الفصل الخامس والثلاثون: خطبة أنطاكية بسيدية

الفصل الخامس والثلاثون
خطبة أنطاكية بسيدية نظرة إلى الماضي
13: 17- 22
"يا بني إسرائيل، ويا أيها الذين يتقون الله، اسمعوا". هكذا تبدأ أول خطبة للقديس بولس. توجّه بها إلى اليهود، فقدّم ملخصاً للتاريخ المقدس على ما في خطبة اسطفانس (ف 7). وزاد على هذا الملّخص ما يتعلّق بشهادة يوحنا المعمدان. ثم أعلن أن يسوع الذي مات وقام هو المسيح المنتظر. هنا يلتقي بولس مع بطرس، ولكنه يفترق عنه حين يشدّد على التبرير بالإيمان. وتنتهي الخطية بتنبيه خطير أخذه الرسول من التوراة: فانتبهوا لئلا يحلّ بكم ما قيل في كتب الأنبياء.
عند هذه الخطبة سنتوقّف فنقسمها ثلاثة أقسام. الأول: نظرة إلى الماضي. الثاني: على ضوء الحدث يسوع. الثالث: على ضوء الكتب المقدّسة. ونحصر حديثنا في هذا الفصل بالقسم والأول: نظرة إلى الماضي (13: 17- 22).
نفسّر النص أولاً على أنه ملّخص للتاريخ المقدس، وبعد أن نستند إلى وعد الله لهذا الداود الجديد، نحاول أن نكتشف مدلول هذا الملخص الذي جُعل كمقدّمة لخطبة مسيحية يتوجّه بها الرسول إلى اليهود.
أ- ملخّص التاريخ المقدس
تقدّم آ 17- 22 ملخصاً لأهم أحداث عمل اللّه التحريري من أجل شعبه: خلصه من مصر، أرض المنفى (آ 17)، اهتم به خلال تيهانه في البرّية (آ 18)، أعطاه الأرض الموعود بها (آ 19). جعل له القضاة (آ 20)، ثم اختار لهم شاول وعزله، واختار اختياراً خاصاً داود (آ 21- 22).
هذه النظرة التاريخية إلى الوراء تعود إلى مجموعة الأحداث التي عاشها الشعب والتي يذكرها كتاب صموئيل في معرض حديثه عن نبوءة ناتان (2 صم 7: 10 ي). وهكذا نكون أمام عظة مدارشية (أي: درس على نص الكتاب المقدس) على نص الوعد لداود. نكون أمام بداية فعل إيمان كما نقرأ مثلاً في يش 24.
وها نحن نبرز المقدّمتين التاريخيتين كما نقرأهما في 2 صم 7 وفي أع 13.
2 صم 7 أع 13
6- لم أسكن بيتاً منذ أخرجت بني 17- إن إله هذا الشعب اختار آباءنا، إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم وعظّم الشعب في غربته في أرض مصر
وأخرجهم منها بذراع رفيعه (قوية).
بل كنت أسير في خباء وفي ملجأ 18- خلال أربعين سنة،أطعمهم في البرّية.
7- فهل تكلّمت في كل سيري 19- وبعد أن استأصل سبع أمم في
مع جميع بني إسرائيل مع أحد أرض كنعان، وزعّ أرضهم
قضاة إسرائيل الذين أمرتهم ميراثاً.
أن يرعوا شعبي إسرائيل: 20- كل هذا دام 450 سنة. وبعدها
"لماذا لم تبنوا لي بيتاً من أعطاهم قضاة إلى صموئيل
الأرز"؟ النبي.
8- هذا، تقول لعبدي داود: 21- حينئذ طلبوا ملكاً فأعطاهم الله
هكذا يقول رب الأكوان: أنا شاول بن قيش، رجلاً من سبط
أخذتك من المراعي، من وراء بينامين فحكم أربعين سنة.
الغنم لتكون رئيساً على شعبي 22- ثم عزله الله وأقام داود
إسرائيل. ملكاً عليهم.
9- كنتُ معك حيثما سرتَ، شهد له قائلاً: "وجدت داود
وأزلتُ جميع أعدائك من أمامك. بن يسّى، رجلاً بحسب قلبي،
وأعطيك شهرة تساوي شهرة وهو يعمل بمشيئتي كلّها.
العظماء الذين في الأرض.

ماذا نستنتج من هذه المقابلة بين النص الأساسي والعظة المدراشية كما يلقيها بولس الرسول؟
1- تحويل النصوص
لقد حوّل "الواعظ" ما كان تلميحاً إلى المنفى في كتاب صموئيل (2 صم 7: 6 "أصعدت بني إسرائيل من مصر")، فعبّر عن الموت في عبارات جديدة: الله "أنمى الشعب خلال إقامته في أرض مصر" (أع 13: 17). بهذه الكلمات، تقبّلت خبرةٌ سلبية عاشها الشعب في مصر، مدلولاً إيجابياً في تاريخ التحرير. ففكرة نموّ الشعب مهمة وعليها يشدّد فعل الإيمان خلال الليتورجيا: "كان أبي أرامياً تائهاً فهبط مصر ونزل هناك في رجال قلائل، فصار ثمَّ أمّة عظمة شديدة كثيرة" (تث 26: 5؛ رج خر 1: 5)، وسيبيّن الواعظ واقع نموّ الشعب على أنه وليد تدخّل الله في خطّ أعمالٍ قام بها لكي يحرّر شعبه ويعزّزه.
وتدخّلُ الله هذا الذي يُعتبر أول عمل له من أجل شعبه، يتّخذ مدلولاً خاصا حين نجعله في خط معنى الخطبة: فالله الذي أنمى الشعب رغم وضعه القاسي في المنفى (آ 17)، والذي أقام ملكاً عظيماً مثل داود بعد أن فشل شاول في حكمه (آ 21- 22)، هذا الإله ألا يستطيع أن يرفع المصلوب، أن يقيمه من بين الأموات؟
وهكذا تفتح الآية الأولى من الخطبة أمامنا موضوعاً سيفرض نفسه تدريجياً في توالي الكلام، ويتعمق بحيث ينال مضموناً وغنى لم نكن نتوقعهما.
2- خباء الله
وأهمل الواعظ شيئاً، فاتخّذ إهماله له مدلولاً في هذه الخطبة المدراشية. فالخبر التاريخي في 2 صم 7 الذي يعمل كمقدّمة للوعد، يشدّد على أن الله عاش دوماً في البرية "تحت خباء (خيمة) وفي مسكن (أو: ملجأ)" (آ 6). أنه لم يطلب يوماً من القضاة أن يبنوا له "بيتاً" (آ 17). هذا التذكير بأوضاع سابقة يهيئ الطريق لولْي الخبر النبوي المبني على مدلولي كلمة "بيت": الهيكل والسلالة.
أما الواعظ في سفر الأعمال، فأهمل كل عودة إلى معبد الله في ملّخصه للتاريخ. هذا يدلّ على أنه يوجّه خطبته في اتجاه آخر. وسيدلّ تفسيره المدراشي للوعد الداودي بأنه يركّز كلامه على لفظة أخرى نفهمها هي أيضاً في معنيين: أقام، رفع. إنه يركّز على وعد الرب بأن يحافظ على سلالة داود ويرفعها.
3- عمل الله المحرر
إن المقدمة الإخبارية لعظة أنطاكية تُبرز عمل الله المحرّر من أجل شعبه. فنحن نلاحظ أن فاعل كل الأفعال هو الله: هو اختار، رفع قدْر هذا الشعب، أخرج، أباد... وهكذا يشدّد النص على الله الفاعل الأعلى في التاريخ. وهذا ما يظهر أيضاً في خطبة ناتان التي تبرز في جملها الله في صيغة المتكلّم المفرد: لم أسكن... أخرجتُ... كنتُ أسير...
أورد كتاب صموئيل الوقائع: الخروج: أصعدت (آ 6). عبور البرية: سرت (آ 7). وسنرى كيف سيقدّم سفر الأعمال فعلات الله الخلاصية هذه. فالخروج من مصر قد حققه الرب "بقوّة ذراعه" (آ 17). هي عبارة من العهد القديم ترتبط بسفر التثنية حين يتذكر سفر الخروج (تث 4: 34؛ 5: 15؛ 6: 21). وسيوضح الكاتب الملهم مدلولها في موضعين: "الرب أخرجنا من مصر بيد قديرة وذراع ممدودة ومخاوف عظيمة "وآيات ومعجزات" (تث 6: 8). ونقرأ في 4: 34: "آيات ومعجزات وحروب ويد قديرة وذراع ممدودة ومخاوف عظيمة". إذن تشدّد الصورة في اللاهوت الاشتراعي على عمل الله القوي الخارق. وهذا هو المعنى الذي تتخذه العبارة في خطبة سفر الأعمال الرسولية.
وسيؤكّد وَلْي الخطبة المباشر على هذا المدلول. فلا يكتفي الواعظ بأن يقول كما في 2 صم 7: 7 أ بأن الله "سار: مع بني إسرائيل في البرية. بل سيقدّم مرافقة الله لهم بسلسلة من أعمال أحسن فيها إلى شعبه وساعده: "أطعمهم (هناك مخطوطات تقول: احتملهم) في البرية أربعين سنة" (آ 18). ويهتم أيضاً بالتشديد على العمل المحسن والعجيب من أجل شعبه في الآية التالية فيذكر احتلال الأرض: "بعد أن أباد سابع أمم في أرض كنعان، وزعّ أرضهم ميراثاً لهم" (آ 19). تعود هذه الآية بلا شكّ إلى سفر التثنية (7: 1؛ رج يش 3: 10: 9: 1: عبارة مقولبة) التي تورد أسماء الأمم السبع: الحثيون، الجرجاشيون... ويزيد: "أمم أعظم و أكثر (و أقوى) منك".
وهكذا يذكر الواعظ الخروج (آ 17)، المسيرة في البرية (آ 18) والدخول إلى كنعان (آ 19) بشكل تصاعدي: فيبرز الطابع العجائبي لأحداث مضت. هو لا يهتم بوجهتها اللاعادية، بل بعظمتها التي تدلّ على عناية الله واهتمامه، على حضور متواصل لقدرته الخفية.
بعد هذه الآيات الثلاث من الخطبة، نجد ماضي الشعب كله في عبارات قاطعة. تُذكر الأحداث العظمى بالنسبة إلى سفر التثنية ولاهوت التاريخ. الله يهتم بخير شعبه فيجعل التاريخ الذي يعيشه الشعب "تاريخ خلاص" (45 سنة تدل على كمال زمان العمل الذي أنجزه الله).
وهذا التشديد على الحدثين الأساسيين في عمل الله الخلاصي (نجاة من أرض مصر، عطية أرض جديدة) (هذين الحدثين اللذين هما وجهتان متكاملتان لتحرير أول ورمز مستمر لنشاط الله المحرّر في تاريخ شعبه) هذا التشديد يفتح العقول لتقبّل ولي الخطبة: فالتحرير الذي أتمّه الله يحمل وعداً بتحرير مُقبل. فالله الذي يواصل القيام بأعمال خارقة من أجل نموّ شعبه (450 سنة)، يستطيع أن يحقّق أيضاً أكثر ممّا فعله في الخروج.
4- اختيار الآباء
وهناك عنصر جديد يستبق خبر أعمال الله الخلاصية من أجل شعبه: اختيار آباء الشعب. قال بولس لبني إسرائيل ولمتقّي الله: "إله هذا الشعب اختار آباءنا" (آ 17 أ). إذن هناك تشديد على الشعب وعلى الاختيار. وهذا التشديد سيستمر في ولي العظة. فيرتبط الوعد نفسه باختيار الشعب: فالوعد لداود آ 23) هو في الواقع وعد للآباء (آ 32) وهو يرتبط بوجود الشعب (آ 23) إذن، إليكم أنتم الحاضرين، أنتم أبناء إبراهيم "أرسلت إليكم كلمة الخلاص" (آ 26). عاد الواعظ إلى إبراهيم كأب للشعب الجديد الذي يكوّنه المؤمنون بيسوع المسيح.
وهذا التشديد على الشعب يتخذ مدلولاً جديداً في التعليم الرسولي، في مسيرة إيصال المعنى: يتحدّى الواعظ سامعي أنطاكية في أعماق أعماقهم، ويهيئهم ليعرفوا أن التعليم الجديد يرتبط ارتبطاً تاما بالتدبير القديم، وهو يدخل في اختيار الشعب والوعد الذي حصل عليه.
5- خطبة اسطفانس وعظة بولس
وهذه الطريقة التي اتخذها الواعظ ليجعل سامعيه اليهود متقبلّين تعليمه، تظهر بوضوح أكثر إذا قابلنا عرضين للتاريخ المقدّس نجدهما في سفر الأعمال: خطبة اسطفانس (7: 2 ي) وعظة أنطاكية (13: 17 ي).
جعل اسطفانس اليهود أمام تاريخهم. فبين لهم هو أيضاً أن الله عمل دوماً من أجل شعبه وحافظ على مواعيده. ولكنّه كشف وجهة أخرى من تاريخ الشعب اليهودي: عصيانهم ومعارضتهم الدائمة لله ولمرسليه (آ 9، 35، 39- 43، 51- 53). أما واعظ أنطاكية، فلم يتكلّم عن تصرّف الشعب. وتجنّب الحديث عن خياناتهم ومقاوماتهم السابقة لمخطط الله (في آ 28 اتّهم اليهود بأنهم حكموا على يسوع. ولكنه حدّد: "شعب أورشليم ورؤساؤهم").
وهكذا تبدّلت النظرة في عرض الصورة التاريخية الواحدة: هجوم في خطبة اسطفانس. إقناع في وعظة بولس في أنطاكية. لهذا سميّت الأولى خطبة هجومية (ف 7) والثانية خطبة رسالية تهدف إلى ربح اليهود و إقناعهم (ف 13).
ب- استشهاد بالكتاب المقدس
وينتهي ملّخص التاريخ في خطبة أنطاكية باستشهاد كتابي يشدّد على الدور الفريد والنموذجي للملك داود في مخطط الله (2 صم 7: 9: كنت معك): "وجدت داود بن يسّى رجلاً حسب قلبي، وسيعمل كل ما أريد" (آ 22 ب). يقدّم الكاتب هذا الحكم على داود كأنه شهادة يدليها الله. إذن هو مقطع مأخوذ من التوراة. ولكننا لا نجد هذه الجملة كما في التوراة. غير أننا نجد كل العناصر التي تؤلّفها. وهكذا نكون أمام استشهاد مركب من استشهادات عديدة كما اعتاد التفسير المدراشي عند اليهود أن يفعل.
يلعب هذا الاستشهاد في الوعظ دور "فاتحة". هي تفتح التفسير المدراشي وتبدأه. هناك مقابلة بين 2 صم 7 من جهة، و1 صم 13: 14؛ مز 89: 21؛ أش 44: 28 من جهة أخرى. ولكننا سنذهب أبعد من هذا فنرى كيف يوجّه الاستشهاد الكتابي ولي الخطبة ويهيئ الدرب لتفسير جديد لنصّ الوعد لداود. إن هذه العودة إلى داود التي هي انطلاقة حديث رسالي، تبدأ تفسير نبوءة ناتان في خط وعد لداود جديد، وعد يتخّذ بعداً مسيحانياً.
1- الوعد بداود جديد
لقد وجد الله في داود ملكاً حسب قلبه، رجلاً يتمّ إرادته. وعرض أمانة داود يبرز بالعودة إلى شاول الذي عُزل (آ 22): نجد هنا تلميحاً واضحاً إلى عدم أمانته لمخطط الله. وصورة الملك الخاضع لمخطّط الله، ستعود في ولي الخطبة وفي قلب البرهان الكتابي عن يسوع المسيح: "لكن داود بعد أن خدم في أيامه مخطط الله" (آ 38). هذه الصورة عن داود تنبع من العهد القديم، وهي توافق ما قاله فيه سفر التثنية. لا يكن داود ملكاً كاملاً. كان ضعيفاً على مستوى الحياة الأخلاقية كما تعثر في الحياة السياسية. ولكن ما يميّزه هو أنه كان ذاك القلب المستقيم، وعرف أن يقرّ بخطاياه (2 صم 12: 13) ويخضع لإرادة الله: سلك أمام الرب "بسلامة القلب والاستقامة" (1 مل 9: 14). كان قلبه "كلّه للرب" (1 مل 11: 4)؛ "أطاع الله طاعة كاملة" (1 مل 11: 6): "صنع ما هو قويم في عينَي الرب حافظا رسومه ووصاياه" (1 مل 11: 38). وبمختصر الكلام، صارت صورة الملك داود في نظر مدوّن أسفار صموئيل والملوك، النموذج والمعيار الذي به نحكم على الملكية في أرض إسرائيل.
حين شدّد الواعظ على هذه السمة الأساسية في وجه داود الملك، أراد أن يوجّه الأفكار في خط محدّد من أجل تفسير نبوءة ناتان: الملك المثالي الموعود به في سلالة داود سيكون البار الكامل الذي سيخضع كل الخضوع لمخطط الله. وهكذا لا يقدّم بولس وضع داود كملك، بل يتكلم عن البعد الروحي لشخصه ولصفته كخادم طائع. إذن، صار داود بخضوعه رمزاً يدلّ على الملك الاسكاتولوجي. وهكذا يحذّر الواعظ سامعيه من تفسير خاطئ لا يتوافق والكتاب المقدس، ويهيّئهم لتتمة النبوءة الداودية في رجل لم يكن له وضع ملك على الأرض.
وهذا العرض المثالي لداود في آ 22، سيحمل ثماره في ولي الخطبة ساعة يتحوّل النظر من جديد إلى شخص داود باستشهادات كتابية تعنيه قبل أن تعني غيره (آ 33- 37). حينئذ يعبَّر عن الوعد الداودي بوضوح في كلمات أمل بداود جديد. فما وعد به لداود في المزامير (مز 2: 7 في آ 33؛ مز 16: 10 في آ 35- 37 بصورة خاصة) ولم يتحقق تحققاً تاماً في شخصه، سيتم في آخر هو يسوع. وهذا ما يدّل عليه حدث قيامته. إذن، داود هو نموذج (آ 22) أما يسوع فهو النموذج الأول و الرئيسي (آ 37).
2- وعد مسيحاني
إذن، وجّه هذا الاستشهاد الكتابي العقول إلى فهم لنبوءة ناتان، فأبرز لا رجاء بسلالة ملكية تزول، بل انتظاراً لملك مثالي أشار إليه داود. وسنخطو خطوة تالية لنصل إلى فهم مسيحاني لهذا المقطع النبوي. هنا نعود إلى نبوءة أشعيا (11: 1، 10: جذر يسّى). فقد انطلق الكاتب من مز 89: 21 (وجدت داود) وزاد "ابن يسّى" ليدّل على الملك المسيح الذي يولد من جذر يسّى.
ويظهر البعد المسيحاني في زيادة: "يعمل كل ما أريد". نجد هذه العبارة في ترجوم صموئيل (1 م 13: 14). كما نجدها في أش 44: 28: فكورش هو مسيح الرب (أش 45: 1). وهكذا شدّد النص على البعد المسيحاني للوعد الداودي. لقد فُتحت آذان السامعين إلى إعلان مسيح شخصي كان داود صورته. وهذه خطوة هامة على طريق إعلان المعنى المسيحي للنبوءة.
ونلاحظ أخيراً المقابلة. في آ 22 ب: :أقام الله لهم داود ملكاً". وفي آ 23: "أقام الله يسوع لإسرائيل مخلّصاً". يسوع هو داود الجديد الموعود به. لا ذلك الملك، بل المخلّص. وهذا سيكون "حسب الوعد" (آ 23).
ج- فعل إيمان في العالم اليهودي
هنا نطرح السؤال: أما ترتبط هذه الآيات بنموذج أدبي معروف في العالم اليهودي؟ يتفق الشرّاح على القول بأن 2 صم 7: 6- 9 يتسجّل في "النؤمنات" (جمع نؤمن) الكبيرة في تاريخ إسرائيل. ونحن نكتشف في آ 17- 22 من وعظة أنطاكية رسمة وعناصر هذه النؤمنات القديمة. لقد قام الكاتب بعمل إسهاب في 2 صم 7 مستعيناً بعبارات أخذها من سائر الاعترافات الإيمانية التاريخية. لهذا لا بدّ لنا من أن نتوقّف عند هذه النؤمنات، عند مدلولها كتعبير للإيمان في إسرائيل. بعد هذا نرى ارتباطها بخطبة أنطاكية، وندرك كثافة المعنى التي يصل إليه هذا التذكر التاريخي في بداية خطبة رسالية تتوجه إلى اليهود.
ترد أفعال اعتراف الإيمان في إسرائيل القديم في ثلاثة نصوص رئيسية: تث 6: 21- 24؛ 26: 5- 9؛ يش 24: 2- 13. إن التعليم الديني في تث 6: 21- 24 يلخص التاريخ المقدّس للشعب في حدثين رئيسيين: النجاة من مصر، عطيّة الأرض التي وُعد بها الآباء. ويقدم كما 26: 5- 9 صيغة موّسعة في إطار ليتورجيا البواكير. يسبق الحدثين المحرّرين تذكرٌ لزمن الآباء: "كان أبي أرامياً تائهاً" (آ 5). هذا النص القديم يتصّل بما نقرأ في أع 13: 17- 22: الأحداث الخلاصية عينها (الاختيار، الخروج من مصر، عطية الأرض)، تشديد على عمل الله، جوّ نشيد واحتفالا بظهورات الله الخلاصية الكبيرة. عدم ذكر خيانات إسرائيل. عبارة واحدة للتعبير عن عمل الله في الخروج: "بيد قوية وذراع ممدودة". أي: إن الله قام بالآيات والمعجزات فاحلّ خوفه على الشعب.
إن ملخص يش 24: 2- 13 الموضوع في اطار تجديد العهد، هو قريب من ملخص تث 26: 5 ي. فالأحداث التاريخية الثلاثة المنسوبة إلى عمل الله المحسن، تصوَّر مع بعض التوسيع. وتُذكر الإقامة في البرية كما في أع 13: 17. وهناك نقطة مشتركة قد تعكس ارتباط أع 13 بنص يش 24. يعدّد يش 24: 11 الأمم السبع التي يقول أع 13: 19 إنها استؤصلت. وهكذا يكون واعظ أنطاكية قد سجّل ملخصه التاريخي في أقدم تعابير الإيمان اليهودي وأعمقها أساساً.
وما نلاحظه هو أن التعابير القديمة لا تمدّ بالتاريخ المقدس أبعد من الإقامة في كنعان. وبالأحرى، لا يدخل داود وملكه في هذه النظرة. ولكن بجانب هذه التقاليد القديمة جداً، قد توسعت في إسرائيل مجموعة أخرى من التقاليد ارتبطت بأحداث متأخرة: مملكة داود، أورشليم كمدينة الله (المزامير الملوكية، بعض نصوص 1- 2 صم، أش 2: 9؛ 11؛ 28). وفي وقت من الأوقات، قد يكون زمن المنفى، اندمج التقليد الداودي والنؤمن القديم (حزقيال؛ أش 55؛ حجاي). إن مز 78 الذي هو قصيدة تنشد أعظم الأحداث التاريخية القديمة، يصل بخبره إلى الزمن الملكي، وينتهي بمديح لداود واختيار الله له (آ 70- 72). ولكن يبقى أفضل مثال لدمج التقليدين نص 2 صم 7. فهو يرينا أنه في وقت قد يقع بين زمن داود والمنفى، تسجّلت الملكية الداودية والوعد في خطّ النؤمن القديم. وهكذا لم يعد هذا النؤمن منغلقاً على ذاته، فانفتح على تطلّعات جديدة. وهكذا توسّع رجاء جديد، رجاء الانتظار المسيحاني بعد أق استند إلى الإيمان بعمل الله الخلاصي.
إن لاهوت التاريخ في أع 13: 17- 22 المرتبط مباشرة بنص الوعد الداودي، هو استعادة لهذه النظرة الموسّعة للإيمان الديني في شعب إسرائيل. وإعلان الإيمان بماضٍ يحمل رجاء مسيحانياً، صار النؤمن اليهودي المعروف في القرن الأول المسيحي. فاستعمله بولس ككلام تشجيع (أع 13: 15) انتظره سامعون يهود من فم واعظ في المجمع. وهكذا كان الواعظ المسيحي الذي هو بولس، أميناً لانتظار يتسجّل في أفضل ما فيه، فاستعاد الرسمة الليتورجية اليهودية الكبرى من أجل التفسير المسيحاني للتاريخ الماضي.
وكلمة الرجاء هذه قد تضم آ 23 أيضاً، لأنها تنتمي إلى الإطار الأدبي السابق. فإذا أصلحناها قليلاً، نستطيع أن نقرأها على الشكل التالي: "من نسله يقيم الله حسب وعده مخلّص إسرائيل". وهكذا نكون أمام خاتمة رائعة لنؤمن توراتي كما تعوّد اليهود أن يفسروه (بطريقة مسيحانية) في القرن الأول المسيحي.
قد كان يمكن أن تتوقف الخطبة هنا، لأنها توافق كل الموافقة انتظار اليهود. ولكن الواعظ المسيحي أدخل اسم يسوع وجعل الفعل في صيغة الماضي (قال: أقام، لا: سيقيم) فقدّم لنا شيئاً جديداً وجذرياً بجّدته: فما يتبع لن يكون محض كلمة تعزية وتشجيع، كلمة تدعو إلى الرجاء، بل سيصير كلمة خلاص تحقّقت (آ 26)، كلمة تدعونا إلى رؤية إيمانية جديدة، لأن حدثاً جديداَ قد حصل، فبدّل النؤمن كله. وهذا الحدث هو يسوع المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM