تأنَّس الله ليؤلِّه الإنسان

 

تأنَّس الله ليؤلِّه الإنسان

 

ميلاد الربِّ يسوع (عب 1: 1-12؛ لو 2: 1-20)

 

1وحدَثَ في تلكَ الأيّامِ أنْ خرجَ أمرٌ من أوغسطُسَ قيصَرَ أن يُكتَبَ شَعبُ مملكتِه كلُّه. 2وهذا الاكتتابُ كان الأوَّلَ في ولايةِ قيرينيوسَ في سوريَة. 3وذاهبًا كان كلُّ واحدٍ ليَكتتِبَ في مدينتِه. 4وصعِدَ يوسفُ أيضًا من الناصرة، مدينةِ الجليل، إلى اليهوديَّة، إلى مدينةِ داود، المدعوَّةِ بيتَ لحم، لأنَّه كان مِنْ بيتِ داودَ ومن قبيلتِه. 5مع مريمَ خطِّيبتِه وهي حاملٌ، لكي يُكتَتَبَ هناك. 6وحدثَ أنَّه بينما هما هناك، تمَّتْ أيّامُها لتَلِد. 7فولدتِ ابنَها البكر ولفَّتْهُ بالأقمطة، ورمَتْهُ في مذود، لأنَّه لم يكُنْ لهما مكانٌ حيث كانا حالَّين.

8ورعاةٌ كانوا موجودِين في هذا المكان، الذي فيه كانوا حالِّين وحارسِينَ حِراسةَ الليلِ على رعيَّتِهم. 9وها ملاكُ الله أتى إليهم، ومجدُ الربِّ أنارَ علَيهم، فخافوا خوفًا عظيمًا. 10فقالَ لهم الملاك: “أنتم لا تخافون، فها أنا مُبشِّرُكم بفرحٍ عظيمٍ يكونُ للعالم كلِّه: 11لأنْ وُلدَ لكم اليومَ مُخلِّصٌ الذي هو الربُّ المسيح، في مدينةِ داود. 12وهذه لكم علامة: واجدونَ أنتم طِفلاً مَلفوفًا بأقمطَة، ومَوضوعًا في مِذْوَد.” 13وفجأة تراءى مع الملاك قوَّاتٌ كثيرة مِنَ السماء، وهم مُسبِّحون وقائلون: 14“المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرضِ السلام، والرجاءُ الصالحُ لبَني البشر.”

15وحدثَ أنَّه لمّا ذهبَ من عندِهم الملائكةُ إلى السماء، تكلَّمَ الرعاةُ الواحدُ مع الواحد، قائلين: “نسيرُ حتّى بيتَ لحم ونَرى الكلمةَ هذه التي كانَت كما الربُّ أعلمَنا.” 16وأتَوا مُسرعين فوجدوا مريمَ ويوسفَ والطفلَ الموضوعَ في المذودِ. 17ولمّا رأَوا أَخبروا بالكلمةِ التي قيلَتْ لهم على الصبيّ. 18والذين سمِعُوا تَعجَّبوا كلُّهم مِنَ (الكلمة) التي قيلَتْ لهم من قِبلِ الرعاة. 19أمّا مريمُ فكانَتْ حافظَةً كلَّ الكلماتِ هذه ومُتمعِّنةً بها في قلبِها. 20ورجِعَ أولئكَ الرعاةُ وهم مُسبِّحون الله ومُهلِّلون على كلِّ ما رأوا وسمِعوا كما قِيلَ معَهم.

*  *  *

حدثٌ غيَّر وجه الكون

تلك نهاية مسيرتنا في محطَّة أولى خلال السنة الليتورجيَّة. بعد استعداد طويل، ها نحن نعيش الحدث الذي غيَّر وجه الكون. انتظر الناس طويلاً أن يأتي الله على الأرض. فقال الشعب اليهوديّ: ليتك تشقُّ السماوات وتنزل علينا كالمطر. وها هو فعل، فصار طفلاً في مذود، شأنه شأن جميع الأطفال الفقراء الذين لا بيوت لهم. وانتظر الشعب الرومانيّ ذاك الذي يجعل السلام في عالم لم تتوقَّف فيه الحروب. فجاءت الملائكة وأنشدت لنا المجد في العلى، والسلام على الأرض، خصوصًا للذين ينعمون برضى الله.

بعد أن تحدَّث لوقا عن مولد يوحنَّا، ها هو يتحدَّث عن ميلاد المسيح. جاء الأوَّل في إطار احتفاليّ واسع، عرفت به كلُّ جبال يهوذا. أمّا مولد يسوع فجاء متواضعًا: لم يكن يسوع في قريته، الناصرة، بل في بيت لحم. لم يكن له موضع مثل سائر الناس، فكأنّي به كان مهجَّرًا. استقبله بعض الأقرباء، وربَّما الغرباء وما شدَّد عليه لوقا هو وضاعة هذا الطفل تجاه سيِّد المسكونة. ولكن، في النهاية، يسوع وحده هو سيِّد المسكونة كلِّها التي قام أوغسطس بإحصائها.

 

طفل في مذود

أوَّل ما يلفت نظرنا في هذا المشهد، طفل صغير لُفَّ بالقُمط: لمّا ولدته مريم لفَّته بالقمط. ولمّا تحدَّث عنه الملاك أخبر الرعاة والمجوس عن طفل ملفوف بالقمط. ولمَّا جاء الرعاة وجدوا الطفل الموضوع في المذود. عن هذا الطفل سوف يتكلَّم الرعاة، بعد أن وجدوا فيه أكثر من طفل عاديّ. لا شكَّ في أنَّه يشبه أطفالنا، ولكنَّه في العمق بعيد عنهم كلَّ الابتعاد. وجهه يشعُّ وعيناه. فإن كان للقدِّيسين وقع في نفوسنا، فما كان وقع يسوع في قلب هؤلاء الرعاة البسطاء الذين لهم كُشف الملكوت.

هذا الطفل هو في مذود. البيت طويل: فيه غرفة لأهل البيت، وغرفة يوضع فيها الحمار والثور والنعجة لئلاَّ تُسرق. فكيف لمريم أن تلد ابنها إلاَّ في الغرفة الثانية؟ ففعلت كما تفعل جميع النساء في عصرها وفي محيطها. وجعلت ابنها في مذود لئلاَّ تدوسه أقدام البهائم. وهكذا لم يتميَّز يسوع بشيء عن الفقراء في أيَّامه. فمن بقي على مستوى الجسد، لا يلفت نظره شيء. أمّا من نظر نظرة الإيمان. فهذا الطفل هو حضور الله وسط البشر. وهذا ما أفهمنا إيَّاه لوقا حين جعل الملائكة ينشدون في السماء، والملاك يحمل البشرى على الأرض. فكما كان الملاك عند القبر في القيامة، فهو هنا في الميلاد. ذاك الذي يدلُّ على حضور الله "الملموس" بين البشر.

 

طفل هو المسيح المخلِّص

انتظر الشعب اليهوديّ الخلاص بواسطة ملك يختاره الله على الأرض، أو بواسطة مَن يرسله على سحاب السماء. وها التقى الانتظاران في شخص يسوع الذي هو أكثر من مختار الله: إنَّه ابن الله. وهذا الابن صار ابن البشر. صار الله إنسانًا ليجعل الإنسان ابن الله. تأنَّس ليؤلِّه الإنسان. قيل لنا في المزمور: أنتم آلهة. أجل، نحن البشر نشارك المسيح في ألوهيَّته بعد أن اشترك في بشريَّتنا.

يسوع هو المسيح. مسحه الله الآب، وأعلنه ابنًا له في العماد في الأردنّ. ولكنَّ يسوع هو المسيح منذ بداية حياته. قال منذ دخوله إلى العالم: ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا الله. وبدأت تتمُّ هذه المشيئة حين تنازل الابن وامَّحى متَّضعًا، فصار شبيهًا بنا في كلِّ شيء. هو حقًّا الملك الذي جاء يحمل الخلاص. وهذا ما فهمه الرعاة، فجاؤوا مسرعين إلى ذاك الملك السماويّ الذي يحمل إليهم خلاصًا طالما انتظرته الأرض.

وخلاص يسوع لا ينحصر بالصليب وفي الجمعة العظيمة. فمنذ ساعة تجسُّده في حشا أمِّه بدأ عمل الخلاص الذي سيتمُّ في الموت والقيامة والصعود. أجل، يسوع هو المخلِّص منذ مولده في بيت لحم. والإيقونات الشرقيَّة ترينا المذود وكأنَّه القبر الذي خرج منه يسوع قائمًا، منتصرًا، حاملاً الخلاص للأحياء والموتى.

 

طفل هو الربُّ وسيِّد الأرض

بدأ لوقا فحدَّثنا عن أوغسطس، إمبراطور رومة، فوصل إلى والي سورية، إلى كيرينيوس. صدرت الأوامر فأطاع الناس. ولكنَّها طاعة الإكراه لأنَّ في هذا الإحصاء ضبطًا للضرائب وإرهاقًا لكاهل الشعب. وحدَّثنا عن المسكونة وكأنَّ أوغسطس سيِّد المسكونة كلِّها، لكن مهما اتَّسع سلطانه يبقى ملكه محدودًا. ثمَّ إنَّ هذه الممالك الأرضيَّة يسيطر عليها الشيطان واستعدَّ لأن يعطيها ليسوع حين جرّبه في البرِّيَّة. ولكنَّ الإنجيليّ أفهمنا أنَّ هذا الطفل هو الربُّ الذي تسجد له كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض، وهو وحده سيِّد الأرض كلِّها، وسيجمع البشريَّة ويقدِّمها لأبيه السماويّ بعد أن يُبطل كلَّ رئاسة وكلَّ سلطان وكلَّ قوَّة.

 

خلاص شامل

الخلاص الذي يحمله الربُّ يتوجَّه إلى العالم كلِّه، وبشَّر به الملائكة بفرح عظيم. إنَّه لا ينحصر في شعب من الشعوب، ولا في فئة من الفئات، بل يتوجَّه إلى كلِّ خليقة تحت الشمس. والشرط الوحيد، أن نتقبَّله كما تقبَّلته مريم ويوسف، وأن نذهب إليه كما فعل الرعاة. نتقبَّله بالصمت والإعجاب، نتقبَّله بالصلاة والتسبيح، ونخبر عنه جميع من نلتقي بهم على ما فعل الرعاة.

حدَّثتنا الرسالة إلى العبرانيِّين عن مسيرة الكلمة منذ الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، منذ الأنبياء إشعيا وإرميا وحزقيال، إلى أن حلَّت في يسوع المسيح. كلُّ ما كان من كلام قبله، وجد كماله في ما قاله هو، فهو الابن، وهو الكلمة. استعدَّ له الشعب الأوَّل، بل استعدَّت له البشريَّة كلُّها. ولمَّا جاء إلى الأرض سجدت له الملائكة ودلَّت على خضوعها له. فيسوع هو الابن ولاسمه تسجد السماء والأرض.

 

عيش الكلمة

عيد الميلاد هو عيد الفرح والبهجة، سيطر بوجهه العالميّ على عيد الفصح والقيامة. فالناس يستعدُّون له بتقديم الهدايا وشجرة الميلاد والمغارة وبابانويل. وجه خارجيّ يجعل الأطفال في المقدِّمة، كما سيكونون كذلك حين دخول يسوع إلى أورشليم. للولد مكانة في الكنيسة، بل المكانة الأولى بعد أن عيَّدنا يسوع الطفل الإلهيّ. ولكن لا يقف العيد عند هذا الحدّ، بل يدفعنا إلى التفكير في مَن لم يعيِّدوا، وإلى التأمُّل بمعنى هذه الولادة في حياتنا. نحن الذين تقبَّلنا سرَّ العماد يُطلب منَّا أن نتخلَّق بأخلاق المسيح، فيصبح كلُّ واحد منَّا إنسانًا جديدًا، أو هو يبدأ المسيرة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM