الفصل السابع والثلاثون: خطبة أنطاكية

الفصل السابع والثلاثون
خطبة أنطاكية بسيدية على ضوء الكتب المقدسة 13: 32- 37
يتمّ التفسير المدراشي الجديد للكتاب المقدس بأن نُسقط على النص ضوءين: الأول ضوء الحدث التاريخي، وهو يسوع المسيح. هذا ما تحدّثنا عنه في فصل سابق. يبقى الضوء الثاني الذي نعالجه في هذا الفصل: ضوء الكتب المقدّسة.
فبعد أن قدّم الواعظ خبر الأحداث المعاصرة المتعلّقة بيسوع وموته وقيامته (آ 26- 31)، تابع: "ونحن أيضاً نعلن لكم هذه البشرى: فالوعد الذي صنعه الله لآبائنا قد تمّ لنا حقاً، نحن أبناءهم، حين أقام يسوع (من بين الأموات) كما كُتب" (آ 32- 33 أ). فالتأكيد الذي يفتتح المقطع (آ 32- 33) يعني إذن تحقيق الوعد الداودي في حديث قيامة يسوع "كما كتب". ومقاطع الكتاب الثلاثة الواردة فيما بعد (مز 2: 7؛ أش 55 : 23؛ مز 16: 10)، وإن قدّمت على أنها شهادة للقيامة، إلا أن تتوخّى أن ترينا أن الوعد قد تحقق الآن. هي تشهد لحدث القيامة وتلقي على نص 2 صم 7 ضوءاً جديداً يتيح لنا أن ندرك فيه مدلولاً ظلّ خفياً حتى الآن.
هذا المقطع المركزي في الخطبة (آ 32- 37) يبدو بشكل برهان كتابي على القيامة التي تتسجّل بصورة أعمق في مسيرة البرهان بأن الوعد الداودي قد تمّ في يسوع الذي قام من بين الأموات.
أ- مز 2: 7 (آ 33): أنت ابني، أنا اليوم ولدتك
نتوقف أولاً عند المضمون الذي اتخذه هذا النص في التقليد اليهودي الديني، ثم نتساءل عمّا حمل من غنى في خط معنى الخطبة.
1- مضمون النص
يرد مز 2: 7 ب (أنت ابني، أنا اليوم ولدتك) في آ 33 من خطبة أنطاكية ليشهد على قيامة يسوع، وعبرها على الوعد المسيحاني في 2 صم 7. وبصورة أدق، إن التلميح اللفظي (هويوس، الابن) في 2 صم 7: 14 يشهد على أن واعظ سفر الأعمال يفكّر بالوعد بصورة خاصة: "أكون له أباً ويكون لي ابناً" (2 صم 7: 14). فوظيفة مز 2: 7 في الخطبة هي أن تساعدنا على فهم شيء مهم وهو: إن قيامة يسوع تحُقق تحقيقاً كاملاً بُعد الوعد هذا الذي هو إعلان أعطاه الرب بأن يجعل من المسيح ابنه. وهكذا سنتساءل عن الرباط بين هذا المزمور ونص الوعد الداودي.
المزمور الثاني هو مزمور ملوكي. والمرتّل الذي ألفه انطلق من طقس حول ملك هو ابن الإله المحلي، فقدّم صورة مثالية ونبوية لممسوح يهوه. أو هو أراد فقط أن يتذكر ملكاً تاريخيا. مهما يكن من أمر، فما هو أكيد هو أن هذا المزمور استعمل في ليتورجيا تتعلق بتتويج الملك (يُعلن السلطان الذي ناله الملك، في المعبد). من هنا يبرز مدلولا آ 7- 8 بشكل عام. فالآية 7 تدل على أن ابن داود، يوم تنصيبه ملكاً، يدخل في علاقة خاصة مع الله، أي إن الله "يلده" كما لو كان ابنه. وتُعطى متضمّنات بنوة الملك الإلهية هذه في آ 8: "سلني فأعطيك الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً لك". إذن، ينال الملك في يوم تنصيبه السلطان أن يحكم لحساب الرب. وهذه القدرة بأن يقود الأمم كوكيل لله، هي علاقة البنوّة التي يدخل فيها الملك. إذن، لا نستطيع أن نفصل مدلول آ 7 عن مدلول آ 8. هما تتكاملان فتدلاّن لا على الوجود فقط، بل على الفعل أيضاً. الملك هو ابن الله، وله القدرة أن يفعل بحسب هذا السلطان.
ونلاحظ في نص 2 صم 7 توالي الأفكار عينها: وعد البنوّة يُعطى للملك الداودي (آ 14). ثم تأكيدات الله بأنه لن يسحب رضاه عنه، بأن ملكه سيثبت إلى الأبد (آ 15- 16). إذن، انضمّت فكرة البنوّة إلى فكرة القدرة الخارقة بأن يملك بنعمة الله (وبالتالي باسمه). ومز 89 الذي هو استعادة لبنوّة 2 صم 7، يعبّر في آيتين متعاقبتين عن العلاقة الضمنية عينها بين نداء الملك إلى بنوّة فريدة وتقبّل قدرة خارقة على كل الذين يحيطون به: "يدعوني: أنت أبي، إلهي وخالقي ومخلّصي. وهكذا أجعله البكر والعليّ بين ملوك الأرض" (آ 27- 28). إذن، نحن هنا أيضاً أمام تأوين للوعد الداودي بالنسبة إلى سامع يهودي في القرن الأول المسيحي.
إن مز 2: 7 هو قريب من 2 صم 7: 14، ولكنه لا يكتفي بأن يردّده، بل هو يتجاوزه تجاوزاً بعيداً. وسيأتي التقليد (ترجوم 2 صم 7: 14) ويخفف من قوة الوعد بالبنوة كما في قولة ناتان: "سأكون له مثل أب، وسيكون لي مثل ابن". أما قرار مز 2: 7 فواضح وقاطع: يؤكد الله أنه لن يتصّرف فقط كأب تجاه الملك. بل إنه "ولده"، جعله ابنه، تبنّاه. وهكذا تلقي هذه الآية في المزمور الثاني ضوءاً على الخطبة المدراشية، فتُبرز مدلولاً أعمق لنص الوعد في 2 صم 7: 14.
والتقليد اليهودي اللاحق سيفسّر تفسيراً مسيحانياً مز 2 كما فسّر 2 صم 7. فالمزمور السابع عشر من مزامير سليمان الذي دوّن في القرن الأول ق. م. والذي يفسّر 2 صم 7 تفسيراً مسيحانياً، يستعمل ذات الكلمات الواردة في مز 2: 9 ليصوّر النشاط المقبل للملك المسيحاني. وسيطبّق الأدب الراباني في المعنى عينه المزمور الثاني على المسيح الآتي. من الواضح أن مز 2 قُرئ في إطار انتظار مسيحاني فتكيّف معه كل التكيف واتخذ فيه مدلولاً أعمق: فقرار آ 7- 9 يدلّ على المثال النبوي، وينطبق بصورة خاصة على الملك المسيح الأسكاتولوجي.
إذا وضعنا بعض النصوص جانباً، نستغرب أن لا تكون آ 7 واردة في النصوص الرابانية ومطبقة على المسيح. فهم يفضلّون آ 8- 9 اللتين تتحدّثان عن سلطان وقوة الملك، عن عمله في تحطيم الأعداء المذكورين مع المسيح. لهذا أعلن بعض الشرّاح بأننا لا نستطيع أن نؤكّد أن مز 2: 7 طبّق على المسيح في زمن العهد الجديد. وقال آخرون: طُبّقت عبارة ابن الله على الملائكة وإسرائيل والملك، ولكننا لا نجد نصاً أكيداً يشهد أن المسيح سُمّي "ابن الله" في العالم اليهودي السابق لعهد الرسل. وهكذا نفهم الطريق الجديدة التي فتحها الرسول. كما يبدو أن وعد مز 2: 7 طبِّق على الحياة الدائمة وبالتالي على القيامة.
2- مدلول النص في التعليم المسيحي
أولاً: البرهان
وهكذا استطاع الواعظ المسيحي أن ينطلق من واقع، وهو أن مز 2 ارتدى مدلولاً مسيحانياً في نظر معاصريه، وأن آ 7- 8 كانتا موفقتين لتوضيح الوعد الداودي في 2 صم 7 ولإبراز المتضمّنات الخفية. واستطاع أن يفترض أيضاً أن عودة إلى قرار الرب "أنت ابني" (مز 2: 7) تدلّ في وسط يهودي على القدرة الخارقة الممنوحة للمسيح، وهي قدرة ارتبطت ارتباطاً حميماً بالوعد بالبنوّة. فهل نستطيع انطلاقا من هذه الفرضيات أن نحدّد دور استشهاد مز 2: 7 في البرهان الذي تقدمه العظة من أجل إيصال المعنى المسيحي، من أجل الكلام عن قيامة؟
لا بدّ من إيضاح البرهان الذي تتضمنه آ 33 على الشكل التالي.
* حسب أسلوب مدراشي، لا يورد الواعظ من مز 2 إلا الآية التي تساعده على ربط اللفظة بنص 2 صم 7. وهكذا دلّ على أنه يريد أن يقرّب بين النصين الكتابيين. ودلّ أيضاً على أن السياق يهمّه من أجل التقارب اللفظي. وهذا واضح بالنسبة إلى المقطع الذي يلي مباشرة الآية الواردة من مز 2، لأنه ضروري لفهم هذه الآية فهماً كاملا: "اطلبْ فأعطيك الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً" (آ 8). وإن النسخة الغربية لسفر الأعمال تورد آ 8 أيضاً على إثر آ 7، فتدلّ على طريقة قديمة في فهم الاستشهاد الذي نجده في أع 13: 33.
* فُهِمَ مز 2: 7- 8 وفُسّر في العالم اليهودي على أنه يعلن مجيء المسيح بقوة. فحين يسمع مؤمن يهودي من القرن الأول ب. م القرار عن البنوّة (آ 7)، فهو يفكر في السلطان الموعود به للمسيح. ولفظة "ابن" تعني "ابن مع قدرة" أي ملك للمسيح في المجد. وهو يرى أن مجيء المسيح الممجَّد يقدر وحده أن يحقّق وعد مز 2: 7 و2 صم 7: 14. ونحن هنا أما تولية ملوكية خاصة. وإدخال الملك في بنوّة يهوه، يعني أن ننسب له مجدا وقدرة مسيحانية تتجاوزان ما لكل ملوك الأرض.
*استطاع الواعظ المسيحي أن يقرّب مز 2: 7 من حدث القيامة الذي يحقّق وعد المزمور بأبعد مما يتصوّره إنسان. فإن واجهنا هذا الحدث مع المزمور رأينا أنه يكشف كل الكشف عن حقيقته: حدث مجيد، مجيء المسيح في المجد. وهكذا يدل حدث القيامة على حقيقة إعلان مز 2: 7، كما أن مز 2: 7 يلقي بضوئه على بُعد هذا الحدث. وبعبارة أخرى، يلعب الاستشهاد في مز 2: 7 دورين.
- الدور الأول. إنه يشهد لحدث القيامة (وبالتالي لكيان يسوع المسيحاني) أمام اليهود. لأن القيامة هي حدث مجيد يتجاوب تجاوباً كلياً مع إعلان مز 2: 7. ولكن لا بدّ من فهم طبيعة هذه الشهادة من النمط المدراشي: هذا يعني أن التحقق يتجاوز فهم النص الكتابي كما كان لدى الناس. فحين كشف الحدث عن المدلول الخفي للكتب المقدسة، أعطاها أن تشهد له الشهادة الكاملة.
- الدور الثاني. إنه يلقي ضوءاً على حدث القيامة. ففي نظر المسيحيين أنفسهم (لا في نظر اليهود وحدهم)، يرينا النص الكتابي أن قيامة يسوع هي تمجيد. ففي القيامة يصبح المسيح "ابن الله بالقدرة" (روم 1: 4) وينال لقبا مجيداً، لقب "الرب" (أع 2: 36).
تحدّثنا عن ضوء الكتب المقدسة على الحدث. فلا بدّ من الحديث عن الضوء الذي يلقيه الحدث على الكتب المقدسة. نحن أمام إضاءة متبادلة لا تكوّن مسألة صعبة للمعتادين على الأسلوب المدراشي.
ثانياً: نصوص موازية
يتخذ مز 2: 7 في إطار خطبة مسيحية في أنطاكية مدلولاً خاصاً: إنه يعلن يسوع أنه "ابن بالقدرة" أي مسيح نال في حدث القيامة السلطان على الكون كله. وهكذا تشتمل هذه الآية المزمورية تأكيداً متضمناً بأن قيامة يسوع مرتبطة ارتباطاً حميماً بارتفاعه وتمجيده.
فبرهان الخطبة الرسالية كما أوضحناه، يفترض فهماً للبنوّة يتضمّن قدرة الابن وسيادته. إذن كان من الأهمية بمكان أن يتثبّت مدلول مز 2: 7 بأكثر ما يكون من المتانة.
لهذا، فنظرة إلى النصوص الموازية تساعدنا على ذلك. وهي مهمة من أجل المدلول المسيحي الذي يعطيه لهذا النص مُرسَلٌ يعلِن الإيمان الجديد. إن خطبة بطرس الأولى وخطبة بولس في أنطاكية بسيدية تقدّمان بالشكل عينه البرهان الكتابي القائل بأن يسوع القائم من الموت هو حقاً المسيح الداودي الموعود به. ولكن بولس يستند أيضاً إلى مز 16. أما بطرس فيعود إلى مز 110: 1: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك“. يؤكّد هذا الإيراد على سيادة يسوع على الكون. حين أقام الله يسوع "جعله رباً ومسيحاً" (2: 36). وفي المعنى عينه، "ولد" الله يسوع في القيامة فجعله "ابنه" ومنحه القدرة (13: 33). نحن في هاتين الخطبتين أمام كرستولوجيا فصحية في جوهرها، ومضمون البرهان والتعليم هو هو. ولكن توضح في خطبة بطرس (2: 33) مضمون "التجديد"، فكان نقطة انطلاق لبرهان عن القيامة (آ 33- 35). أما في خطبة بولس، فظل المضمون متضمناً، ولكنه كان ضرورياً لفهم البرهان الكتابي.
نشير هنا إلى أن لو 3: 22 ب يورد أيضاً مز 2: 7 (في مخطوطات كبرى): "أنت أبني، أنا اليوم ولدتك". كما نقرأ في لو 1: 32- 33 عن يسوع ابن الله في ارتباطه بالوعد الداودي في 2 صم 7. وترد الآية المزمورية أيضا في عب 1: 5؛ 5: 5 (سلطان دائم) وفي روم 1: 3- 4.
نستطيع القول إن مز 2: 7 (إعلان بنوّة المسيح) قد فهمه الكتّاب المسيحيون عن بنوّة يسوع بالقدرة، وطبقوّه على ارتفاع المسيح الممجَّد كنتيجة لقيامته. هذا المدلول قديم جداً في الوعي المسيحي. ولهذا لا نتعجّب إن عاد إليه الواعظ في تقديم برهانه في وسط يهودي، على أنه شهادة كتابية رفيعة لقيامة يسوع ومسيحانيته.
ب- مز 16: 10: لن تترك قدوسك ينال منه الفساد
إن الشهادة الكتابية الثانية التي يقدّمها صاحب الخطبة في برهانه على قيامة يسوع، هي مز 16: 10: "لن تترك قدوسك ينال منه (يعرف) الفساد". وتسبق هذه الآية آيةٌ أخرى مأخوذة من أش 55: 3 : "سأعطيكم الأمور (البركات) المقدسة الأكيدة (التي وعدت بها) داود". هاتان الآيتان هما شاهدان عن الله الذي أقام يسوع من بين الأموات (آ 34 أ). ولكن من الواضح أن مز 16: 10 هو المرجع الرئيسي، وأن عليه يرتكز البرهان.
يُعرَض إعلان القيامة في آ 34 في عبارة تتفوّق صياغة عمّا في آ 33 التي ذكرت مز 2: 7: "أن يكون الله أقامه من بين الأموات دون رجوع ممكن إلى الفساد، فهذا وارد في قوله". ويتحدّث مز 16: 10 نحن "عدم الفساد". فبعد أن أورد الكاتب نص المزمور، لاحظ أن داود "عرف الفساد" (آ 36). أما "الذي أقامه الله، فما عرف (نال منه) الفساد" (آ 37). إن كلمة "ديافتورا" (فساد- تفكك) التي تعود في هذه الآيات الأربع هي الكلمة الأساسية في كل هذا المقطع. والمقطع هو برهان مدراشي (درس وتعليق على نص كتابي) على مز 16: 10.
يرد مز 16 في خطبة بطرس الأولى (2: 24- 31) ويرد في خطبة بولس كتبرير كتابي لقيامة يسوع على أنها لا عودة إلى الفساد (آ 34). يموت الإنسان فيعود إلى التراب (تك 3: 19). يتفكّك ويعرف الفساد. مرّ يسوع في الموت، فسقط في قبضة قوى التدمير، ولكن الله لم يسمح لهذه القوى بأن تعمل عملها. لقد حرّر الله يسوع تحريراً نهائياً من قدرة التفكيك التي يتمتع بها الموت. حرّره من الموت نفسه. وبكلمات مماثلة: "أقامه من بين الأموات" (آ 34).
إذن، استُعمِل مز 16: 10 ليدّل على القيامة التي هي تحرّر من قوى الموت التي خضع لها يسوع أولاً. ما معنى هذه الآية في العالم اليهودي الديني، وإلى أي شيء استند الواعظ المسيحي في برهانه لكي يقدّم لسامعيه مدلولاً جديداً؟
1- في العالم اليهودي
يبدو مز 16 مزمور ثقة بالله في وقت المرض. إن المرتل متأكد أن مخاوفه من الموت لن تتحقّق. ويعبرّ عن يقينه في آ 9 ب- 10: "جسدي سيرتاح في الرجاء بأنك لا تترك حياتي في الشيول (عالم الموتى)، ولا تدع تقيّك يرى الهاوية". لا تعبر هذه الآية في الأصل العبري عن رجاء بأننا لا نموت. كما لا تدل على يقين بأننا سنقوم من الموت. إنها تعكس فقط أمل المرنم بأن لا يرى الموت المبكر، وبأن ينال من الله سنوات عديدة يعيش فيها على الأرض. غير أن هذا المزمور يسمح بتوسّع في خط رجاء حياة تدوم. لقد اختار المرنم الرب. وواقعية إيمانه ومتطلّبات الحياة الروحية تتضمّن حياة حميمة لا انفصال فيها عنه. إذن، عليه أن يفلت من الموت الذي يفصله عن ربه. هذا ما يطلبه.
إن برهان الخطبة الرسولية (ف 2 و13) يستند إلى الترجمة اليونانية. "رأى الهاوية" صار "رأى الفساد". وهذه الترجمة السبعينية هي بالأحرى تفسير للمزمور. فموضوع الأمل ليس بأن لا نموت قريباً، بل بأن ننجو من الفساد التابع للموت. وهذا الأمل بعدم الفساد بعد الموت (عبارة غامضة) يهيئ الطريق لإعلان القيامة من عالم الموتى.
تحدّث تلمود بابل عن سبعة أشخاص لم يعرفوا الفساد: إبراهيم، إسحق، يعقوب، موسى، هارون، مريم، بنيامين. ثم زاد: داود. وهنا يرد مز 16: 10 في نسخته العبرية. ونتساءل: إذا كان داود عرف عدم الفساد، كما يقول التقليد اليهودي، فهل اتخذ مز 16 منحى مسيحياً؟ تعود الكتابات الرابانية إلى آ 2، 5، 11 وتقرأها في إطار اسكاتولوجي. ولكن آ 10 لا ترد في الأدب اليهودي، ولا تطبَّق على المسيح. والسؤال المطروح حول عدم فساد داود، لم ينتقل إلى شخص المسيح الذي هو داود الجديد الآتي.
2- مدلول المزمور في التعليم المسيحي
يستند الواعظ المسيحي إلى مز 16: 10 ليبيّن أن يسوع نجا من الفساد المرتبط بالموت، وهذا ما دلت عليه قيامته، وهو حقاً المسيح المنتظر. وهذا المدلول المعطى لهذه الآية (وعد باللافساد للمسيح) هو جديد في الوسط اليهودي، وإن وُجد بعض انتظار في التقليد اليهودي. تحدّثنا عن "عدم فساد داود" كما في التلمود، وقد عرفته الكنيسة الأولى واستفاد منه بطرس (ف 2) وبولس (ف 13).
رسمة البرهان بسيطة في الخطبتين. ينطلق الخطيب من فكرة تقول بأن آ 10 تحمل وعداً بعدم الفساد بعد الموت. هل يعني هذا الوعد داود صاحب المزامير؟ الجواب هو كلا. فداود "مات ودُفن" وما زال الناس يكرّمون مدفنه في أورشليم (2: 29). عرف مصير جميع البشر، "عرف الفساد" (13: 36). ولكن أتكشِفُ لنا هذه الآية أن هذا الوعد تم في يسوع، كما يدلّ على ذلك حدث القيامة؟ هذا يعني أن يسوع بعد أن عرف الموت "ووُضع في قبر" (13: 29)، لم يعرف الفساد (13: 37). إذن، نستطيع أن نستنتج أن المزمور "أعلن مسبقاً قيامة المسيح" (2: 31)، وأن يسوع هو "المسيح" (2: 36).
نجد هذا البرهان في خطوطه الرئيسية عند بطرس وعند بولس، وإن كانت خطبة بطرس أكثر وضوحاً وأكثر اتساعاً من خطبة بولس. ما نكتشفه للوهلة الأولى هو مدلول جديد لنص مز 16: 10. فعبارة: "لا تترك قدوسك يعرف الفساد" صارت، "سيقيم المسيح الآتي، ابن داود". بل نحن أمام مفهوم جديد للوعد الداودي الذي اتخذ شكله النهائي شيئاً فشيئاً: فالإعلان النبوي "أقيم لك نسلاً إلى الأبد" (2 صم 7: 12)، الذي طبّقه التقليد على المسيح، يقال الآن في تعابير غنية جداً: "أقيم المسيح ابن داود من بين الأموات". فنبوءات الكتاب المقدس تلتقي في مدلولها العميق، في مدلولها المسيحاني في شخص يسوع الناصري.
قرأ التقليد اليهودي مز 16: 10 فشدّد على اللافساد لا على القيامة. فالمدلول الجديد المعطى لهذه الآية (قيامة المسيح، 2: 31؛ 13: 34) ليس مجرد نتيجة برهان دقيق ينطلق من نصوص كتابية تلتقي بعضها ببعض. فإن كانت الاستشهادات الكتابية تتكامل لتوجّه أنظارنا باتجاه قيامة المسيح فهي لا تكفي لتخرج هذا المدلول الجديد بمجرّد تصادمها بعضها ببعض. فما يشرف على التفسير النهائي للمزمور 16 هو مواجهة مع حدث الفصح الذي يلقي بنوره على النص ويبرزه إبرازاً جديداً يتجاوز النية الأولى للذي قاله وللذين فسرّوه فيما بعد.
هنا نقول ما قلناه عن مز 2: 7 وأع 13: 33: الحدث يضيء على النص الكتابي، والنص الكتابي يضيء على الحدث. الحدث يكشف المدلول الخفي للنص الكتابي: فواقع قيامة يسوع من بين الأموات، وهو واقع يشهد له الرسل (13: 30- 31)، يرينا أن وعد مز 16: 10 لا يشير فقط إلى لا فساد داود عبر الموت، بل هو إعلان خفي لقيامة المسيح الذي هو ابن داود الآتي.
ولكن نص المزمور يشهد بدوره لقيامة يسوع ويلقي بضوئه على بُعدها. فالمزمور تنبّأ عن لا فساد لم يتحقق في شخص داود. ولكنه سيجد تتمَّته في داود الجديد. فحدث قيامة يسوع يتجاوب بصورة سامية مع إعلان المزمور، وإليه يشير الكتاب المقدس بصورة خفية. وإذ يشهد المقطع الكتابي للحدث، فهو يدلّ على أن لقيامة يسوع بعداً واقعياً ننظر إليه على أنه "لا عودة إلى الفساد" (13: 34).
وهكذا، فالمدلول الجديد والثاني لنص الكتاب لا يلغي مدلوله الأول، بل يتعاطف معه ليقوده إلى تجاوز نفسه.
ج- أش 55: 3 (آ 34): "سأعطيكم البركات المقدسة الأكيدة التي وعدت بها داود".
يبقى أن نتوقف عند أش 55: 3 الذي دخل في البرهان حول عدم الفساد. بعضهم يرى أن نص أشعيا هو برهان كتابي عن القيامة، شأنه شأن مز 16: 10. وآخرون، وهم الأكثرية، يفسّرون نص أشعيا كبرهان عن القيامة على ضوء مز 16 الذي يليه. أما نحن فنرى في المزمور البرهان الرئيسي. والعودة إلى أشعيا هي رفد ثانوي يكمّل المزمور. يبقى أن نفسّر نص أشعيا.
1- المبادئ الأساسية
كيف تفسَّر النصوص الأساسية في العهد القديم؟ توضَع في إطار إجمالي ولا يُنظر إليها كجُمل منعزلة. فالتلميح إلى المقطع الأساسي في 2 صم 7، يتحدّد موقعه في إطار النبوءة، بل في إطار تفسيراتها المتعاقبة في التقليد اليهودي. فالبرهانان الكتابيان الكبيران اللذان استعملهما الخطيب ليحفل النص الأساسي مدلولاً جديداً (قيامة المسيح الداودي)، يجب أن نفهمهما في علاقة وثيقة مع الإطار المباشر للآيات الواردة (آ 8 من أجل آ 7 في مز 2؛ آ 8- 11 من أجل آ 10 في مز 16). فماذا نقول الآن عن النص الكتابي الأخير (أش 55: 3) الذي اختير حسب نهج راباني معروف هو توارد الألفاظ مع مز 16: 10؟ إن معناه يتضح في الإطار الجديد (مع غيره من إيرادات) أكثر منه في قرائنه الأصلية. إذن، لا نحدّد معنى أش 55: 3 انطلاقاً من نص أشعيا ولا من النص العبري، بل مع سائر النصوص المذكورة والتي تدلّ على قيامة المسيح.
2- طريقة الاقتراب
حدّدنا أسلوب تفسير آية أشعيا ولكن بشكل سلبي. يبقى أن نحدّد طريقة الاقتراب منها بشكل إيجابي. فهي ستأخذ بعين الاعتبار الشكل الأدبي للخطبة (وشكل تقديم البرهان) وعناصر الآية البارزة في القرائن وفي بنية الخطبة. الطريقة هي برهان بالقياس.
أجل نحن أمام برهان مدراشي لا عقلاني. نلاحظ أولاً الأداة التي تربط آ 34 مع آ 35، فنظنّ أننا أمام برهانين مرتبطين ومستقلين: "لهذا قال أيضاً في مقطع آخر". إن عناصر البرهنة هي جزء من كل، وكل جزء يستضيء بالآخر ويكفله. المهم هو معنى المجموعة. هنا يأتي البرهان بالقياس فيُفسر مقطعاً غامضاً بمقطع آخر يبدو مدلوله واضحاً. هذه الطريقة استعملت في آ 34- 35. فالإيراد الثاني (مز 16) جاء يفسّر الإيراد الأول، ويحدّد مدلوله الخفي: "الأمور المقدسة والأكيدة الموعود بها لداود" (أش 55) هي "الفساد الذي لن يعرفه". فالوعد يجد تحقيقه في قيامة المسيح. وحسب منطق نعرفه، يتحدث أش 55: 3 عن القيامة إذا عرفنا أن نقرأه على ضوء مز 16: 10 الذي هو قريب منه.
إذن، يود نص أشعيا في إطار خطبة أنطاكية أن يحدّثنا عن القيامة. وهذا المدلول يأتيه من ارتباطه بنص مز 16. ولكن أما من رفد خاص يحمله نص أشعيا؟ هنا نعود إلى الكلمات البارزة في إطار الخطبة.
د- كلمات بارزة
هناك كلمتان في نص أشعيا تبدوان بارزتين في إطار خطبة أنطاكية: "تا هوسيا" أي الأمور المقدسة. "هيمين" أي لكم.
1- الأمور المقدسة
لا نجد (تا هوسيا) (الأمور المقدسة) إلا في تث 29: 18 (حسب السبعينية). إنها تخص الحسنات التي يمكن أن ننتظرها من الله. توّجهت إلى اليهود خطبة مركزة على إعلان الوعد الداودي (لهذا زيدت لفظة "داود")، فأشارت إلى عطية وُعدت بها الأجيال السابقة، إلى خيرات الخلاص التي أعلنت لهم. في إطار إعلان الرسول للقيامة كحدث خلاص، تتخذ العبارة مدلولاً ثانيا يتعاطف مع الأول فيدلّ على الحسنات التي تنتج عن القيامة.
هذا المدلول الذي أعطيناه لعبارة "تا هوسيا" في خطبة أنطاكية، يثبتّه وليْ الخطبة. فبعد أن أورد الواعظ نصوص الكتاب المقدّس، ختم برهانه عن القيامة مذكّراً بخيرات الخلاص العظيمة: غفران الخطايا والتبرير. وأعلن أنها الآن معطاة لمعاصريه على أثر قيامة يسوع: "فاعلموا، يا أخوتي، أننا بيسوع نبشّركم بغفران الخطايا، وهذا التبرير الذي لم تستطيعوا أن تجدوه في شريعة موسى، يُمنح كاملاً لكل من يؤمن" (آ 38- 39).
يُعلن غفران الخطايا مراراً في العهد القديم، ولا سيّما في الأدب النبوي المتأخّر، على أنه الخير الرئيسي في الأزمنة الإسكاتولوجية (إر 31: 31- 34؛ حز 36: 23- 27). وهذا الوعد يتجاوب مع الفكر التوراتي اليهودي الذي يقول إن كل شرور الإنسان تأتي من الخطيئة أي من مقاومة الله ووصايا عهده. فغفران خطايا الإنسان بواسطة الله يحمل إليه الخلاص والتحرّر من الشر. إذن، من الطبيعي أن تتسجّل الكرازة الرسالية لليهود في هذه الرؤية الدينية، وتصوّر عطية الخلاص المسيحانية بعبارة "غفران الخطايا". وسنجد العبارة اليونانية نفسها (افاسيس هامارتيون= غفران الخطايا) كعبارة مقولبة في خاتمة أربع خطب رسولية: 2: 38؛ 5: 31؛ 10: 43؛ 13: 38).
أما العودة إلى "التبرير" من أجل تحديد خيرات الخلاص عينها، فنجدها فقط في خطبة أنطاكية. فمدلول هذه اللفظة في العالم اليهودي لا يختلف عن معنى عبارة "غفران الخطايا". هذه العبارة تشير إلى الوجهة السلبية في الخلاص، أما لفظة “التبرير” فتدلّ على الوجهة الإيجابية. ولكن الواقع هو هو.
ترجّت أوساط الورع في العالم اليهودي (الفريسيون، الأسيانيون) تبرير البشر، أي خلاصهم، الذي يتم حين يمارسون الشريعة ممارسة كاملة. ولكن إذ أعلن الواعظ المسيحي أن التبرير يأتي بالإيمان بيسوع لا بشريعة موسى، تحدَّث عن الجديد الجذري في المسيحية بالنسبة إلى العالم اليهودي في عصره. ولكن هذا الجديد لا يشير إلى خير الخلاص الذي نحصل عليه ("التبرير")، بل إلى طريقة الحصول على هذا الخير ("الإيمان بيسوع لا بشريعة موسى").
تشير المفردات المستعملة في آ 38- 39 إلى بولس الذي إليه تُنسب خطبة أنطاكية. ففعل "ديكايوو" (برّر) يتحدّث عن مغفرة الخطايا كثمرة إيمان بيسوع القائم من الموت. نحن هنا أمام مضمون رجاء اليهود المتعلّق بالخلاص.
إن أمور داود المقدسة ترتبط بغفران الخطايا والتبرير، وهي تدل في ولْي الخطبة على الخيرات الناتجة من القيامة. وهكذا يحمل إيراد أشعيا وجهة جديدة للبرهان، ويُبرز البُعد الخلاصي للقيامة، ويشدّد على طابعها المسيحاني: بالقيامة تُعطى للبشر خيرات الخلاص، وهي تحريرهم من الموت ومن الخطيئة.
2- أنتم (سأعطي لكم)
هناك لفظة أخرى في نص أشعيا أبرزها سياق الخطبة، فثبتّت دور الآية في الخطبة وبيّنت أن القيامة هي حدث للبشر، وبصورة أدق لليهود الذين يتوجّه إليهم بولس: "أعطيكم أنتم" (دوسو هيمين). إن دراسة البنية العامة للخطبة ترينا أن الخطبة مبنيّة على تعارض بين زمن الآباء (آ 17 ي) والزمن الحاضر الذي يعني السامعين (آ 26: "إليكم أرسلت كلمة الخلاص"؛ آ 32- 33: "ما وعد الله به آباءنا تمّ لنا نحن أبناءهم"؛ آ 38: "به أعلنت لكم مغفرة الخطايا"). وهكذا يُبرز السياق إبرازاً خاصاً ضمير المخاطب (أنتم) في آ 34: فالسامعون جزء من الجيل المميّز الذي له تمّت المواعيد التي أعطيت للآباء. وهم مدعوّون لينعموا بالغفران المسيحاني وبتبرير كامل لم تحصل عليه الأجيال السابقة حتى مع شريعة موسى. إن المواعيد تتحقّق من أجل السامعين، بفضل الخيرات الناتجة من قيامة المسيح.
ماذا نستنتج من دور آية أشعيا في البرهان على القيامة؟ إنها تدعونا لكي نفهم أن القيامة هي حدث يحمل مدلولاً لا ليسوع فقط (عودة إلى الحياة النهائية، مز 16: 10؛ كابن ممجّد قرب الله، مز 2: 7) بل للبشر أيضاً (إنه ينبوع خيرات الخلاص من أجلنا، أش 55: 13). وبعبارة أخرى، تتضمّن هذه الآية من أجلنا عدم الفساد الذي حصل عليه المسيح القائم من الموت. ونقول هنا ما قلناه في السابق: لا تحمل هذه الآية هذا المدلول إلا لأن الحدث يكشفه فيها. بما أن يسوع أقيم من الموت دون عودة ممكنة إلى التفكّك والفساد (آ 34)، صار لنا ينبوع تبرير ومبدأ قيامتنا الخاصة الشخصية. وهكذا تستضيء الكتب بالحدث الفصحي والحدث الفصحي بالكتب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM