الحدث خطبةٌ رسولية كبرى تبرز بُعده. منذ البداية يعلن بطرس: "أرى أن الله في الحقيقة لا يفضّل أحداً على أحد. فمن خافه من أية أمة كانت، وعمل الخير كان مقبولاً عنده" (10: 34- 35). ليس من الضروري أن يكون الإنسان من شعب إسرائيل ليرضي الله. فيسوع هو رب كل العالمين، رب كل البشر (10: 36؛ رج روم 10: 12). وفي الختام: "له يشهد جميع الأنبياء بأن كل (إنسان) من آمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (10: 43). إن أراد الإنسان أن يخلص، عليه أن يؤمن بالمسيح سواء كان يهودياً أو وثنياً (غير يهودي). هذا ما يبيّنه التعليم الذي أبرزه بطرس في مجمع أورشليم (15: 9- 11).
إن حدث قيصرية سيكرس دخول الوثنيين إلى الخلاص. ويشكل خطوة بها تتجاوز المسيحية حدود اليهودية. بعد هذا ستنطلق المسيحية لتصل إلى "أقاصي الأرض". وهذا ما سيتم بواسطة بولس. أما بطرس فترك الساحة بعد أن انتهى دوره.
و- رسول الأمم
اتخذ بطرس المنعطف الحاسم. فبقي على بولس أن يوصل تعليم الخلاص إلى أقاصي الأرض، أن يعلنه للوثنيين حتى في عاصمة العالم الوثني. في الواقع، وصلت المسيحية إلى رومة قبل وصول بولس. يشير 28: 15 إلى استقبال "الإخوة" لبولس.
إذا أردنا أن نحدّد الطريقة التي بها يتصوّر لوقا مهمة بولس، نتوقِّف عند ثلاث إشارات: رسالة بولس كما يحددها هو بنفسه في خاتمة آخر خطبة كبيرة له. رسالة بولس كما وصلت إليه حين دعاه الرب، حدث أثينة الذي يعتبروه لوقا ذروة رمزية في رسالة بولس.
1- كرازة بولس في رومة
لا نستطيع أن نسمي خطبة ما أورده لوقا من كرازة بولس في رومة. فهو يكتفي بأن يشير إلى الموضوع وأن يذكر الإعلان الذي يكوّن الخاتمة. أما خطبه بالمعنى الحصري فهي: خطبة مجمع أنطاكية بسيدية (تمثل كرازة بولس إلى اليهود). خطبة أثنية (تمثّل كرازته إلى محيط وثني). خطبة ميليتس (وصيّته الرعاوية). وأخيراً، ثلاثة دفاعات: أمام شعب أورشليم، أمام فيلكس، أمام الملك أغريبا. في هذه المناسبة الأخيرة، يقدّم لوقا خطبة اعتنى بتدبيجها عناية خاصة (26: 2- 23).
وفي نهاية هذه الخطبة أعطى بولس تحديداً لكرازته: استند إلى الكتب المقدسة فبيّن ثلاثة أمور: (1) على المسيح أن يتألّم (2) حين يقوم من بينِ الأموات (3) سيبشر شعب (إسرائيل) وسائر الشعوب الوثنية بالخلاص (آ 23). هنا نعود إلى آخر كلمات يسوع لرسله.: هذا ما كُتب: (1) أن المسيح يتألّم. (2) أنه يقوم في اليوم الثالث (3) أن باسمه تعلن بشارة التوبة إلى جميع الأمم الوثنية ابتداء من أورشليم (لو 24: 46- 47). الموازاة واضحة. إن كرازة بولس، شأنها شأن كرازة يسوع، تبرز "الآيات المسيحانية" التي تضمّنتها الكتب وتمّت في يسوع: الآلام، القيامة، الخلاص إلى كل الأمم. مات يسوع وقام. هاتان هما آيتان. أما الآية الثالثة، فنجد تمامها في رسالة بولس: به يتم عمل المسيح، به يتم تاريخ الخلاص.
2- طريق دمشق
تحوّل شاول على طريق دمشق من مضطهد إلى رسول للمسيح. كان هذا الحدث حاسما بالنسبة إلى مصير الكنيسة. ولقد رواه لوقا ثلاث مرات (9: 1- 19؛ 22: 5- 16؛ 26: 12- 18) فدلّ على أهميته.
تشدّد هذه الأخبار على الطابع الشامل للرسالة التي أوكل بها بولس. في 9: 15، يعلن يسوع لحنانيا الشيخ: "هذا الرجل هو لي إناء مختار. اخترته ليحمل (ليشهد) اسمي أمام الأمم الوثنية، أمام الملوك وبني إسرائيل". وفي 22: 15، قال حنانيا لبولس: "ستكون شاهداً له عند جميع الناس بما رأيت وسمعت". ظلت عبارة "جميع الناس" غامضة. وفي 23: 21، حين يقول الرسول بوضوح إن الرب أرسله إلى الأمم الوثنية، منعه سامعوه بصياحهم من أن يتابع خطبته. وفي 26: 17- 18، سيعلن يسوع مباشرة لبولس، ملمحاً إلى أر 1: 5- 8 وأش 42: 7، 16: "سأرسلك إلى الأمم الوثنية لتفتح عيونهم فيرجعوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله".
إن هذه الطريقة في تحديد رسالة بولس، تقابل ما كتب في غل 1: 16: "شاء الله أن يعلن ابنه فيّ لأبشر به بين الأمم". أجل، إن بولس تسلّم الدور الأول في أع: إنه الإناء الذي اختاره الله ليحمل تعليم الخلاص إلى الأمم الوثنية.
3- في أثينة
أثينة هي في وسط الطريق بين أورشليم ورومة. يكرّس لوقا 9 آيات لتسالونيكي، 18 آية لكورنتوس. ولكنه يحتفظ لأثينة 20 آية. ويقدّم فيها خطبة هامة لبولس. لم يعد لأثينة أهمية سياسية: صارت المدينة الجامعية ودماغ الفكر الوثني والمركز العقلي والديني الأهم في العالم اليوناني والروماني. لهذا رأى فيها لوقا نموذجاً ورمزاً. فتعليم الخلاص المعدّ لكل البشر، يجب أن يسمع من على هذا المنبر. أعطانا لوقا فكرة أولى عن كرازة بولس إلى محيط وثني لما كان في لسترة. وها هو يعطينا مثالاً كاملاً في أثينة.
تكلّم بولس أولاً أمام الفلاسفة الذين يمثّلون أهم المدارس في ذلك الوقت. ثم مثل أمام الأريوباج الذي يمثل لأثينة ما يمثله السنهدرين لأورشليم. الأريوباج (تلة تجتمع عليها السلطة، ثم السلطة) هو السلطة العليا التي تحكم على آراء الناس. لم يعد المجلس يجتمع على تلة الأريوباج، بل تحت الرواق الملكي حيث اتهم سقراط بإدخال آلهة جديدة إلى المدينة. وأشار لوقا إلى الموازاة: رأى الفلاسفة في بولس "مبشراً بآلهة غريبة" (17: 18)، فاجتذبوه إلى الأريوباج ودعوه لكي يوضح موقفه.
انطلق بولس من "الإله المجهول" الذي بنى له الأثينيون مذبحاً، فأعلن الإله الواحد. ثم توسّع في مواضيع معروفة من الدعاية اليهودية عن الإله الواحد في العالم الهليني. أولاً: انتقاد المعابد الوثنية: "الله الذي خلق الكون وكل ما فيه،. رب السماوات والأرض، لا يسكن في معابد بنتها أيدي البشر" (17: 24). ثانياً: انتقاد العبادة التي تقام في هذه الهياكل: "لا تخدمه أيدٍ بشرية، كما لو كان يحتاج إلى شيء" (17: 25). ثالثاً: انتقاد الأصنام أي التماثيل التي تُعبد في الهياكل: "يجب علينا أن لا نحسب الألوهية شكلاً صنعه الإنسان بفنه ومهارته من ذهب أو فضة أو حجر" (آ 29).
حينئذ تأتي الخاتمة التي تهمنا بطريقة مباشرة. فبعد الجو اليهودي (في عالم هلنستي)، يبرز الجو المسيحي: "وإذا كان الله غض نظره عن أزمنة الجهل، فهو الآن يدعو الناس كلهم في كل مكان إلى التوبة، لأنه وقَّت يوماً يدين فيه العالم كله بالعدل على يد رجل اختاره، وبرهن لجميع الناس عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات" (17: 30- 31). يتوجّه التعليم إلى كل البشر، في كل مكان. ما نقرأه في الخاتمة يذكرنا بما في البداية: "خلق البشر من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرض كلها" (17: 26). في البداية، هناك إنسان واحد يخرج منه كل الجنس البشري الموزعّ على وجه الأرض كلها. وفي نهاية الأزمنة، سيدان كل البشر بإنسان واحد أقامه الله من بين الأموات. نحن أمام مقابلة بين آدم (الأول) وآدم (الثاني)، وهذا ما يعطي طابع الشمول لتدبير الخلاص الذي دشنته قيامة المسيح. إن حدث الفصح الذي هو علامة سبّاقة للدينونة الأخيرة، يكوّن بُعدا شاملاً هو بعد خلق آدم، أبي الجنس البشري كله.
خاتمة
وهكذا نصل من خلال كل هذه النصوص إلى النتيجة عينها: حين ألف لوقا أع، بيّن أن تعليم الخلاص (إنجيل يسوع المسيح) ظهر "لكل بشر"، "وصل إلى أقاصي الأرض"، إن أفضال الله أعطيت أيضاً للغرباء. أجل إن الكرازة الرسولية توجّهت إلى العالم الوثني.
الوجهة التي وقف عندها الكاتب ليروي انتشار التعليم الإنجيلي، ليست وجهة المؤرخ فقط. ولا يكتفي بأن يورد الظروف التي دفعت الكنيسة الأولى لأن تتوسّع وسط الوثنيين. بل أراد أن يبيّن أن هذا الاتجاه الجديد (أراده الآب ووجّهه الروح القدس) يُتم النبوءات المسيحانية. إذاً للتاريخ الذي يكتبه لوقا مدلول لاهوتي: يسوع هو المسيح الذي وعد به الأنبياء: احتمل الموت وقام وعمل لكي تُعلن البشارة باسمه إلى كل الأمم الوثنية. أجل، يفهمنا أع أن الأسفار المقدسة تمّت فيما يتعلق بتبشير الوثنيين، بل هي تبرّر الرسالة المسيحية لدى الوثنيين كامتداد ضروري لعمل الخلاص الذي أنجزه يسوع المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM