الفصل السابع والعشرون: خطبة اسطفانس موسى المحرّر والمخلص

الفصل السابع والعشرون
خطبة اسطفانس موسى المحرّر والمخلّص
7: 35- 43
اختلفت النبرة بين خبر موسى وخبر يوسف. فيوسف لم يُرفض بقوة كما رُفض موسى (هذا في خطبة اسطفانس). ولكن يوسف وموسى هما مخلّصان لشعبهما بقيادة الله. كل له طريقه. واحد عرف الذلّ قبل أن يُرفع من أجل خلاص عائلته. وآخر تسلّم مهمة تخليص الشعب دون أن يُرذل. ولكن عرض الخطيب الشخصين بشكل يتيح للقارئ المسيحي أن يرى فيهما السابقين لوحي الخلاص النهائي الذي وصل إلى بني إسرائيل، أعني به يسوع المسيح.
بعد أن تحدّثنا عن حياة موسى، نتوقّف عند مهمته كمحرّر ومخلّص لشعبه. كيف بدا موسى في هذه المهمة، وكيف استقبل الشعب المهمة التي حملها إليهم؟
أ- موسى هو الذي... (آ 35- 38)
مع آ 35- 43، تنتهي خطبة اسطفانس عن موسى. وبعد ذلك، سيلقي الخطيب نظرة سريعة إلى تاريخ الشعب ليصل إلى هدفه. غير أننا نقسم أ 35- 43 قسمين. الأول: تقديم صورة عن موسى (آ 35- 38).
الثاني: تقرير عن عبادة الأصنام التي وقع فيها بنو إسرائيل (آ 39- 43). أما الرباط بين الاثنين فهو آ 39: إنها تقدّم عبادة الأصنام على أنها عصيان لموسى ورفض الشعب له. هناك موضوعان نعالجهما على التوالي دون أن نفصل الواحد عن الآخر.
1- نظرة عامة
تبدأ آ 35 مع "هذا موسى". وتعود العبارة نفسها في آ 35 ب (هو الذي)، آ 36 (هو الذي أخرج من مصر)، آ 37 (موسى هذا الذي قال)، آ 38 (هو الذي في جماعة البرية). هذا التكرير لإسم الإشارة “هذا”، يدلّ على أن هناك شخصاً يدور حوله كل شيء: إنه موسى. ونعود في آ 35 إلى الماضي فنكرّر ما قلناه في إطار الخبر (آ 27) بحيث يرتبط فهم الشخص فهماً خاصاً بالخبر السابق.
لقد رأى اسطفانس عظمة موسى في ما عمل في البرية وفي ما قال. إن كان في ما قاله عودة إلى المسيح، فهذا لا يحرم موسى من مديح يقوله فيه الكاتب. بل إن نبوءة موسى عن المسيح (سيقيم الله لكم نبيا مثلي أنا موسى) هي مجد يزاد على ما أتمّ يسوع بالنسبة إلى موسى.
يتميّز هذا النمط الجديد بإجمالة عن خبر البرية (بدلاً من لائحة أحداث)، باستعمال مكرّر لأسم الإشارة (هذا)، باستعمال إسم الفاعل (في اليونانية صانعاً العجائب، قائلاً لنبي إسرائيل، صائراً وسيطا) العائد إلى موسى والمتكلّم عن أعماله، بالمعارضة بين موسى كما يراه الشعب وكما يراه الرب. وإذا عدنا إلى المديح المفخم في آ 53 عن الشريعة لأن الملائكة حملوها، نرى إن ذكر الملاك في آ 35، 38 يمجّد ذلك الذي عمل مع الملائكة.
هناك نقطة مهمة نأخذها بعين الاعتبار. لا يتحدّث النص إلا عن موسى. وهذا ما يساعدنا على التعرف إلى علّو قدره. هو لا يدخل في إطار خبر لنفهمه بواسطة هذا الخبر. فهو الذي يعطي الخبر معناه. وإذا كانت آ 37 تحمل بعداً كرستولوجياً، فهذا لا يخفّف من قدر موسى، بل يزيده. هل نسينا أن خطبة موسى تقدّمه على أنه صورة عن يسوع المسيح.
2- بنية آ 35- 38
حين ننظر إلى آ 35- 38، نجد أننا نستطيع أن نقسمهما إلى شقين.
الأول: تقدم آ 35- 36 إجمالة عن خبرة البرية. والعبارة الأساسية هي "أربعون سنة". فهي تقودنا في متتالية العهد القديم إلى اعتبار الآيات التالية خبراً عن الأحداث التي حصلت لموسى بعد مسيرة الأربعين سنة. إلا أننا نلاحظ أن خبراً يتبع هاتين الآيتين، فيعود بنا مؤقتاً إلى بداية خبر الصحراء، إلى ما سيحدث بعد الأربعين سنة. غير أن الخبر الذي يتأصل في آ 38 يتضمّن رفضاً لموسى الذي قيل عنه أنه كان مع الملاك وبني إسرائيل في سيناء، أنه تلّقى كلمات الحياة ليعطيها للعبرانيين. وهكذا فإن آ 35- 36 تلّخصان خبرة الخروج كلها على أنها نشاط موسى كمخلّص. وتعود آ 38 إلى بداية خبرة البرية لتشدّد على وجهة مختلفة لطبع موسى.
الثاني: ندخل إلى إطار مقدمة خبر العجل الذهبي لنجد تفسير آ 37. إن أ 38 تتبع
آ 37، لأن الاثنتين تتعلّقان بطابع موسى النبوي. قد ذكرنا سابقاً أن موسى أرتفع قدراً لدى المسيحيين حين وعد أنه سيقوم نبيّ مثله. وموقع "هذا هو" في مكان مهم من آ 37، يدلّ على أهمية المقابلة بين موسى والمسيح (وهذا ما لا نجده في السبعينية). وتبرز الملاحظة عن النبي بألفاظ آ 38 حيث يتميّز موسى بأنه كان وسيط كلمة الحياة لدى إسرائيل. وهكذا تسير آ 37- 38 معاً كمقدمة لحدث العجل الذهبي. وتوجز آ 35- 36 خبرة موسى كمخلّص في الصحراء. غير أننا نشدّد من جديد على أن هذه الآيات الأربع تشكل وحدة على مستوى الأسلوب. إنها تبرز وجه موسى قبل أن تحاول إعطاءنا خبراً عنه.
3- من آ 25 إلى آ 35
قال المعتدي لموسى: "من جعلك علينا رئيساً وقاضياً" (آ 25)؟ وسيقول له شعبه الكلام عينه في آ 35. نحن هنا أمام رفض بني إسرائيل لموسى. لم نعد أمام رجل واحد، بل أمام بني إسرائيل. فالكاتب يفسّر أول أحداث حياة موسى على ضوء خبرة الصحراء. والرفض هو عمل معروف لدى بني إسرائيل ولا يقتصر على ساعة غضب في مصر. وإذ يستعيد اسطفانس خبر آ 23- 28، فهو يُجمل رفض العبرانيين بسؤال: "من جعلك رئيساً وقاضياً"؟ يتضمّن العهد القديم عدداً من الأقوال التي تتحدّث عن مثل هذا الرفض. غير أن اسطفانس يكتفي بما يعتبره مهماً. من سلّم موسى المهمة ومن أعطاه السلطة لكي يكون رئيساً وقاضياً؟ يشدّد الكاتب هنا على نقطتين. الأولى، رفْضُ من اختاره الله بنفسه. الثانية، إعطاء موسى لقباً يذكّر المسيحيين بوظيفة المسيح ودوره.
الأولى: حين تتقارب لفظتان متعارضتان، نفهم جنون العبرانيين وضلالهم: رذلوا الشخص الذي اختاره الرب بنفسه! وإن آ 25 لاتقدّم مسبقاً دفاعاً عن بني إسرائيل على أنهم أبرياء، على أنهم "لم يعرفوا في وقت قتل المصري أن الرب اختار موسى". فإن آ 25 تقول إن موسى ظن أن أخوته سيفهمون، وفكرة الخلاص كهدف لمهمة موسى ورسالته تصبح متشعّبة حين يفرض علينا الكاتب أن نفكر برفض موسى المأساوي، خصوصاً حين نقابله بعظمة موسى الذي اختاره الله.
الثانية: نجد في إطار لوقا تشديداً على الرفض وعدم الفهم في أسلوب سفر الأعمال (3: 23- 15؛ 5: 30- 31). فكرة الرفض يتبعها التمجيد يعبَّر عنه جزئياً "بالألقاب". نجد الأسلوب عينه في خبر يوسف كما نقرأه في الخطبة. فهذا الأسلوب في التحدّث عن صور العهد القديم وعن المسيح، يدلنا على يقين لدى الكاتب، وهو أن حياة الآباء الأولين في إسرائيل تجمل حياة يسوع نفسه وتسبّق عليها. والأمر واضح خصوصاً في استعمال كلمة "لوتروتيس" (فادي، مخلّص، رج لو 1: 68؛ 2: 38). فهذه الكلمة لا تستعمل كلقب في العهد الجديد، بل تستعمل مرتين في سفر المزامير وتطبّق على الله في السبعينية. فهذان الاستعمالان يرتبطان (في لاهوت العهد القديم) بالخلاص الذي يحمله فادٍ . ونجد هذه الكلمة مطبّقة على موسى. يسمّى الفادي، لا لأنه أرسل ليخلّص إسرائيل وحسب، بل لأن تلك التسمية تجعل قراء لوقا يتذكرون ما في لو 1: 77 (الخلاص في غفران خطاياهم) وفي أع 26: 18. فموضوع الفداء المرتبط بموضوع رفض مخلّص أرسله الله يدفعنا أن نرى هنا تلميحاً آخر إلى يسوع المسيح وخبرته.
4- العجائب والآيات (آ 36)
"أخرج شعبه من مصر بما صنعه من العجائب والآيات". إن آ 36 تدلّنا مجدّداً على قوة موسى كمخلّص وفادٍ لشعبه. واستعمل الكاتب التقسيم المثلث عن خبرة البرية كما عرفها معاصروه: مصر، البحر الأحمر، البرية. تغطّي هذه الإجمالة كما قلنا فترة أربعين سنة. وهي تبدأ بأداة "هذا هو الذي" اختاره الله فرفضتموه أنتم. أو هذا هو الذي رفضتموه. أما الله فاختاره كما فعل مع يوسف. تعارضٌ بين الذي قبله الله ورفضوه هم. وهكذا يقابل السامعون بين نفوسهم وبين آبائهم.
ويُبرز اسطفانس وجه موسى بعبارة “العجائب والآيات “ التي نجدها مراراً في العهد القديم. هنا نتذكر يوئيل النبي (3: 1- 5) كما ورد في أع 2: 17- 19: "أفيض من روحي في تلك الأيام فيتنبأون كله. وأعمل عجائب فوق في السماء وآيات تحت في الأرض".
طبّق الكاتب هذه العبارة (عجائب وآيات) على نشاط المسيح في 2: 24 حالاً بعد إيراد يوئيل: "يا بني إسرائيل اسمعوا... كان يسوع الناصري رجلاً أيده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والمعجزات والآيات". هذه الآيات والمعجزات تبزر يسوع المسيح، وتدلّ على أن الله كان راضياً عنه. وما إن أنهى بطرس خطبته حتى بدأ الرسل نشاطهم من أجل الله وتعليمه. كيف سيعرف الشعب أنهم خدام الله الحقيقيون؟ هنا يصوّر الكاتب الرسل كما صوّر معلّمهم: "وتمّت عجائب وآيات كثيرة على أيدي الرسل" (2: 43). هذه الإجمالة تدل على تواصل مثل هذا النشاط. وسنقرأ أيضاً في 5: 12: "وجرى على أيدي الرسل بين الشعب كثير من العجائب والآيات". يُوصف التلاميذ كما يُوصف يسوع: "مدّ يدك لتأتي بالشفاء والآيات والعجائب باسم فتاك القدوس يسوع"، (4: 30). واستعمال الكلمات عينها في 7: 36 له معناه، لا سيّما وإن أع يقول الشيء عينه عن اسطفانس: "أخذ يصنع العجائب والآيات بعد أن امتلأ بالنعمة والقدرة" (6: 8). وتُقال العبارة عينها في بداية مهمة بولس: "وكان الرب يشهد لكلامهما (بولس وبرنابا) على نعمته بما أجرى على أيديهما من العجائب والآيات" (14: 3). وفي النهاية، لخص برنابا وبولس نشاطهما أمام مجمع أورشليم بما يلي: "استمعوا إلى بولس وبرنابا وهما يرويان لهم الآيات والعجائب التي أجراها الله على أيديهما" (15: 12).
هذه العبارة التي نجدها في سفر الأعمال ترتبط بفيض الروح القدس، وبنشاط يسوع الأساسي. أما جذور هذه العبارة فنجدها في سفر الخروج. وفي أع 7: 36، يذكّرنا موسى بالمسيح والمسيحيين. وتسليمه مهمة من قبل الله على سيناء يظهر عبر أربعين سنة من الآيات والمعجزات.
وهناك آ 37 بمعناها الكرستولوجي ككل. ونستطيع أن نقابلها مع 3 : 22 (قال موسى للآباء: سيقيم الرب إلهكم). ففي الحالتين نحن في إطار الأنبياء والعهد مع إبراهيم وموسى كسابقين للمسيح. يتحدّث اسطفانس عن موسى ويتطلّع إلى المسيح، وإلى المسيحيين. فرغم العجائب والآيات رذلهم الشعب اليهودي، كما رذل آباؤهم موسى.
5- موسى الوسيط (آ 38)
بين التفاصيل التي تبرز عظمة موسى، هناك وساطته بين الله والشعب ليعطيهم كلمة الله. حين نتطلّع إلى جذور آ 53، نلاحظ أن الملائكة هم وسطاء بين الله وموسى، دون أن يكون هذا مخففاً من قيمة الشريعة. فوساطتهم بالنسبة إلى الشريعة هي علامة على علّو مكانتها. ونرى أيضاً في ظهور الملاك في العلّيقة أنه لا يريد أن يقلّل من شخص موسى أو دوره مع الرب. ونقول الشيء عينه حين نقرأ آ 38: لا إشارة إلى أن الملاك الذي كلم موسى في سيناء خفف من قدر موسى. بل رفع من قدر موسى في عمله كوسيط.
مهما كانت وظيفة الملاك المذكورة في آ 38، فلا شك في أن موسى يصوَّر كالوجه الأساسي، كالوجه الضروري لوساطة بين الله وبني إسرائيل. وهذه العظمة تعود إلى علاقة فريدة بين الله وموسى. وعبارة "كلمات حية" ترفع من قيمة وظيفة موسى الذي لا يحمل إلى شعبه كلاماً كما يفعل غيره، بل يحمل إليه كلمة الحياة. وهكذا، فإن رفض كلمات الحياة يعني كارثة على مستوى الشعب كله.
وهكذا نرى في آ 38 وجهتين من دور موسى كنبي، وجهتين تزادان على وساطته الفريدة من أجل إسرائيل. هي لا تروي ما سبق وحسب، بل تهيّئ الدرب كما يأتي، أعني خبر العجل الذهبي. مع آ 38، أنهى الكاتب الجدال حول وجهتين رفيعتين في حياة موسى: دوره كرئيس وفادٍ ، دوره كنبي. وفي كلتا الوجهتين، تطلّع إلى السر المسيحي، إلى آخر رئيس وفادٍ ونبي.
وترافق عظمة موسى وجهةُ الرفض. بدأنا فرأينا موسى يرذله شخص واحد إسرائيلي، ونرى في النهاية أن الأمة كلها ترذله. ولكننا نكتشف في الوقت عينه الوجهة الثانية: رذله إسرائيل ولكننا تعرّفنا إلى رأي الله فيه وإلى الدور الذي سيلعبه من أجل إسرائيل. وتقديم موسى هذا يتبع الخط الذي قُدّم فيه خبر إبراهيم ويوسف. بعد أن ثبّت اسطفانس الطبيعة الليتورجية لحياة إسرائيل (يعبدون الرب في هذا المكان) توسّع في خبر إسرائيل عبر اثنين من أكبر الذين افتدوه. شدّد على أن الرب أقامهما (رغم رفض الشعب لهما) من أجل خلاص شعبهما وهكذا وصل بنا الموضوع الليتورجي إلى الموضوع الكرستولوجي، وموضوع الهيكل إلى موضوع يسوع المسيح. فلقد تأثرت العبادة بقبول مرسل الله أو رفضه.
ب- كيف استقبل الشعب موسى وبالتالي الله (آ 39- 43)
ونعود إلى الخبر كما رواه العهد القديم فنكتشف أولاً دور الليتورجيا والعبادة في الكشف عن قلب العبرانيين ونواياهم الخفية (آ 39- 40). ونعود إلى فكرة العهد في آ 41- 43.
1- دور الليتورجيا والعبادة (آ 39 - 40)
تبدو آ 39 مهمة في خبر موسى عبر الموصول (الذين) الذي يربط آ 38 بما يتبع: يشدّد القارئ على رفض موسى من قبل إسرائيل في بداية سقوط سينتهي بعبادة الأصنام. رذل إسرائيل "كلمات الحياة". وهو بالتالي رذل موسى. وعبر موسى سيرذل شخصا آخر.
وهكذا نواجه حالاً رَفْض موسى على أنه بداية العبادة الكاذبة. يقرّب إلينا العهد القديم العبادة الكاذبة بشكلٍ ملفت للنظر. هو لا يقول إنهم رذلوا موسى. ولا يقول حرفياً إن بني إسرائيل عادوا بقلوبهم إلى مصر. فالعهد القديم يلاحظ فقط أن الشعب رأى موسى قد غاب أياماً عديدة، فطلب من هارون آلهة جديدة. ويتابع العهد القديم خبره بأن هارون لبّى رغبة الشعب. وهكذا وصل بنا إلى ذروة الخبر في تفسير "التجديف": "هذه آلهتك، يا إسرائيل، التي أخرجتك من أرض مصر" (خر 31: 4).
أما سفر الأعمال ففسرّ مضمون تحوّل بني إسرائيل إلى هارون قبل أن يورد ما قالوه. عصوا موسى وتحوّلوا في قلوبهم إلى مصر. إن عودة القلب هذه إلى مصر هي رفض لكل ما كان منذ الخروج. فبنو إسرائيل فضلوا الوضع القديم على الوضع الذي اختاره الله لهم. هذا لا يعني أنهم يريدون آلهة جديدة تقودهم بعيدا عن سيناء. إنهم بالأحرى يريدون العودة إلى النظام القديم، إلى ما قبل اختيار الله لهم كشعب له، وهو اختيار يفترض الطاعة لإرادته. فعل الشعب هذا "في قلبه"، فدلّ على أنه يعيش روح الجحود. ليست القضية أن يعودوا أو أن لا يعودوا "على أرجلهم". رفضوا الله في داخل قلوبهم، فكان ذاك وقت جحودهم ورفضهم لله.
وبعد أن أعطى الكاتب المدلول الحقيقي لكلام الشعب، أورد ما قالوا لهارون. طلبوا منه أن يصنع لهم آلهة: فهم لا يعرفون ما حلّ بموسى رئيسهم وفاديهم. ويبيّن الكاتب ضعف الإيمان عند بني إسرائيل. ويتأكّد اسطفانس أننا فهمنا كيف يرتبط طلب آلهة بشخص موسى. فموسى هو ينبوع الوحدة بين الله وشعبه. ونتيجة غيابه كانت أنهم رفضوه ثم جحدوا الرب. وهذه الأمثولة (يمر رفض الله عبر رفض مرسله) تبرز في تفسير معطيات العهد القديم. ومرة أخرى نرى رذل موسى المبنية على “ما فهموا”. والآن تذمّر بنو إسرائيل لأنهم لا يعرفون (أوك أويدامن). وبيّن لوقا (24: 35، 45) وسفر الأعمال (2: 17؛ 18: 26) جنون الذين لم يؤمنوا.
2- العهد مع الله (آ 41- 43)
نجد في آ 41 تعبيراً في الخارج لما تضمّنته آ 39 حيث قالت: مالوا بقلوبهم إلى مصر. تخلّى الشعب عن موسى وبالتالي عن الرب، فمالوا الآن بكلّيتهم إلى العجل الذهبي، وقدّموا الذبائح للصنم، وفرحوا بعمل أيديهم. تعود بنا العبارة الأخيرة لا إلى العجل كشيء صنعته أيديهم، بل إلى العمل الذي قاموا به عندما قدّموا الذبائح. أوجز أع خبر سفر الخروج فضمّ مدلول العجل في لفظة "صنم". هذا ما يعود بالقارئ إلى وصية سيناء "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً" (خر 20: 2؛ تث 5: 8). ثمّ في خر 20: 2: "لا تصنعوا لكم آلهة من فضة أو ذهب". وفي النهاية يقول العهد القديم عن الشعب إنهم "جلسوا يأكلون ويشربون، وبعد هذا قاموا يمرحون" (خر 32: 6). أما اسطفانس فأوضح شرّ عملهم: "فرحوا بعمل أيديهم".
إن عملية الرفض التي بدأت في آ 39 وظهرت في الخارج، قد صارت الآن دائرة كاملة: رذل الله بني إسرائيل. وليس الرفض ذاك الذي أورده العهد القديم. في العهد القديم أراد الرب أولاً أن يقتل كل بني إسرائيل وثانياً أولئك المحرضين على عبادة الأوثان. هذا العقاب هو واحد في أع وهو يشبه ما في آ 39 التي بدأت في الداخل وفي القلب ثم ظهرت في الشخص كله. نتذكر هنا أن غرس الشريعة في الداخل اتخذ معناه في فهم بني إسرائيل لعلاقتهم بالله (إر 31: 31- 34).
ارتبطت عبادة الأصنام بالمنفى. فالمنفى هو عقاب هذه الخطيئة. أما في نظر اسطفانس، فالمنفى ليس ضرورياً للعقاب. فعمل الجحود يحمل عقابه في نفسه. وكدليل على هذا العقاب الذي هو عبادة كواكب السماء، أورد اسطفانس كلمات عاموس وأنهاها بذكر المنفى. وإن لم يكن عاموس قد سمّى هذا عقاباً، وإن لم يفسره تخلياً للرب عن شعبه، إلا أن اسطفانس قد رأى هذا المدلول في عمل بني إسرائيل حين حملوا خيمة مولخ ونجمة الإله رمفان. رأى عاموس في عقاب الله نتيجة لعبادة الأصنام فقال: "سأنفيكم إلى ما وراء بابل". أما اسطفانس فأورد هذه العبادة الأخيرة ليبيّن أن عاموس رأى أيضاً في عبادة الأصنام عقاباً مباشراً من الله. غير أن اسطفانس يرى أن مجرّد حمل الأصنام لعبادتها هو في حدّ ذاته ابتعاد عن الله (آ 42).
العبادة الكاذبة تحمل عقابها في ذاتها. هذا ما أراد اسطفانس أن يقوله لسامعيه. فلا يحكموا على عمل بما سبّبه من شقاء أو منفى قد لا يحصلان، فنظن أن العلاقة لم تزل حسنة مع الله. رفضُ الله هو في نفسه العقاب الكافي.
3- خاتمة
نستطيع أن ننهي خبر موسى فنؤكّد من جديد أن عبادة الأصنام في البرية ترتبط برفض موسى. فرفْض رجل الله يصل بالشعب إلى عبادة الأصنام (لم نعد نعرف الإله الحقيقي) التي تحمل عقابها في نفسها. فعبادة إسرائيل ترتبط بقبوله ممثل الله. ورفض موسى يعني أن عبادة إسرائيل لله ليست صادقة. قد يفسَّر دمار الهيكل كنتيجة لعبادة غير لائقة بالله، وقد يحاول بنو إسرائيل أن يربطوا هذا الحدث بمصيبة وطنية. أما في نظر اسطفانس المسيحي، فالله لا يقبل عبادة بني إسرائيل حين يرفضون المسيح، ذلك الذي أقامه الله نبياً من بين إخوته على مثال موسى.
وهكذا نرى في عبادة العجل الذهبي صورة عن إسرائيل الذي رفض مرسل الله فرفضه الله. فالموضوع هو العبادة.. ولكنه يرتبط بشخص يسوع المسيح.
دعا الرب شعبه وحرّره وجاء به إلى الأرض الموعود بها. ما يكون الجواب على مشروع الله وندائه عبر شخص إبراهيم؟ هل سيفهم شعب إسرائيل أن خبر البرية هو كثر من خبر في الماضي؟ إنه حدث يعيشونه اليوم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM