الفصل السادس والثلاثون: خطبة أنطاكية بسيدية على ضوء الحدث

 

الفصل السادس والثلاثون
خطبة أنطاكية بسيدية على ضوء الحدث يسوع 13: 22- 31
بعد هذا الاستشراف التاريخي، نصل إلى المضمون ونقرأه على ضوء الحدث الذي هو يسوع. ونفهم أن ما يعطي معنى لمختلف العناصر التي تؤلف مسيرة البرهان في الخطبة، هو حدث القيامة. وهذا الحدث قد أعلنه الخطيب المسيحي مرة أولى في آ 30- 31. غير أن الخطيب لا يكتفي بأن يؤكّد قيامة يسوع. فهو يحدّد موقعها في إطارها التاريخي. فيقدّمها على أنها آخر عمل في الحدث يسوع. وينظّم هذا التأكيد الصادم بالقيامة فيسبقه بعرض لأحداث سابقة تبرزه: يوحنا المعمدان هيّأ مجيء المسيح وأعلن أنه سيكون أعظم منه جداً (آ 24- 25). ويسوع كان ضحية حكم جائر فقتله اليهود في أورشليم (آ 27- 29). لنتوقف إذن عند هذه الآيات.
أ- الأحداث السابقة للقيامة (آ 24- 29)
إن آ 24- 25 و27- 29 هي توسّعات ثانوية في مسيرة الخطبة. فحلولها في المجموعة يكمن في أنها جزء لا يتجزأ من "إعلان الحدث"، في أنها محطة أساسية في عملية تأوين الكتب المقدسة، في خطبة من النوع التفسيري.
1- السابق (آ 24- 25)
تبدو هاتان الآيتان حول يوحنا بشكل معترضة في مسيرة الخطبة، وقد نلغيهما دون أن يتأثر البناء المنطقي والغراماطيقي للنص. فان آ 26 ترتبط مع آ 23 وتستعيد موضوعها الذي هو خلاص تحقّق في يسوع. إن هاتين الآيتين تبرزان المسافة في خبر الخلاص بين المعمدان ويسوع. وهذا ما يقودنا إلى تحديد موقع يسوع وعمله في موقع خارق وفريد.
أفهمنا الواعظ بوضوح أن يوحنا نفسه الذي دعا جميع شعب إسرائيل إلى معمودية التوبة (آ 24) لم يعتبر نفسه مسيحاً. قال: "ما أنا الذي تظنون أني هو" (أي: لست المسيح) (آ 25 أ). وأعلن يوحنا أنه ليس بأهل “لأن يحل رباط حذاء” ذاك الذي أرسل ليخبر به والذي يأتي بعده (آ 25 ب).
وهذه المسافة بين يسوع ويوحنا ستظهر بوضوح أكثر حين نتوقّف عند الكلمات التي استعملها الواعظ. فقد شدّد على أن يسوع جاء "تاريخياً" بعد يوحنا. ولكننا لا نعتبره تلميذه. فإذ كان يوحنا "ينهي سعيه" (عمله) (آ 125) أعلن مجيء يسوع. وقدّمه للشعب كذاك الذي "يأتي بعدي". قالت لوقا "بعدي" ولم يقل "ورائي" كما يكون التلميذ وراء معلّمه (أوبيسومو. رج 1: 7؛ مت 3: 11؛ يو 1: 27، 30). هو "بعده" (ميتا مع المفعول به). نحن في المعنى الزمني، وهكذا لا يخضع الثاني للأول الذي سبقه. إذن ينتمي يسوع إلى حقبة جديدة من التاريخ. أما يوحنا فينتمي إلى زمن الوعد وهو آخر أنبيائه. ويكون دور يوحنا بأن يوجّه إسرائيل إلى شخص يسوع كموضع الخلاص الوحيد.
إذن، المقطع عن يوحنا في الخطبة والكلمات التي تنسب إليه، يشدّد بمهارة على أولوية يسوع وعلى تأثير مجيئه في تاريخ البشر (آ 26 ي).
2- حكم جائر بالموت (آ 27- 29)
ويدخلنا الواعظ حالاً في حدث يسوع (آ 26) فيقدّمه لنا على أنه "كلمة الخلاص". فالكلمة تعني أكثر من كلام نتلّفظ به. إنها عمل الله في تاريخ البشر. فالأحداث التي يحرّكها الله هي "كلمة" تتوجّه إلى البشر وتدعوهم إلى تقبّلها تقبلاً إيجابياً بالإيمان. أي نقول: نعم.
إذن، الحدث يسوع هو "كلمة الخلاص" المسيحي. والوقائع الرئيسية في هذا الخلاص هي الموت والقيامة. إنهما يشكّلان في كل الخطب الرسالية الموجّهة إلى اليهود، نواة الإعلان الكرازي. غير أن عرض موت يسوع يختلف اختلافاً ملحوظاً عن عرض قيامته: لا يشير الواعظ إلى مدلوله بالنسبة إلى الخلاص. وفي خطبة أنطاكية بشكل خاص (وفي سائر الخطب بدرجات متفاوتة)، اهتم الكاتب بأن يشدّد على الحكم الجائر الذي كان يسوع ضحيته في أورشليم. إن عرض موت يسوع بهذا الشكل له مدلوله في مسيرة الخطبة من الناحية التعليمية.
هنا نشير إلى أن النص "الغربي" يختلف بعض الشيء عن النص "المتداول". ولكن مهما يكن من أمر الاختلافات، فنحن قريبون جداً من إنجيل لوقا: تقديم موت يسوع كضرورة إلهية وسببية بشرية (يجب، لو 22: 37؛ 24: 26؛ 24: 44). ذكر الصعود إلى أورشليم ذكراً صريحاً (رج الصعود إلى أورشليم في لو 9: 51 ي)، دور أورشليم كمدينة الظهورات والموضع الذي "أتمّ" فيه المسيح مسيرته (لو 24). غير أن كل هذا يدخل في مسيرة الخطبة الرسالية ولها أهميتها على هذا المستوى. إن آ 27- 29 تبدو في إطار إعلان الحدث يسوع المسيح كآيات تهيئ خبر القيامة الذي هو قلب الخطبة؟ وهي تبدو تأكيداً واضحاً لواقع حدث يسوع. فسيقول الواعظ موضحاً: "أنزلوه عن الخشبة (الصليب) ووضعوه في القبر" (آ 29). هذا القول الواقعي مهم لأنه يساعدنا على فهم الإعلان الذي يليه: “الله أقامه من بين الأموات “ (آ 30).
إن الطريقة التي بها عُرضت آخر ساعات حياة يسوع في هذه الآيات، تدلّ على مرحلة ضرورية في برهان الرسول لكي يقنع سامعيه اليهود. فكأن آ 27- 29 هي جواب على اعتراض يقدّمه اليهود. "كيف يمكن يسوع الذي دين وحُكم عليه بطريقة مذلّة، كيف يمكن أن يكون المخلّص"؟
ويقدّم الخطيب على هذه الصعوبة جوابين. من جهة يؤكّد أن يهود أورشليمِ حين حكموا على يسوع، "أتموا أقوال الأنبياء التي تُتلى في كل سبت" (آ 27. وتستعيد آ 29 الفكرة عينها): فإرسال يسوع إلى الموت جزء من مخطّط الله، وقد أنبئ به أنباء سرياً بالنسبة إلى المسيح (رج 2: 32؛ 3: 18 على مستوى بطرس الذي واجه هو أيضاً هذه الصعوبة). ومن جهة ثانية، يسوع هو بريء. فأهل أورشليم حكموا عليه جوراً: "ما وجدوا فيه جرماً يستوجب به الموت" (آ 28). ينتج عن هذا أن متّهمي يسوع في "المحكمة" جهلوا (لم يعرفوا) يسوع (آ 27) ودوره في مخطّط الخلاص، لم يفقهوا بُعد ما عملوا. ومع ذلك، فهم مسئولون لأنهم أسلموه إلى بيلاطس بدون سبب (آ 28؛ رج 2: 23؛ 3: 13- 14؛ 4: 10؛ 5: 30؛ 10: 39). ولكن هذه النقطة الأخيرة قد جُعلت هنا كنتيجة. أمّا ما يبرزه الواعظ فهو براءة يسوع وعَرْض موته على أنه واقع أراده الله في مخطّطه.
ويُطرح سؤال: أما أخطأ الخطيب؟ أما خاطر بأن يجعل سامعيه يبتعدون عنه؟ كلا. نحن نقرأ في آ 26: "يا إخوتي، إليكم (اختلافات: إلينا) أرسلت كلمة الخلاص". وفي آ 27: "أهل أورشليم ورؤساؤهم لم يعرفوا يسوع". إذن، هناك تمييز واضح بين السامعين الذين اليهم يتوجّه النداء الرسالي وأهل أورشليم المسئولين عن موت يسوع. وهذا التمييز واضح في كل خطب سفر الأعمال: لا اتهام لليهود بل سكان أورشليم وحدهم. فيهود الشتات (ومنهم سكان أنطاكية بسيدية) ليسوا موضوع اتهام.
ويستتبع ذلك ملاحظة تهمّنا لنفهم الطريقة التي بها أرسل الواعظ النداء المسيحي. بما أن يهود أنطاكية بسيدية لم يشاركوا شخصياً في المصير الذي حل بيسوع، فما عليهم أن "يتوبوا" (مثل أهل أورشليم)، بل أن "يؤمنوا" (آ 39). فهناك تقابلات في الخطب التي يوجّهها الرسل إلى اليهود: فكل مرة نجد نداء أخيراً إلى التوبة (ميتانويا، تبديل القلب)، تعلن خطيئة السامعين مسبقاً (رج الخطب في ف 2، 3، 5). وفي خطبتي قيصرية (ف 10) وأنطاكية (ف 13) يرد الاتهام العادي ضد يهود أورشليم. غير أن السامعين يدعون مباشرة إلى فعل إيمان يمنحهم "غفران الخطايا" (10: 43؛ 13: 38- 39). إذن هناك ثابتة واحدة في كل الخطب: حين نجيب بالتوبة أو بالإيمان ننال غفران الخطايا. وهكذا نكون في خط الأنبياء: نعرف خطيئتنا أمام الله وننتظر أن نتقّبل غفرانه.
كانت آ 27- 29 وقفة في تقديم البرهان لترد على اعتراضات المتسائلين: كيف يكون يسوع المخلّص؟
ب- القيامة
إن آ 30 تتضّمن أوّل إعلان لحدث القيامة في الخطبة: الله أقامه (أنهضه) من بين الأموات. وتوضح آ 31 تأكيد آ 30، فتقدّم الحدث من وجهة الخبرة التي اختبرها الشهود: "ظهر أياماً كثيرة". هناك كلمتان مهمتان: رُؤي أو تراءى، ثم شهود.
ونطرِح سؤالين. الأول، كيف يقبل الوسط اليهودي هذه العودة إلى القيامة في آ 30؟ الثاني، كيف يساعد عرض الحدث في آ 31 على تحديد نور القيامة تحديداً أفضل في برهان الخطبة؟
1- مدلول مفترض
ونبدأ بالجواب على السؤال الأول.
إذ أراد الواعظ أن يؤكد قيامة يسوع، استعمل تارة فعل "اغايرين" (آ 30- 37) وطورا فعل "انيستاناي" (آ 33- 34). يعني الأول أيقظ، أقام. والثاني: جعله يقوم. فرق بسيط. ولا أهمية له في خطبة أنطاكية. فالفاعلان يشيران إلى تصوّر مشترك: النهوض من الجلوس إلى الوقوف. والفعل الأول يعني أيضاً الاستيقاظ. فالرقاد يدل عند اليهود كما عند اليونانيين على الموت. وزاد بولس عبارة "من بين الأموات" فدلّ على القيامة. نحن هنا أمام ألفاظ يعرفها السامعون.
ولكن الواقع الذي تشير إليه هذه الصور هل تقبل به الديانة اليهودية؟ لقد استعمل العهد القديم صورتَي النهوض (هو 6: 2؛ حز 37: 10؛ 2 مك 7: 9- 14) والاستيقاظ (2 مل 4: 31؛ دا 12: 2) ليدلّ على القيامة (الصورتان معاً في أش 26: 14- 19، 51: 17؛ 52: 1- 2). غير أن صور القيامة قد تدلّ فقط على عودة إنسان مريض سقط في قبضة الموت أو شعب انحط إلى حالة مزرية فصار شبيهاً بالجثة. ولم تبرز فكرة القيامة الشخصية إلا في إطار اسكاتولوجي وبتأثير العالم الجلياني. وقد ارتبطت بتطوّر النظرة إلى المجازاة الفردية. أعلن سفر دانيال (12: 1- 2): "في ذلك اليوم... كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، بعضهم لحياة أبدية وبعضهم للعار والرعب الأبدي". وسارت فكرة القيامة مسيرتها في أسفار الرؤيا المنحولة مثل 4 عز 7: 32 (تردّ القبور ما سلّم إليها) ورؤيا باروك السريانية (تردّ الأرض الموتى الذين تقبّلتهم، 2 با 50: 2- 3) وكتاب القديميات البيبلية (3: 10، أحيي الموتى وأنهض الراقدين من التراب).
ولكن من يقوم؟ تبقى الآثار الجليانية غامضة حول هذا الموضوع. قالت رؤيا باروك: الأبرار وحدهم يقومون. وعزرا الرابع: يقوم الأبرار والأشرار ليخضعوا للدينونة. يبدو أن هذه النظرة الثانية سيطرت في بداية المسيحية. امتدت القيامة إلى الأشرار وانفصلت عن الدينونة والخلاص اللذين يتبعانها، فظلّت حيادية ولبثت على مستوى الجسد. فإذا كان الأمر هكذا، نستطيع القول إن عقلية العالم اليهودي ظلّت بعيدة عن نظرة صارت فيها قيامة المسيح الحدث المحوري في الخلاص. فالشعب لم يرَ أبداً في الاسكاتولوجيا الدينية قيامة المسيح الشخصية. إذن، الألفاظ موجودة، ولكن واقع قيامة المسيح ظل غريبا عن رجاء العالم اليهودي.
والآن، كيف بدا إعلان التعليم المسيحي في فم الواعظ؟ إنه يستطيع أن يحسب حساباً لأمر مهتم، وهو أن فكرة قيامة الموتى التي ارتبطت بالتيارات الجليانية، قد انتشرت انتشاراً واسعاً في الأوساط اليهودية. رفضها التيّار الصادوقي، ولكنّها وجدت محبّذين أقوياء لدى الفرّيسيين. وهكذا نستطيع أن نعتبرها مقبولة قبولاً واسعاً في الأدب الديني وفي الأوساط الشعبية في القرن الأول المسيحي. هنا نفهم الكلام الذي جعله صاحب الأعمال في فم بولس: "أنا فرّيسي ابن فرّيسي، وأنا أحاكم الآن لأني أرجو قيامة الموتى" (23: 6). وسيوضح بولس في خطبة أخرى أن اليهود الذين يتّهمونه يشاركونه في رجاء القيامة هذا (24: 15).
وإذ أراد مؤلِّف الأعمال أن يعلن قيامة يسوع المسيح، وهي حقيقة تأباها آذان يهودية، عالج الموضوع في نقطتين: أولا، قدّم القيامة على أنها الحدث الذي يجعل القيامة الاسكاتولوجية ممكنة، ويدشّن هذه القيامة (يعلن المرسلون في يسوع قيامة الموتى، 4: 2؛ رج 26: 32). ثانياً، قدّم قيامة الموتى على أنها انتظار أساسي في الرجاء اليهودي الديني (23: 6؛ 24: 14- 15، 21؛ 26: 6- 8). والخطب الثلاث التي يُلقيها بولس ليدافع فيها عن تعليمه الرسالي في ف 23 و24 و26 تشدّد على هذا الأمر. والخطبة الأخيرة توضح بصورة خاصة هذا الدفاع في زمنين. "الآن أنا أحاكم لأني أرجو ما وعد الله به آباءنا... لماذا لا تصدّقون أن الله يقيم الأموات" (26: 6- 8)؟ ويختتم بولس خطبته بشهادة من أجل المسيح الذين كان "أول من قام من بين الأموات" (26: 23). بما أن قيامة الموتى هي جوهر الديانة اليهودية، وبما أن قيامة يسوع هي الباكورة، فينتج عن ذلك أن الديانة المسيحية هي التفتح الطبيعي والكامل للديانة اليهودية. فاليهود الذين يرفضون هذه الديانة ينكرون ديانتهم الخاصة ويشوّهون علاقتهم بإله آبائهم.
على هذا البرهان كخلفيّة، تحدّد موقع الإعلانات المجتزأة عن قيامة يسوع في خطب الرسل. فعَرْض الحدث بطريقة تعليمية ولاهوتية، يربط قيامة يسوع بقيامة البشر ويجعلها في امتداد الرجاء اليهودي. وهذا ما يجعل الدرب مفتوحة أمام العالم اليهودي لكي يتقبّلها. ولكن بعد أن فُتحت هذه الدرب، ظل إدراك الواقع المسيحي للقيامة بعيداً. لأنه إن كانت القيامة كنهوض للبشر (مع المسيح على رأسهم) تتجذّر في انتظار العالم اليهودي، إلا أن القيامة كالحدث الخلاصي الأسمى تتجاوز كل انتظار، وتتجاوز تخيّل الناس.
والحال أن الكرازة الرسولية تتحدّث عن هذه القيامة. وهي تقدّمها على أنها عمل الله (آ 30) في خط أكبر أحداث الخلاص في التاريخ الماضي (آ 17- 22). ثم تُعلن كتتمة للوعد المسيحياني الداودي (آ 32). ويُصاغ مدلولها الخلاصي بواسطة نصوص من الكتب المقدسة (آ 33- 39). هذا هو الجديد الجذري في إعلان الرسول: قيامة المسيح هي حدث خلاص، وليست مجرّد مقدّمة للخلاص. وتقبّل القيامة كواقع يحمل مدلولاً أساسياً من أجل البشر. وبما أن القيامة تعطي معنى للمصير البشري، فهي نور وهي محور ساطع يُشرف على تفسير جديد للوعد الداودي. وستساعدنا آ 31 التي تتحدّث عن رؤية يسوع القائم من الموت "بأعين" الشهود، على الإحاطة بعض الشيء بلمعان هذا النور.
2- نور القيامة
ونصل إلى جوابنا على السؤال الثاني. فالآية 31 التي تلي إعلان قيامة يسوع تقرأ على الشكل التالي: "تراءى أياماً عديدة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم، الذين هم الآن شهوده أمام الشعب". فالخبرة التي عاشها تلاميذ يسوع القائم من الموت، تبدو كأنها رؤية تكوّن التلاميذ كشهود.
أولاً: الرؤية
لا نجد موضوع الرؤية إلا في هذا المقطع وفي خطبة بطرس في قيصرية (أعطاه أن يتراءى، 10: 40) مع تلميح غير مباشر في 4: 20 (لا نستطيع أن نسكت عمّا رأينا). ومع ذلك فهو موضوع يتوسّع فيه لوقا في إنجيله (24: 16، 31، 34، 39). فإذ أراد لوقا أن يتحدّث عن قيامة يسوع وظهوره الأول لبطرس، استعمل الأفعال التي استعملها في 13: 30- 31: "أقامه (أنهضه) الله فتراءى لسمعان" (لو 24: 34).
في التقليد المسيحي الأول استُعمل فعل "تراءى" ليدلّ على ظهورات المسيح. في 1 كور 15: 5- 8 (4 مرات)؟ 1 تم 3: 16. واستعملته السبعينية لتدلك على ظهور الله للبشر (تك 12: 7). وهكذا يشدّد النص على مبادرة القائم من الموت: فيسوع الممجّد هو مسبّب الرؤية (يجعلهم يرونه). إنه يفرض حضوره على الذين اختارهم ليكونوا شهوده.
بما أن النص يعبرّ عن ظهورات المسيح بلغة العهد القديم في الحدث عن التيوفانيات، ينتج عن هذا أنها تتجاوز الخبرة الملموسة. لهذا قال بولس إن المسيح الممجّد "تراءى للملائكة" (1 تم 3: 16). حينئذ نستخلص أن النور الذي شعّ من حدث القيامة ليست فقط نور الجسد ونور العقل مع أن الرسل أدركوه وشهدوا له.
ثانياً: الشهادة
أن يكون التلاميذ قد "رأوا" القائم من الموت، هذا أمر لا نفصله عن صفتهم كشهود. فاللفظتان ارتبطتا في ف 10 كما في ف 13. نقرأ في 10: 40- 41: "أعطاه الله أن يظهر (يدلّ على حضوره)، لا للشعب كلّه، بل للشهود الذين اختارهم الله من قبل". إن ذكر الشهود (عكس ذكر الظهورات) حاضر في كل الخطب الرسالية في أعمال الرسل (2: 32؛ 3: 15؛ 31- 32؛ 10: 41؛ 13: 31). إذن، هو جزء لا يتجزّأ من بنية الكرازة الرسولية. فإن أريد إقناع السامعين اليهود بأن يتعلّقوا بيسوع المسيح، فشهادة الذين رأوا القائم من الموت، هي ضرورية ضرورة الكتب المقدسة. فشكلا الشهادة موجودان في قلب كل خطبة، وهما يُلقيان ضوءاً متكاملاً على حدث قيامة يسوع.
إنطلق الشرّاح من الخطب الرسولية كما من مقاطع أخرى (مثلاً، اختيار متيا، 1: 21 ي) ليحدّدوا مدلول الشاهد في أعمال الرسل. أما السمات الرئيسية فهي: أن يكون اختبر اللقاء معه بعد قيامته (2: 32؛ 3: 15؛ 5: 32؛ 10: 39، 41؛ 13 : 31) أن يكون الله اختاره لهذه المهمّة، مهمّة الشهادة (1: 24؛ 10: 41). أن يشهد متضامناً مع آخرين عاشوا الخبرة عينها وقاسموه المهمة عينها (2: 32؛ 3: 15؛ 5: 32؛ 10: 39، 41؛ 13: 31). وهكذا يُحفظ لقب الشهود عادة للاثني عشر الذين تنظموا في حلقة ساعة الظهور الرسمي الذي فيه تقبّلوا رسالتهم من الرب (لو 24: 48).
الشاهد الرسولي هو الذي يؤكد للآخرين واقع القيامة انطلاقاً من الخبرة التي عاشها. فهم لا يدركون إدراكاً مباشراً واقع القيامة، بل يقين الرسول الذي يشهد لهذا الواقع. لسنا هنا أمام برهان عقلي، بل أمام عودة إلى شهادة تنطلق من الحدث. وإن شهد التلاميذ للحدث، فلكي يعلنوا مدلوله في التاريخ البشري. والحال أن واقع القيامة ومدلوله لا يُدركان، ولا نستطيع أن نشهد لهما بالعقل من دون نور الإيمان.
أجل، إن شهادة القيامة تدلّ على واقع الحدث كما تدلّ على مدلوله. ففي خطبة أنطاكية، ينتقل الواعظ من إعلان القيامة كواقع (آ 30) إلى إعلان القيامة كمدلول خلاص للبشر
(آ 31). فشهادة القيامة لا تكمن في أن ننقل معلومة حيادية حول حدث تاريخي. إنها اعتراف وبالتالي تفسير لهذا الحدث على أنه الحدث الخلاصي الأسمى. وهذا الاعتراف الذي يفترض هذا التفسير للقيامة، لا يمكن أن يكون إلا عمل الإيمان.
إذن، لشهادة قيامة يسوع وضع فريد، لأن الشهادة على الحدث لا تنفصل عن تفسيره تفسيراً إيمانياً. فهو يرتبط بالإيمان كما يرتبط بالعقل. فالإيمان الذي يُدرك ويفسّر مهمّ أهمية الملاحظة والخبرة. الإيمان وحده حاسم. وسامعو الكرازة يتقبّلون حدث القيامة مستندين إلى إيمان شهود يسوع.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM