غياب المسيح وحضور الرسل إلى العالم

 

غياب المسيح وحضور الرسل إلى العالم

 

خميس الصعود (أع 1: 1-14؛ مر 16: 15-20)

 

15وقال لهم: “اذهَبُوا إلى العالمِ كلِّهِ واكرِزُوا ببشارتي في الخليقةِ كلِّها. 16فالذي مُؤمِنٌ ومُعتمِدٌ مُحيًى، والذي هو لا مُؤمِنٌ مُدان. 17والآياتُ هذه تتبَعُ أولئكَ المؤمنين. باسمي الأبالسةَ يُخرِجُون، بألسنةٍ جديدةٍ يَتكلَّمون. 18وحيّاتٍ يَحملونُ وإذا سُمَّ الموتِ يَشربونَ لا يُؤذيهم، وأيديهم يَضعونَ على المُرضى فيُشفَون.” 19ويسوعُ ربُّنا من بعدِ ما تَكلَّمَ معهم، إلى السماء صعدَ وجلَسَ عنْ يَمينِ الله. 20وهم خرَجُوا فكرَزُوا في كلِّ مكان، وربُّنا عاضِدًا كانَ لهم ومُثبِّتًا أقوالَهم بالآياتِ التي كانوا صانِعين.

*  *  *

مقدِّمة

هذا النصُّ الذي هو خاتمة ثانية لإنجيل مرقس، بعد خاتمة أولى انتهت في صمت النساء اللواتي لم يخبرن أحدًا بشيء لأنَّهنَّ كنَّ خائفات (مر 14: 8). يقدِّم لنا ملخَّصًا عن نشاط يسوع بعد القيامة. وبالتالي عن نشاط الكنيسة التي تعلِّم وتعمِّد، وتنادي بالإنجيل وتدعو البشر إلى الإيمان. كما تفهم الآتين إليها أهمِّيَّة الإيمان والعماد من أجل الخلاص. وإلاَّ انتظرتهم الدينونة. على الرسل ألاَّ يخافوا الأخطار لأنَّ قوَّة الربِّ ترافقهم.

 

انطلاق باسم يسوع

ربط القدِّيس مرقس هذه الانطلاقة بالاجتماع الأسبوعيّ: يوم الأحد. كانوا يتناولون الطعام (آ14). وهنا التقى بلوقا ويوحنَّا اللذين جعلا ظهورات الربِّ يوم الأحد، كما نستطيع أن نسمع اليوم في نهاية القدَّاس الإلهيّ: اذهبوا بسلام. انطلقوا وأنتم تحملون سلام المسيح إلى الذين تلتقون بهم على طرقات الحياة.

هي انطلاقة لا حدود لها. لا في الزمان، لأنَّ الطريق طويلة أمام الكنيسة. ولا في المكان، ففلسطين أضيق من أن تنحصر البشارة فيها. انطلاقة تصل إلى العالم كلِّه. فالله الذي يريد خلاص الإنسان، يحتاج إلى كنيسة تدعو الناس إلى الخلاص. ولكن كيف يخلصون إن لم يؤمنوا؟ وكيف يؤمنون إن لم يُبشَّروا؟" (رو 10: 14). هذه البشارة تصل إلى كلِّ خليقة، حيث لا يعود الإنسان فقط إلى الله، بل الكون كلِّه. فالخليقة فسُدت بفعل الخطيئة بسبب آدم الأوَّل. وبفعل آدم الثاني، يسوع المسيح، هي تعيش الآن أوجاع الولادة وتنتظر بصبر الفداء الذي يصل إليها بعد أن عرف المؤمن التبنِّي في خطِّ مَن هو البكر لإخوة كثيرين (رو 8: 29).

والعمل؟ مناداة بالإنجيل ودعوة إلى الإيمان. وهكذا يلتقي مرقس مع متَّى، حيث تبدأ الكنيسة تتلمذ الأمم. التلمذة هي تعلُّق بيسوع المسيح الربِّ والمخلِّص. ويعبَّر عنها في قبول سرِّ العماد. وبعد ذلك يأتي التعليم الذي يرافق المؤمن طول حياته، بحيث يعرف الله جميع البشر من صغيرهم إلى كبيرهم (إر 31: 34). في هذا الكلام الذي يوجَّه إلى المؤمنين، نداء وتحذير. أمّا النداء فلقبول العماد الذي بدونه لا ندخل ملكوت السماوات (يو 3: 3). فلماذا التأخُّر وكأنَّنا لا نريد أن نلتزم؟ ولماذا الخوف من أن نصلب الربَّ ثانية؟ (عب 6: 6). فالربُّ يقول لنا: تكفيك نعمتي (2 كو 12: 9).

 

الآيات علامات منظورة

طلب الربُّ من الرسل أن ينطلقوا. ولكن ما الذي يؤكِّد أنَّ هذا هو صوت الله يرسلهم؟ ومَن يكفل لهم النجاح في الرسالة؟ الآيات التي ترافق عملهم، وهي خمس، والرقم خمس رقم مقدَّس. هذا يعني أنَّهم لا يحتاجون بعد إلى آيات أخرى. فهذه تكفيهم لكي يمضوا ويُثمروا ويدوم ثمرهم (يو 15: 6).

هذه الآيات اختبرتها الكنيسة. فبولس مثلاً طرد الشيطان من جارية في فيلبِّي: "آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها." فخرج في الحال (أع 16: 18). ولمّا كان في مالطة، علقت حيَّة بيده. فظنَّ الناس أنَّه سينتفخ أو يقع ميتًا في الحال (أع 28: 6). أمّا هو فنفض الحيَّة في النار من غير أن يمسَّه أذى (آ5). وتوقَّف القدِّيس لوقا في سفر الأعمال أكثر من مرَّة على النطق بلغات جديدة. فمنذ يوم العنصرة وصلت البشارة إلى برثية وماديَّة وعيلام... ووصلت إلى رومة وكريت وأرض العرب. لا شكَّ في أنَّ الرسل احتاجوا في وقت من الأوقات إلى مَن يترجم لهم لغة البلاد، كما كان الأمر بالنسبة إلى بولس وبرنابا في لسترة، حين لم يفهما اللغة الليقونيَّة، لأنَّهما لو فهموها، لما سمحا للجموع بأن يحاولوا تقديم ذبيحة إكرامًا لهما (أع 14: 11-13). أمّا في شفاء المرضى، فيذكر سفر الأعمال أنَّ ظلَّ بطرس كان كافيًا من أجل الشفاء (أع 5: 15). وأنَّ المناديل والمآزر التي تلامس جسد بولس. كانت تكفي لتزيل الأمراض وتخرج الشياطين (أع 19: 12).

مثل هذه الآيات يمكن أن تحدث اليوم، ولكنَّنا نأخذها في معناها الروحيّ. فاللغة الجديدة التي ينطق بها الرسل هي لغة الإيمان الذي يُفهمنا محبَّة الله بحيث أرسل ابنه لخلاصنا. والسمُّ الذي يمكن أن يميت الإنسان، قد يكون الافتراء والنميمة والإساءة إلى الرسالة. ولكنَّ الربَّ يحوِّل كلَّ شيء لخير الذين يحبُّونه. ففي النهاية، تكون الغلبة للرسل، بحيث خافت منهم أوَّلاً السلطات اليهوديَّة بعد أن ملأوا أورشليم بتعاليمهم (أع 5: 28). بل خافت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة فقامت باضطهادهم. ولمّا أحسَّت بالخطر من "الحمل" الذي تنادي به الكنيسة، هتف ملوكها وعظماؤها وقالوا للجبال والصخور: "اسقطي علينا واخفينا عن وجه الجالس على العرش (الله الآب) وعن غضب الحمل (الابن الذي ذُبح ولكنَّه قام)" (رؤ 6: 16).

 

صعود يسوع حضور معهم

مَن كانت عنده هذه الإمكانيَّات تكون له جرأة لحمل الإنجيل مهما كانت الصعوبات. فمع أنَّ بطرس ويوحنّا أمِّيَّان كانا يتكلَّمان بجرأة (أع 4: 13). ما الذي أعطاهما هذه الشجاعة؟ قيل لهما: كانا قبلاً مع يسوع. هو الذي علَّم تلاميذه خلال حياته، فأرسلهم كما أرسله الآب، وأفهمهم أنَّ لا يخافوا وإن كانوا القطيع الصغير. وبعد أن قبضت السلطات اليهوديَّة على الرسولين، صلَّت الجماعة وحدَّثت الربَّ عن "تهديداتهم" (أع 4: 29)، وكلُّ ما طلبته هو الجرأة من أجل إعلان الكلمة. من أجل هذا، قال الإنجيل الذي نقرأه اليوم: "كان الربُّ يعضدهم ويثبِّت كلماتهم."

ولكن كيف يفعل وهو الذي صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله؟ في الواقع، هو ما زال حاضرًا بعد أن قال إنَّه سيكون معهم حتَّى انقضاء الدهر. وقال لهم: "لن أترككم يتامى، بل أرجع إليكم. بعد قليل لن يراني العالم (بعد الصلب والموت). أمّا أنتم فترونني" (بعد القيامة) (يو 14: 18-19). حين كان يسوع في الجسد على الأرض، كان في مكان وزمان محدَّدين. كان في الناصرة أو كفرناحوم أو قانا. عاش عددًا من السنوات محدودة. أمّا الآن، فتجاوز الزمان والمكان. ويقدر أن يكون معنا في كلِّ رسالة، بحيث نحيا له إن حيينا، ونموت له إن متنا. وحين مات إسطفانس، بدا وكأنَّ يسوع يموت معه، فسلَّم إليه روحه (أع 7: 59). وحين كان بطرس في السجن الذي يرمز إلى الموت، بدا وكأنَّ يسوع يتابع آلامه وموته وقيامته من خلال رسوله. وجلوس يسوع عن يمين الآب يعطيه كلَّ قدرة في السماء وعلى الأرض، فلا تعود قوَّة فوق قوَّته ولا سيادة فوق سيادته. هذا الذي تواضع حتَّى الموت على الصليب، رفعه الله وأعطاه الاسم الذي يفوق كلَّ الأسماء. به يتمُّ عمل الخلق، وبه يتمُّ عمل الخلاص وافتداء نفوسنا. قال إنَّ أبواب الجحيم لا تقوى على كنيسته، فتقوَّت كنيسته بقوَّته، مع أنَّها ضعيفة ومحدودة وتحمل الخطيئة من خلال أبنائها. وهكذا بشَّر الرسل في كلِّ أنحاء المعموريَّة، لأنَّ يسوع كان يسبقهم إلى هناك، مهيِّئًا لهم الطريق والقلوب.

 

عيش الكلمة

الكنيسة تحمل رسالة، وكلُّ واحد منَّا مسؤول عن هذه الرسالة. صعد يسوع إلى السماء، فكلَّفنا بأن نتابع العمل الذي بدأه خلال حياته على الأرض. هو الذي اختارنا وقال لنا بدوني لا تستطيعون شيئًا. يقول لنا أيضًا: بدونكم لا أعمل شيئًا. أنتم مسؤولون عن المناداة بالإنجيل والدعوة إلى الإيمان. ولكن ثقوا، أنا باقٍ معكم، فلا تخافوا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM