الفصل الرابع والأربعون: الطريق في سفر الأعمال

الفصل الرابع والأربعون
الطريق في سفر الأعمال
"اضطهدت هذه الطرق... أنا يسوع الذي تضطهد" (22: 4، 8). استُعملت كلمة الطريق (أو المذهب مع العودة إلى فعل ذهب) (هودوس في اليونانية) في عدة مقاطع من أعمال، فلفتت نظر شرّاح الكتاب المقدس ومؤرّخي الديانة المسيحية. منهم من انطلق من كور 17:4 (يذكّركم بسيرتي في المسيح يسوع) و12: 31 (أنا أدلّكم على أفضل الطرق) فدرس في البيبليا كلها صورة الطريق في المعنى الرمزي. ومنهم من عرض المسيحية على أنها طريق توافق أعمال الرسل. وجاء من كتَبَ عن المحبة والمواهب منطلقاً من 1 كور
12: 31، فشدّد على معنى الطريق على ضوء استعمال الكلمة في التوراة وفي سفر الأعمال. هنا نود أن نتعرّف إلى الرباط بين كلمة "طريق" التي نجدها في خبرَيْ ارتداد بولس الأوّليَن، وبين إعلان يسوع الذي سبب هذا الارتداد والذي نجده في أخبار الارتداد الثلاثة: "أنا هو يسوع الذي تضطهده" (9: 5؛ 22: 2؛ 26: 15).
أ- استعمال كلمة "طريق"
لن نعجب إذا وجدنا أن كلمة "طريق" تُستعمل في إطار بولسي، وللمرة الأولى في خبر ارتداد رسول الأمم. ذهب بولس إلى دمشق يبحث عن الذين يتعلّقون "بالطريق" (أي طريق الرب يسوع) ليقودهم موثَقين إلى أورشليم (9: 2)، فعرف أن من يضطهده هو يسوع نفسه. في الخبر الثاني يتردّد فعل "اضطهد" مرتين. أما موضوع الاضطهاد فهو الطريق (22: 4: اضطهدت هذه الطريق. في 22: 8: أنا يسوع الناصري الذي تضطهده). ويشدّد الخبر الثالث على التماثل بين الطريق ويسوع، فيقول إن بولس أراد أن يحارب "اسم يسوع الناصري" فاضطهد الذين يسمّيهم النص "أصحاب الطريق". الطريق هي أسلوب حياة يميز الجماعة المسيحية عينها. وقد تعني كلمة الطريق الجماعة المسيحية كما نقرأ في 22: 4. فمن تبع هذه الطريق، خدم الرب كما يريد أن يُخدم (مت 22: 16: نعرف أنك تعلّم بالحق طريق الله). الطريق هي أسمى الأساليب في السلوك والحياة والعمل. قال أش 30: 21: "تسمع أذناك صوتاً يقول لك: هذا هو الطريق، فاسلكوا فيه". ولكن ستّتخذ الكلمة معنى ملموساً، فتدلّ على المسيحيين لأنهم يتبعون طريق الرب ("أرني يا رب طريقك، واهدني في سبيل مستقيم"، مز 27: 11)، يتبعون طريق الخلاص (16: 17: بولس وبرنابا يبشران بطريق الخلاص).
يؤكد خبر الارتداد الأول أن بولس لاحق الذين "يُدعون باسم يسوع" (9: 14، 21). في هذه الظروف، يكتشف لوقا بين "الطريق" ويسوع رباطاً لاهوتياً وأدبياً. ولا ننسى المكانة التي يحتلّها اسم يسوع الذي لا ينفصل عن شخصه (3: 16؛ رج 15: 26: "برنابا وبولس رجلان كرّسا حياتهما من أجل اسم ربنا يسوع المسيح. نشير إلى أن "اسم يسوع" يرد 35 مرة في أع و "يسوع" 46 مرة)، ويسوع المسيح والرب الذي يدلّ عادة على يسوع.
هنا نجد آراء مختلفة لدى الشرّاح، أراد ريبو أن يفسّر استعمال كلمة "هودوس" الطريق، فقال إن لوقا عاد إلى الطرق التي جال عليها يسوع خلال حياته على الأرض، عاد إلى رسالة قام بها على الطرقات كما سيفعل تلاميذه بعده. أما بوفون فاختار المعنى الاكليزيولوجي (أو الكنساني) لا المعنى الكرستولوجي (الذي يدل على يسوع المسيح)، قال: إن الطريق تعني الكنيسة أو أعضاء الكنيسة. أما براون فقال إن ما نقرأ في 9: 2 (أصحاب الطريق، تُبّاع الطريق أو المذهب) يساوي ما نقرأ في 12: 1 (بعض أعضاء الكنيسة). أما ليونيه اليسوعي فأراد أن يبيّن أن كلمة الطريق، لا تعود بنا إلى شخص يسوع كما كان يتجوّل في اليهودية أو لأنه أسّس جماعة. تعود كلمة طريق إلى يسوع على أنه القائم من بين الأموات. إنه يعيش في كل مؤمن، وهذا أمر خاص بالله وحده، كما يقول بولس في فل 3: 8- 11 شارحاً بما يقوم به التعلّق بالمسيحية. ثم هناك رباط أدبي بين الطريق والمسيح يعبّر عنه أع في الموازاة: اضطهدت هذه الطريق... أنا هو يسوع الذي تضطهده.
ب- معنى كلمة طريق
قبل أن نحدّد طبيعة هكذا الرباط بين الطريق ويسوع، نود أن نحدّد معنى كلمة "الطريق" كما تظهر وحدها في أع. قالت بيبليا أورشليم وهانشن: تعني الجماعة المسيحية. وقال اوستي: الكنيسة. ولكن هناك من يأخذ بالمعنى العادي: طريقة حياة وسلوك. وفي الواقع يتوافق هذا المعنى توافقاً كلياً مع نصوص أع. يتكلّم اوستي عن اليهود المرتبطين بالطريق أي الكنيسة (18: 25، 26؛ 19: 9، 23؛ 22: 4؛ 24: 14، 22). ولكنه يقول على 19: 23: الطريق أي قاعدة حياة، تعليم الرب واسم سام لديانة يسوع (9: 2؛ 19: 9؛ 22: 4؛ 24: 14- 22). وأخيراً يقول على 22: 4، الطريق هي كيفية خدمة الله كما دشّنها يسوع (رج 9: 2؛ 18: 25- 26؛ 19: 9، 23؛ 24: 14، 22). ونجد الملاحظة عينها على 2 بط 2: 2 (ستكون طريق الحق موضوع تجديف). وفي 24: 14، يحيلنا إلى 9: 2. تحدثت بيبليا أورشليم في الطبعة الأولى (1956) على 9: 2: الطريق هي أسلوب حياة يميّز الجماعة المسيحية. وبصورة غير مباشرة هي الجماعة نفسها. أما استعمال كلمة "الطريق" بصورة مطلقة (أي دون أن يكون هناك مضاف إليه، فأمر خاص بسفر الأعمال. أما في الطبعة الثانية فتدلّ الطريق (لا بطريقة مباشرة) على سلوك الإنسان وجماعة المؤمنين.
فان كان المسيحيون هم الذين يبحث عنهم بولس في 9: 2، فلأنهم "أصحاب هذه الطريق". إنه يعتبرهم وكأنهم جحدوا الديانة اليهودية. وهذا ما نقوله عن كل المقاطع التي يستعمل فيها أع الكلمة بصورة مطلقة: في 22: 4، يلاحق بولس أسلوب الحياة هذا ويضطهده. ويذكّرنا في غل 1: 13 أنه لم يرد فقط أن يدمّر كنيسة الله، بل أن يدمّر أيضاً الإيمان (1: 33: أي حياة تجد مركزها في الإيمان). وأسلوب الحياة هذا، تكلّم عليه بالسوء يهود أفسس أمام الجماعة كلها (9:19). وبمناسبة الحديث عن هذا النوع الخاص من الحياة الذي سمّاه جاكييه هنا "الحياة المسيحية"، حدثت غوغاء صاخبة (19: 23). وفي 24: 14 سمّى اليهود "بدعة" (أو هرطقة - هايراسيس) طريقة في خدمة الله دشنها يسوع. لسنا أمام بدعة من البدع، بل تفضيل لتعليم وسلوك أدبي. فبولس يتحدث في 26: 5 عن طريقة حياة (بيوسيس، من بيوس، حياة) مارسها قبل ارتداده كفريسي بحسب أكثر الاتجاهات صرامة في ديانتنا. ونحن أيضاً أمام طريقة بها نخدم الله في 24: 22، وفيلكس مطلع عليها كل الاطلاع.
وهكذا نصل إلى استنتاج أول: اعتبرت الديانة المسيحية تصرفاً أخلاقياً يفترض طريقة تفكير، ويكون في الوقت عينه طريقة عمل المسيحية. هذه الطريق هي ديانة المحبة لا ديانة الحقيقة. لهذا لا نقول "التعليم أو النظرة". وهناك من يقول إن طريق الرب ليست طريق الإنسان بل تصرّف الله ومخططه الخلاصي.
ج- ارتباط الطريق بأدب قمران
أن ترتبط هذه "الطريق" بيسوع، فأمر لا شكّ فيه. فيسوع علّمها، بل دشنها. وقد نتساءل: أما يجد بولس رباطاً أوثق بحيث إن من اضطهد هذه الطريق اضطهد يسوع؟
قبل أن نجيب على هذا التساؤل، يجب أن نعرف إذا كانت هذه الكلمة هي إيجاز لعبارة "طريق الرب" التي نجدها في 18: 25 (إختلافة: طريق يسوع). إن التقليد اللاتيني يقرأ في 18: 26: "الطريق". والشعبية تقرأ "طريق الرب" بدل "الطريق" في 19: 9، 23. وهذا يدل على أن التماثل بيت التعبيرين أمر قديم جداً. ثم إن تقريب 18: 26 (طريق الله) من 24: 22 (الطريق) مع الظرف "بدقة" يدلّ على أن تلك كانت فكرة لوقا.
في هذا المجال، يقدم الأدب القمراني كلاماً ثميناً في هذا المجال. فهو يتكلّم عن طريقة خاصة بالشيعة في ممارسة شريعة الله. ونجد الاستعمال المطلق للكلمة في وثيقة دمشق وهي موجز لعبارة خر 32: 8: حادوا عن الطريق التي رسمتُها لهم. ونجد الاستعمال المطلق أيضاً في المغارة الأولى مع ارتباط مباشر بالعبارة البيبلية التامة. بل نحن أمام إيراد واضح لنص أش 40: 3، وهو النص الذي يفتتح الخبر الإنجيلي (مر1: 3 وز): "ينفصلون عن الناس الأشرار ليذهبوا إلى البرية ليهيئوا طريق ذلك (أي: يهوه) كما قيل: هيئوا في البرية طريقاً لي... (أو هيئوا طريق...). أرسموا لإلهنا طريقاً مستقيماً في الفيافي". هذا هو البحث عن الشريعة وقد فرضه الله بواسطة موسى. ويذكر النص القمراني أيضاً "الذين يختارون الطريق" ويزيد: "سيحين الوقت لتهيئة الطريق في البرية". ثم يقول: "تلك قواعد الطريق التي أعطاها معلّم الحكمة في قلب هذه المراحل فيما يتعلّق بمحبة التلاميذ وبغضهم".
تحدّث النّص عن الذين يبتعدون عن الطريق، ويكرهون الشريعة. وعلّق أحد الشرّاح: الطريق هي طريقة خاصة. بالشيعة في ممارسة شريعة الله، كما في خر 32: 8 وتث 9: 16 (حدتم سريعاً عن الطريق التي رسمها الرب لكم).
د- طريق الرب
إذا كانت كلمة "الطريق" اختصاراً لعبارة "طريق الرب"، وجب علينا قبل كل شيء أن نحدّد معنى هذه العبارة التي قرأناها في أش 40: 3 والتي نجدها في عدة مقاطع من التوراة.
هناك ملاحظة أولى مهمة وإن كانت سلبية. نحن لا نستطيع أن نقول: الطريق التي تقود إلى الله (رج مت 22: 16؛ مر 12: 14: طريق الله. قالت الترجمة المسكونية الفرنسية على مت 22: 16: رسمها الله أو ربما تقود إلى الله). إن طريق الخلاص والحياة والحق والبر تعني الطريق التي تقود إلى الخلاص والحياة والحق والبر (أي التي تجعل الإنسان باراً) (مت 21: 32. شرحت بيبليا أورشليم: توافُق مع إرادة الله يجعل الانسان باراً). ونقول أيضاً إن طريق رومة تعني الطريق التي تقود إلى رومة. أما حين يكون المضاف إليه شخصاً (طريق بولس)، فنحن أمام الطريق التي يسير فيها هذا الشخص: طريق البار، طريق الشرير، طريق الأمم. وهذا ما نقوله عن طريق الرب أو طريق الله. فالصورة تدلّ دوماً على "مسيرته"، على "تصرّفه". حين يسير الله في مقدّمة شعبه ويقوده عبر البحر الأحمر والبرية (قض 5: 4: حين خرجت من سعير وانطلقت من فيافي موآب؛ مز 68: 8 ي: خرجت على رأس شعبك؟ خر 13: 21؛ 33: 9- 16)، أو حين يردّه من المنفى البابلي في طريق البرية، يطلب أش 40: 3 من مدن يهوذا أن تهيّئه (رج أش 40: 9 ي). هذا هو المعنى الحقيقي. وهناك أيضاً المعنى المجازي: كيف يقود الله الأحداث ويخلّص العالم؟ في الواقع يلتقي المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي بحيث ننتقل من الواحد إلى الآخر. مثلاً خر 34: 6 (الرب اله رحوم)؛ مز 103: 6- 8؛ أش 55: 3- 11.
لا شك في أن هناك استعمالاً آخر لا يشير إلى تصرّف الله بل إلى تصرّف الإنسان. فطريق الله ليست المصير الذي حدّده الله في نظام الوجود (خر 33: 13: عرّفني طريقك)، بل إرادة الله التي نتبعها في نظام الخير. إذاً نحن لا نأخذ المعنى الانطروبولوجي بل المعنى الديني. في الحالة الأولى نقوله إن "طريق الله لا عيب فيها" (مز 18: 31). ونطلب من الله أن يعرّفنا إلى طرقه وخلاصه (مز 67: 2). في هذا المعنى عينه يقول أم 8: 22 (حسب اليونانية): "الحكمة هي باكورة نشاطه أو طريقه". في الحالة الثانية نطلب من الله أن "يعلمنا طرقه ويوجّهنا في حقه" (مز 25: 4- 5)، أن "يقودنا في البر" (25: 9). إن طرق الرب هي شريعته فنقول: سار في طرق الرب (مز 119: 3) أو سار في شريعته (مز 119: 1).
وفي الحالتين نحن أمام الطريقة التي بها يتصرّف الله: والفرق الوحيد هو أن تصرّف الله هنا يُعتبر حسب أهم تقاليد العهد القديم والعهد الجديد، القاعدة الفضلى لتصرّف الإنسان (تصرّفاً أخلاقياً) المخلوق على صورة الله. ولا تسمّى هذه الطريق طريق الرب فقط لأن الله يأمر بها أو لأنها تقود إليه، بل لأنها الطريق التي يتبعها هو، لأنها طريقه. هذا هو معنى العبارة: الشريعة هي سبيل الإنسان الحقيقي. لأنها سبيل الله، ولهذا سمّيت بهذا الاسم. وقرأ احد الشرّاح إر 31: 34 (لا يعلّم بعد كل واحد قريبه...) فاكتشف أن هذا النشاط لدى الكائن الأخلاقي وهذا الالتزام في طريق الوصايا الذي تتضمنه معرفة الله (أعلن النبي هذه المعرفة كهدف العهد الجديد ونتيجته)، هما اقتداء بأخلاق الله. أجل، مثل هذا التصرف الجديد بدا لبولس قبل ارتداده (ولكل الذين وافقوا مثله على رجم اسطفانس، 8: 1) وكأنه جحود للعهد الموسوي.
هـ- الطريق والشريعة
فبالنسبة إلى اليهودية المعاصرة وبالأخص إلى الحركة الفريسية التي انتمى إليها بولس (23: 16؛ 26: 5؛ فل 3: 5)، صار الاقتداء بأعمال الله أمراً ملموساً في المحافظة الدقيقة على شريعة الله كما رتبها التقليد الموسوي وما بعد الموسوي. فبما أن العهد هو عطية الشريعة، فمن حفظ الشريعة اتّبع طريق الرب؟ أو (بعبارة أخرى): "سار في حضرة (أمام) الرب" (تك 17: 1) أو (بطريقة أفضل): "مشى معه بتواضع" (مي 6: 8). ولكن لم يتخيّل أحد أن يجد تصرف الإنسان نموذجاَ لتصرف الله، فيصبح الإنسان مثل الله.
ولكن هذا ما اعتبره المسيحيون (أصحاب الطريق) تصرّف يسوع الذي يعمل عمل الله. وفي هذا المعنى دشن يسوع هذه الطريق.
اختلف يسوع عن المعلّمين اليهود، فأدهش سامعيه حين كلّمهم بسلطان وكأنه يشارك الله في سلطانه. وفسّر شريعته المقوننة (مكتوبة كقانون) في الشريعة (الجدال حول السبت). إنه شاركه في سلطانه على الألم والموت كما فعل بعض الأنبياء، بل شاركه في سلطانه على الخطيئة فقالوا عنه: "إنه يجدّف. من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده" (مر 2: 7)؟ وفوق ذلك، تحدّث عن علاقة فريدة (بطريقة مطلقة) مع ذلك الذي سمّاه أباه بمعنى جديد فناداه “أبّـا” أيها الأب (مت 11: 25- 27 وز). وأعلن أمام قيافا مساواته مع الآب، وحُكم عليه بسبب هذا التجديف (مر 14: 62- 64). سمعنا من فم اسطفانس كلمات خطيرة حول الهيكل المصنوع بأيدٍ بشرية (أع 7: 48)، فتذكرنا الشكوى على يسوع (مر 14: 58) التي استندت إلى شهادة زور (مر 14: 57) منطلقة من تلميح يسوع إلى هيكل آخر سيبنيه (يو 2: 19).
وهكذا يتماثل تصرف يسوع مع تصرّف الله بحيث لم يكن للإنسان أن يتصوّره. وهذا يعني بالنسبة إلى القارئ المسيحي أن طريق الرب الذي نعدّه هو ذلك الذي تحدّث عنه أش40. لم نعد أمام عبارة انطروبومورفية (تشبّه الله بالإنسان) يحاول الترجوم أن يخفّف من حدتها فيقول: "اعدوا طريقاً في البرية أمام شعب الرب. مهّدوا الطرق أمام جماعة إلهنا. قل لمدن يهوذا: لقد أعلن مُلك إلهكم. هو الرب الذي كشف عن نفسه بقوة" (أش 40: 3، 9- 10). ولقد رأى الإنجيلي الذي عرف من هو يسوع أن النبي يشير إلى المسيرة التي يقوم بها الرب على رأس المنفيين، ولكن بطريقة حقيقية (إلى منتهى الحقيقة): فهو الإله الإنسان الذي سيحرّر البشرية من عبودية الخطيئة عبر كل سر حياته على الأرض ولاسيما عبر سره الفصحي (الموت، القيامة، عطية الروح).
فأصحاب الطريق التي دشّنها يسوع، يعتقدون أنه قام وصعد إلى السماء وهو يواصل "الطريق". هذا ما أعلن بطرس لكسيح لدة: "يا إينياس، شفاك يسوع المسيح: (9: 34). وقال لكسيح الباب الجميل في الهيكل: "باسم يسوع المسيح الناصري قُمْ وامشِ" (3: 6). وهكذا دلّ أعضاءَ المجلس على أنه "ما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص" (4: 12). بل أعلن بطريقة أوضح للمسيحيين المتهوّدين الذين يريدون أن يفرضوا على الوثنيين المرتدين حفظ الشريعة: نحن اليهود نؤمن أننا نخلص بنعمة الرب يسوع، لا بخضوعنا للشريعة (15: 9- 11).
و- الطريق والخلاص
ونخطو خطوة إلى الإمام. فما تحقّق في شخص يسوع، تحقّق أيضاً بطريقة مماثلة في كل مسيحي. فحدث العنصرة الذي حصل بعد الفصح بخمسين يوماً، والذي هو يوم يحتفل فيه اليهود بحدث سيناء وعطية الوصايا العشر، أفهم الذين ينتمون إلى العهد الجديد أن تصرف يسوع صار بعطية الروح مبدأ نشاطهم الروحي والأخلاقي، وان مسيرته كانت بشكل من الأشكال مسيرتهم بقدر ما يتركونه يعمل فيهم. لم يكونوا فقط "أبناء الله" في المعنى اليهودي، بل بفضل وحدة سرية مع الابن الوحيد الذي وهبهم الروح الذي يسمح لهم أن يتوجّهوا إلى الله ويدعوه "أباً"، بذلك الاسم الذي تلفّظت به شفتا يسوع فاندهش الرسل (مت 11: 25؛ لو 11: 2؛ غل 4: 6). والاحتفال بكسر الخبز الذي يتذكّرون فيه "العهد الجديد" على مثال يسوع، ذكّرهم أن أرميا شرح هذا العهد قائلاً: لم تعد شريعة الله مكتوبة فقط على ألواح من حجر، بل في قلوبهم، لا كقاعدة حياة بسيطة كما كانت الشريعة بالنسبة لليهود، بل مبدأ نشاط داخلي. ودلّتهم العنصرة أن حزقيال لم يخطئ حين ماثل بين "الشريعة" وروح الرب: "أضع روحي في أحشائكم، فأجعلكم تسلكون حسب شرائعي" (حز 36: 27). وهذه المسيرة، هذه الطريق (هودوس) وهذا الأسلوب في الحياة (قال أر 32: 29: "أعطيهم قلباً واحداً وطريقاً واحدة أو طريقة تصرف واحدة) الذي هو أسلوب الإنسان، قد صار أسلوب الله في معنى عبّر عنه بولس: “لست أنا الذي يحيا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 20). لم يعد يُطلب منهم أن يحفظوا شريعة تُفرض عليهم من الخارج، بل أن يتركوا روح الحب يعمل فيهم حسب تعليم العبادة الوحيدة التي يحتفلون بها: "كلوا هذا الخبز الذي هو جسدي. اشربوا من هذه الكأس التي هي العهد الجديد بدمي" (1 كور 11: 24- 25). أما شريعته (وصيته الجديدة) فهي: "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم" (يو 13: 34).
وهذه الشريعة تشكّل هذا العهد الجديد كما شكّلت عطية الوصايا العشر (ديكالوغ) عهد سيناء. ولم يعد الأمر يقوم بأن نقتدي بشخص كما نقتدي بقديس أو ببطل من الأبطال، بل أن نتقبّل بالحقيقة عطية الله نفسه بالمسيح في الروح.
مثل هذه "الطريق"، مثل هذا التصرّف، بدا لبولس وكأنه يُحِلّ شيئاً آخر محل الشريعة التي هي أداة عهد الله مع شعبه. أجل، أحلّوا شخص المسيح نفسه. هذا ما قاله لأهل فيلبي (غل 3: 7- 14) حين ذكّرهم كيف كان ارتداده: أحلّ محلّ بر اعتبره خاصاً به بفضل ممارسته للشريعة، براً آخر من نوع مختلف، وصل إليه بفضل نشاط شخص آخر مات وقام. وهذا البر ينبع من الإيمان وحده، ويرفض كل اكتفاء ذاتي (روم 3: 27). ففعل الإيمان يجعل الإنسان يقر بعجزه الجذري ويؤكّد أن الله هو الذي يفعل لا الإنسان.
ولم يخطئ الوالي فستوس حين لخّص للملك أغريبا ما فهمه من جدال بولس مع اليهود: "رجل مات اسمه يسوع، وبولس يزعم أنه حي" (25: 19). لا حي "في السماء" فقط، بل في كنيسته، وفي قلب كل مؤمن يعتبر بأن الديانة تقوم بأن نسير كما سار يسوع، أو بالأحرى أن نترك يسوع نفسه يسير فينا كما سار في بولس الذي عاش فيه يسوع (غل 2: 20). فمن اضطهد هذه المسيرة اضطهد بالمعنى الحرفي يسوع نفسه.
إذن عاد المسيحيون إلى العهد القديم، وفهموه على ضوء وحي المسيح، فتحدثوا عن نظرتهم إلى طريق الرب. هم لم يعودوا إلى قمران الذي لا يشير إلى المسيح وسيط التبرير والخلاص. ففي قمران تقوم طريق الرب بممارسة دقيقة للشريعة الموسوية، والإعداد لهذا الطريق يكمن في طلب الشريعة. لقد بيّن قمران أن استعمال "الطريق" بصورة مطلقة وكإيجاز لعبارة "طريق الرب"، لم يدهش معاصري أع كما لا ندهش نحن من الحديث عن "الكلمة" (يتحدث أع عن "الكلمة" أو "كلمة الله، "كلمة الرب": 4: 4؛ 6: 4؛ 8: 4... وهنا 11 مثلاً زاد فيها الناسخون "الله أو الرب" على لفظة كلمة المستعملة بطريقة مطلقة). أو عن الاسم (5: 41؛ 3 يو 7) الذي هو اسم يسوع المسيح (رج لا 24: 11 حيث يستعمل الاسم بجانب "اسم يهوه" في آ 16). لقد كتب الشهداء المسيحيون (في ليون من أعمال فرنسا) أن الجاحدين أداروا ظهرهم للإيمان "فجدّفوا على الطريق"، وهم بهذا ساروا على خطى أع الذي تحدّث عن أهل أفسس المتكلمين بالسوء على الطريق (أي على مذهب الرب) (19: 9) أو عن أولئك المسيحيين الذين كان بولس يحاول أن يدفعهم إلى التجديف على اسم يسوع فيجبرهم على التخلي عن الطريق، عن طريقة حياتهم على خطى المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM