من الفصح اليهوديّ إلى الفصح المسيحيّ

 

من الفصح اليهوديّ إلى الفصح المسيحيّ

 

خميس الأسرار (1 كو 11: 23-32؛ لو 22: 1-23)

1وقريبًا كان عيدُ الفطيرِ المدعوُّ الفصح. 2وعظماءُ الكهنةِ والكتبةُ كانوا طالبينَ كيف يَقتلونه، ولكنْ كانوا خائفينَ من الشعب. 3فدخلَ الشيطانُ في يهوذا المَدعوِّ الإسخريوطيَّ الذي كان مِنْ عِدادِ الاثنَي عشر. 4فذهبَ وتكلَّمَ مع عظماءِ الكهنةِ والكتبةِ وعظماءِ قوّاتِ الهيكل لكي يُسلِّمَهُ إليهم. 5ففَرِحوا واتَّفقُوا أن يُعطوه فضَّة. 6فواعدَهم وكان طالبًا مناسبةً ليُسلِّمَهُ إليهم بمَعزَلٍ عن الجمع. 7وبلغَ يومُ الفطيرِ الذي فيه كانَتِ العادةُ أن يُنحَرَ الفصح. 8فأرسلَ يسوعُ كيفا ويوحنّا وقال لهما: “اذهبا، أعدّا لنا الفصحَ لنَأكلَ.” 9وهما قالا له: “أين أنتَ مُريدٌ أن نُعدَّ؟” 10فقال لهما: “متى أنتما داخلان إلى المدينة، مُلتقٍ بكما رجلٌ حاملٌ جَرابَ ماء، فاذهبا وراءَه. 11وحيثُ هو داخل، قولا لسيِّدِ البيت: مُعلِّمُنا قائلٌ: أين هو المنزلُ حيثُ آكُلُ الفصحَ مع تلاميذي. 12وها هو مُريكما علِّيَّةً واحدةً كبيرةً ومَفروشة. فأعدّا هناك.” 13وذهبا فوجَدا مثلَما قال لهما، وأعدّا الفصح.

14وحين صارَ الوقت، أتى يسوعُ واتَّكأ والاثنا عشَرَ رَسولاً معه. 15وقال لهم: “شهوةً اشتَهيتُ أن آكُلَ معكم هذا الفصحَ قبْلَ أنْ أتألَّمَ. 16وأنا قائلٌ لكم: منذُ الآنَ لا آكلُهُ حتّى يَتمَّ في ملكوتِ الله.” 17وأخذَ خُبزًا وشكَرَ وقالَ: “خُذوا هذا واقتَسِموا بينَكم. 18فأنا قائلٌ لكم: “لا أشربُ مِنِ ابنَةِ الجفنةِ حتّى يأتيَ مَلكوتُ الله.” 19وأخذَ خبزًا وشكرَ وكسَرَ وأعطاهم وقال: “هذا هو جسدي الذي من أجلِكم يُوهَب. كونوا صانعين هذه لذكري.” 20وهكذا أيضًا على الكأسِ من بعدِ أن تَعشَّوا، قال: “هذه الكأسُ هي العهدُ الجديدُ بدَمي الذي من أجلِكم يُراقُ. 21لكنْ هي يدُ مُسَلِّمي على المائدة. 22وابنُ الإنسانِ ذاهبٌ كما قُضيَ. لكنِ الويلُ لذلك الرجلِ الذي بيدِه مُسلَّمٌ أنا. 23وبدأوا يَتعقَّبون فيما بينهم: مَن هو منهم يا تُرى عتيدٌ أن يَصنعَ هذه؟

*  *  *

1. الإطار: أسبوع الآلام

حين نعيش خميس الأسرار بما فيه من فرح وبهجة لأنَّه اليوم الذي فيه تأسَّس سرُّ الأسرار، سرُّ الإفخارستيَّا، كما تأسَّس الكهنوت، كما قال يسوع للرسل: "اصنعوا هذا لذكري." حين نعيش هذا الخميس لا ننسى أنَّه يقع في قلب أسبوع الآلام. بين الأربعاء الذي فيه تتذكَّر الكنيسة خيانة يهوذا والجمعة الذي في تتذكَّر صلب المسيح وموته.

لهذا بدأ هذا النصُّ مع الكلام عن المؤامرة عن يسوع. وانتهى بكلام على خيانة يهوذا. من هم أصحاب المؤامرة؟ عظماء الكهنة. هم أعضاء في أسرة الكهنة الأرستوقراطيَّة، كما نقرأ في سفر الأعمال (4: 6) أو الموظَّفون الكبار في العالم الكهنوتيّ. مبدئيًّا، هم الذين يملكون السلطة في الهيكل كما يملكون المال. وقد ندَّد يسوع بمحبَّتهم للمال. هي الهيئة الرسميَّة. ومعها الهيئة الفكريَّة: الكتبة. ينسخون التوراة وبالتالي يعرفونها غيبًا ويفسِّرونها للشعب. هم "علماء التوراة."

الهدف: القضاء على يسوع. إزالته. ولكنَّ الطريقة؟ فهم يخافون من الشعب الذي هو مع يسوع، كما سبق لوقا وقال: "كان الشعب متعلِّقًا بما يسمع منه" (19: 28)، بما يصدر من شفتيه.

وانزاحت الصعوبة. الشيطان ذاك الرافض لمشروع الربّ. كان جرَّب يسوع ثلاث مرَّات فلم يُفلح. فتركه إلى حين (لو 4: 13). وها هو الوقت المناسب. "دخل في يهوذا". وليس أيَّ يهوذا، بل "الإسخريوطيّ". بل الذي هو من الاثني عشر. ما كان الرؤساء يعرفون. أمّا يهوذا والذي معه فطرحا المشروع على عظماء الكهنة والطريقة التي بها يتنفَّذ. وكان اتِّفاق على المال الذي يُدفَع لمن كان يحبُّ المال، كما قال إنجيل يوحنّا (12: 6).

"الفرصة". متى تأتي؟ والمهمّ: "بعيدًا" عن عيون الشعب. ولا شكَّ أنَّ أفضل وقت هو الليل والظلمة... في مثل تلك الساعة ترك يهوذا الجماعة، كما يقول يوحنّا (13: 30) وهكذا سار يهوذا مع الشيطان وترك السير مع يسوع. فضَّل الظلمة على النور لأنَّ أعماله شرِّيرة. فلو كان عمله حسنًا لكان اختار النور. في أيِّ حال، هكذا كان يفعل المسيحيُّون الأوَّلون في الوشاية على إخوتهم إلى السلطة ويقبضون المال. وهكذا عرف الجنود الرومان ببولس وسجنوه بانتظار أن يُقطَع رأسه على طريق أوستيا. كما وشوا ببطرس فمات مصلوبًا لا مثل معلِّمه، بل رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى.

 

2. وكان عيد الفطير

خارجيًّا، وبداية، احتفل يسوع بعيد الفطير أو الخبز بلا خمير، كما كان اليهود يفعلون في بدر نيسان. كان العيد عيدين في الأساس: عيد المزارعين وفيه يزيلون كلَّ أثر للغلَّة القديمة ويأكلون من الغلَّة الحديثة. لا وجود للخمير الذي يدلُّ على الفساد. وهكذا يذبحون حملاً ابن سنة. يأخذون من دمه ويمسحون أوتاد الخيمة ليمنعوا روح الشرِّ في انتقالهم الذي قد يمتدُّ أيَّامًا. ذاك ما يُدعى عيد الفصح أو العبور. ولمَّا وصل العبرانيُّون إلى أرض فلسطين، دمجوا عيد الفصح وذبح الحمل مع عيد الفطير والخبز بلا خمير فصاروا يعيِّدونهما مدَّة أسبوع كامل.

وفي زمن المسيح، كان القادرون يأتون إلى أورشليم، فتُذبَح حملانهم في الهيكل بعد ظهر الرابع عشر من نيزان (آذار-نيسان). يكونون بين عشرة وعشرين شخصًا. يحتفلون بالعيد ويتذكَّرون الخروج من مصر مع جميع الحسنات التي نالوها خلال المسيرة في البرِّيَّة.

ذاك ما فعل يسوع مع تلاميذه في تلك الليلة التي سبقت آلامه. وسبق له أن احتفل معهم بالعيد سنتين متتاليتين. أرسل بطرس ويوحنّا ليعدَّا الفصح. هو اتَّخذ المبادرة منذ عزم أن "يصلِّب وجهه" ويصعد إلى أورشليم (لو 9: 51). مبادرة الحياة تجاه مبادرة الموت التي يُعدُّها خصومه. إلى أين يمضي الرسولان؟ عند دخول المدينة ينتظرهما رجل "حامل جرَّة ماء". حالاً يعرفاه لأنَّ الرجل لا يحمل الجرَّة، بل المرأة. نلاحظ بأيِّ عناية. يجب أن لا يعرف أحد بمكان العشاء. وخصوصًا يهوذا.

"علِّيَّة". غرفة عالية. في الطابق الثاني، كما كان الوضع في شرقنا القديم. البيت الواسع في الطابق الأرضيّ. ثمَّ غرفة واحدة. عالية، بعيدة عن عيون المارَّة. في علِّيَّة استقبلت إيليّا أرملةُ صرفت صيدا (الصرفند الحاليّ). وهناك أقام لها ابنها من الموت. والشونميَّة اتَّفقت مع زوجها وصنعا علِّيَّة لإليشع فيها يختلي للصلاة.

وعلِّيَّة صهيون كما يدعوها التقليد، احتفلت بأوَّل قدَّاس في العالم. فصارت موضع اجتماع الرسل. يأتيهم يسوع بعد القيامة، مرَّة أولى ومرَّة ثانية. وفي تلك العلِّيَّة أيضًا حلَّ الروح القدس على التلاميذ، فانطلقوا يحملون البشارة.

 

3. هذا هو جسدي، هذه كأس دمي

في وقت أوَّل، احتفل يسوع مع تلاميذه بالفصح القديم، بالفصح الذي كان اليهود يحتفلون به ولا يزالون يحتفلون. في تاريخ قريب من التاريخ الذي فيه يعيِّد المسيحيُّون صلب المسيح وقيامته. وفي وقتٍ ثان، انتقل إلى الفصح الجديد، إلى عبور من الموت إلى القيامة يتمُّ الآن في السرِّ وفي الرمز، بانتظار أن يتمَّ في الحقيقة وفي الواقع، حين يقدِّم لنا الربُّ جسده على الصليب وآخر نقطة من دمه بعد أن طعنه أحد الجنود بحربة.

"الساعة". في معنى أوَّل، ساعة ذبح الحمل. ولكنَّ المعنى الأهمّ هو الذي يشير إليه الإنجيل الرابع مرارًا: ساعة الصلب والموت التي ترمز إليها ساعةُ الاحتفال بالإفخارستيَّا "شهوة اشتهيتُ". رغبة ما بعدها رغبة. الرغبة الأخيرة قبل الآلام. كان اليهود ينتظرون "العشاء المسيحانيّ" في خلاص نهائيّ. على مثال ما قالت الرسالة إلى العبرانيِّين بالنسبة إلى يوم التكفير الذي يتمُّ كلَّ سنة. فلو أنَّه نال النتيجة النهائيَّة لما كانت الحاجة إلى تكراره سنة بعد سنة. أمّا يسوع فبذبيحة واحدة نال الخلاص الأبديّ. ومن حيث إنَّه مات، مات مرَّة واحدة ومن حيث إنَّه حيّ، فهو حيٌّ إلى الأبد.

وهكذا نقول عن عشاء يسوع. في مساء الخميس يتمُّ في ملكوت الله، ولا حاجة إلى الاحتفال به مرَّة في السنة. من المؤسف أن تكون جماعات مسيحيَّة تحتفل بالفصح كما يحتفل به اليهود. يأكلون الخبز ويشربون الخمر. ويتوقَّفون هنا. فما عمله يسوع ذاك الخميس يشبه ما يعمله اليهود اليوم.

أمّا يسوع فوضع حدًّا لخبز فطير يُؤكَل في إطار يهوديّ، وفي خمر تُشرَب. كلُّ هذا تحوَّل. فمع يسوع هو الفصح النهائيّ. لا ذبيحة دمويَّة بعد ذبيحة المسيح على الصليب ولا فصح يهوديًّا للمسيحيِّين بعد هذا الفصح الذي مارسه يسوع مع تلاميذه "ليلة آلامه".

فالخبز لم يعد خبزًا. صار جسد المسيح. هو المسيح يقدِّم ذاته. وإذ نحن نأكل الخبز ونشرب الكأس نتَّحد بالمسيح مرَّة بعد مرَّة وننتظر مجيئه. والخمر لم تعُد خمرًا. صارت دم المسيح. وإذا كان الدم علامة الحياة، فهذا يعني أنَّ يسوع يأتي بكلِّيَّته، يأتينا حيًّا ليعطينا حياة من حياته. لهذا، لا يكون المصلوب على الصليب في طقوسنا الشرقيَّة. فالمسيح صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. وهو لا يأتينا مائتًا، بل حيًّا.

فصح جديد، عهد جديد بواسطة يسوع المسيح، الذي لا وسيط غيره بين الله والبشر (1 تم 2: 5). أراد بعض المسيحيِّين في الكنيسة الأولى أن يعودوا إلى موسى. كلاّ. لا وسيط سوى يسوع المسيح. لا قبله ولا بعده. وما يُقال غير ذلك، أنبياء كذبة ومسحاء كذبة يحاولون أن يُضلُّوا الكثيرين. غير أنَّ يسوع أرادنا أن نكون "مخلِّصين" معه ووسطاء معه باتِّحاد به. أرادنا أن نتألَّم معه ونتمِّم آلامه، فما قيل لنا أن نكون "مشاهدين" من الخارج كما فعله لنا. فهذا العهد الجديد الذي قطعه يسوع بدمه، لا يمكن أن يزول ولا أن يتبدَّل. يسوع الرأس ونحن الأعضاء. نحن معه وهو معنا. "ولا يستحي بأن يدعونا إخوته" وأخواته.

 

وما نقرأ في الرسالة إلى كورنتوس، صورة عن الاحتفال بالإفخارستيَّا في بداية الكنيسة كما عرفه بولس في حوران وجرش وعمّان، في ما يسمَّى "العربيَّة" بحسب التقسيم الإداريّ الرومانيّ Arabia.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM