الفصل الخامس والعشرون: خطبة اسطفانس، وجه يوسف

الفصل الخامس والعشرون
خطبة اسطفانس، وجه يوسف
7: 9- 16
وننتقل في هذا القسم من خطبة اسطفانس إلى خبر يوسف مع حديث عن دفن يعقوب في شكيم. نحن هنا أمام تقليد سامري يجعل مدفن يعقوب في شكيم، في الحقل الذي اشتراه يعقوب من بني حمور (تك 33: 18- 19)، لا في مغارة المكفلية (تك 50: 7 - 13) التي اشتراها إبراهيم من بني حث (تك 23: 20- 20).
تتحدّث آ 9- 10 عن خبر يوسف الشخصي. ولا تذكران كل شيء،
بل ما هو ضروري للخطبة.
وتتوقف آ12- 15 أ عند علاقة يعقوب بفرعون ويوسف.
وتصل بنا آ 15 ب- 16 لا إلى حياة يعقوب في مصر، بل إلى موته وموت الآباء ودفنهم.
هذه الأقسام الثلاثة تشكل وحدة مع التشديد على تتابع الخبر في سفر التكوين.
أ- بداية خبر يوسف (آ 9- 15)
1- خانه إخوته ولكن الرب رفعه
وتبدأ آ 9 بعبارة "هؤلاء الآباء" فتعيدنا إلى آ 8 حيث ذكر الآباء الاثنا عشر. وبعد
آ 9 تختفي عبارة "أبناء يعقوب". ولكنها وضعت هنا فدلّت على أنهم الأسس وينابيع القبائل التي ستشكّل شعب إسرائيل.
تبدو هذه الآية عرضاً مباشراً لخيانة يوسف. يروي الخطيب واقعاً ما، فيهيئنا لما يريد أن يبرزه. دخلنا في وضع يوسف كعبد، فتغيّر جذرياً فعل الفاعل. لم نعد نسمع شيئاً عن الآباء. فيوسف موضوع آ 9 سيبقى موضوع العمل المقبل. ولكن الفاعل الآن هو الله: كان الله معه. خلّصه من كل محنة. أعطاه النعمة والحكمة أمام فرعون ملك مصر. أقامه حاكماً على مصر وعلى بيت فرعون.
نجد هنا في آ 9- 10 مع نزول يوسف إلى مصر مقدّمة إلى مصيره النهائي، وحديثاً عن خلاصه مع تعيينه في الكرامة الثانية في مصر. نجد هنا ملخّصاً لحياة يوسف. حسده إخوته فباعوه عبداً. خانته عائلته فصار موضوع ألم كبير. في هذا المنعطف من حياته حصل تدخل الله: رغم أن إخوته خانوه، كان الله (دائماً) معه. أساء الناس معاملة يوسف. أما الله فخلّصه من كل مصائبه. ولم يخلّصه فقط، بل مجّده عبر منزلة رفيعة حصل عليها بواسطة حكمة ونعمة سامية. اتخذ لوقا بعض الخطوط من خبر يوسف، وهي التي تعكس تأكيداً لاهوتياَ لمعنى حياة يوسف: كان خاسراً فيما يتعلّق بالبشر، ولكن خلّصته قدرة الله، وجعلته في مقام لم يكن يتوقعه الذين باعوه. نحن هنا قريبون جداً من الموضوع الأساسي. أما باع اليهود يسوع؟
2- كلمات خاصة بلوقا
اختار لوقا ألفاظاً لم يجدها في سفر التكوين وجعلها في وجهة محدّدة من اجل موضوعه. هذه الألفاظ هي: الحكمة، المضايق، خلّص.
أولاً: الحكمة
لا تظهر هذه اللفظة في خبر يوسف كما نقرأه في سفر التكوين.
وهذا ما يدفعنا إلى القول إن لوقا زادها على إيراد تك 39: 4: "أعطاه الله حظوة (نعمة) أمام فرعون". بالإضافة إلى هذا دلّ يوسف على نباهته في تفسير الأحلام. وهكذا سمّي يوسف حكيماً في تلك المناسبة. هنا نعود إلى تك 41: 39 حيث يقول فرعون: "فلا فهيم ولا حكيم مثلك". وقد يكون أفضل مرجع لحكمة يوسف هو حك 10: 13- 14 (حين بيع يوسف، ما خذلته الحكمة، وفي القيود لم تفارقه حتى أعطته صولجان السيادة) الذي يرتبط بالخبر الذي ندرس، ويُبرز العلاقة بين الضيق والتمجيد والخلاص.
ولكن لوقا يعود إلى الخبرة المسيحية ليتحدّث عن هذه الحكمة. نشير إلى أن لفظة حكمة ترد 6 مرات في إنجيل لوقا و 4 مرات في الأعمال. وجمع لوقا الحكمة مع النعمة (خاريس). فيسوع هو أول من يصوّره متحلياً بالحكمة (لو 2: 40، 52)، بل هو الوحيد الذي يتحلّى بالحكمة (ما عدا ما يقال عن حكمة سليمان الأسطورية، لو 11: 31). ويتحدّث مرجعان عن حكمة اللُّه أو الحكمة في حدّ ذاتها. وفي النهاية، يركّز المرجع السادس المتحدّث عن الحكمة في لو على معرفة ينالها التلاميذ حين يدافعون عن إيمانهم أمام مضطهديهم (لو21: 15)
هناك علاقة حميمة بين يسوع والتلاميذ: اقتداء التلاميذ بالمسيح، وبما أن يسوع وصف بالحكمة في أول سنين حياته (وفيما بعد أمام خصومه)، نظن أن حكمة المسيح هي مثال لحكمة التلاميذ.
ونجد إشارة إلى الحكمة في أع 6: 3 و6: 10 "اختاروا رجالاً مملوءين بالحكمة". ما استطاع المقاومون أن يقفوا بوجه اسطفانس لأنّ الحكمة والروح عملا فيه. والمرجعان الأخيران اللذان يتحدّثان عن الحكمة في أع يصوّران يوسف (7: 10) وموسى (7: 22). من الممكن أن الحكمة المنسوبة إلى يوسف ترتبط بتلك التي نعم بها الرسل أمام مضطهديهم، وهذا ما يعود إلى الحكمة التي امتلكها يسوع.
ثانياً: المضايق
غابت لفظة "المضايق" من نص التكوين الذي يتحدّث عمّا عاناه يوسف. لا معنى خاصاً للكلمة، ولكن لوقا يُجمل بها ما احتمل يوسف من محن في محافظته على إيمانه. يشير الخطيب بهذا إلى المحن التي يتحمّلها المسيحيون من أجل ربّهم.
هنا نميّز مضايق يوسف من سائر المضايق التي تصوّر الجوع في الأرض (آ 11). فمضايق يوسف هي دينية: فحياته في العبودية وسجنه، والدعوة إلى الخطيئة وسجنه مرة ثانية، كل هذا يتطلّع إلى تدخّل من قبل الله، يتطلّع إلى الله الذي لا يسمح بأن يُسحق يوسف بهذه الآلام. فآلام يوسف ترتبط باختيار الله له وحسد إخوته له.
لقد وجد لوقا في هذا الرجل الذي اختاره الله ورفضه، رباطاً بشعب آخر، بالمسيحيين الذين اضطهدوا لأنهم يخصّون الله. فالمضايق هي إذن لفظة لاهوتية بها يجد المسيحيون رباطاً بين آلامهم من أجل الله وبين آلام يوسف (ولا ننسى أيضاً يسوع الذي أبغضه إخوته لأن الله اختاره).
ثالثاً: خلّص
إن مدلول الخلاص الذي هو موضوع أساسي في لاهوت لوقا، قد دخل في خبر يوسف. فالتكوين لا يقول إن الله "خلّص" يوسف. هذا الفعل المجرّد هو توضيح لاهوتي لعمل قدّمه لوقا في نهاية خط طويل من أعمال قام بها الله من أجل شعبه. وهذه الأعمال تتلاءم مع النظرة التي تصوّر علاقة الله بالإنسان بمجموعة كلمات: المخلص، الخلاصي، الخلاص، خلّص.
فعمل الله من أجل يوسف يرد في إجمالة ("خلّصه من كل مضايقه") كجزء من نظرة لاهوتية تصوّر الوضع المسيحي الحالي. فاستعمال لوقا لمفردات لاهوتية في خبر يوسف، يبغي مقابلة وضع يوسف بالوضع الحالي. فيوسف هو صورة مسبقة عن حياة قرائه.
3- موضوع آ 9- 10
قدّم لنا تحليل خبر يوسف (آ 9- 10) فكرتين هامتين:
الأولى: المفردات المستعملة ذكّرت القارئ بألفاظ استعملها لوقا لكي يصوّر المسيح والمسيحيين في إنجيله وفي سفر الأعمال. وتماثل الألفاظ، وإن قليلة، يقودنا إلى استنتاج لاهوتي أراد لوقا أن يوصله إلى قرائه: هناك تماثل بين ما حصل ليوسف في الماضي، وما يحصل ليسوع وللمسيحيين في الزمن الحاضر.
الثانية: ملخص خبر يوسف هو في ذاته قطعة مبنية بناء لاهوتياً. فإيجازه يدل على اختيار الموضوع والفكرة الشاملة اختياراً واعياً. أما الموضوع الذي وجدناه فهو: رَذْلٌ من قبل الناس، خلاص من الله الذي يحمل المختار إلى المجد عبْر الألم الذي تحملّه. موضوع عرفه آخرون أوردوا خبر يوسف. ولكن أفضل شاهد يبقى العهد القديم نفسه. فبعد أحداث قادتنا إلى أن يتعرّف يوسف إلى إخوته، نصل إلى حدث يعرفنا يوسف إلى نفسه فيفسّر (من اجل فائدة القارئ أيضاً) لماذا سمح أن تجري الأمور على هذه الصورة. قال لإخوته: "والآن لا تأسفوا ولا تستاءوا لأنكم بعتموني إلى هنا، لأن الله أرسلني أمامكم لأحفظ حياتكم... أرسلني الله أمامكم ليبقي لكم نسلاً في الأرض وينجّي الأحياء منكم. فما أنتم الذين أرسلتموني إلى هنا، بل الله. هو جعلني أباً لفرعون وسيداً على بيته ومتسلطاً على كل ارض مصر" (تك 45: 5- 8).
هذا هو في النهاية التفسير الذي يقدّمه سفر التكوين لخبر يوسف. لم يورد لوقا المقطع بشكل مباشر. ولكن الإيراد القصير في آ 9- 10 يتضمّنه. ترك لوقا سائر مواضيع سفر التكوين، وركَّز كلامه على التعليم الأساسي في الخبر.
ب- يوسف ويعقوب
نشير هنا أولاً إلى أن بعضهم فسّر "كان الله معه" وكأنها تشديد على أن الله هو مع الآباء قبل أن يكون في الهيكل. بل يبدو أن النص يشدّد بالحري على الخلاص. حتى إن كلمة "حضور" نفسها تشير إلى الخلاص.
هنا نطرح سؤالاً: هل الدور الأول هو ليوسف أم ليعقوب؟ وبعد الجواب نستخلص دور يوسف ويعقوب.
1- يعقوب أم يوسف
تدلّ آ 11 على تبدّل في الموضوع. ففي آ 9، تعرّفنا إلى وضع يوسف الحَرج. أما في آ 11 فيبدأ وضع آخر هو المجاعة القاسية. لم يعد الموضوع هو يوسف بل المجاعة، والفاعل صار إخوة يوسف لا يوسف نفسه. ولكن مع آ 13- 14، يعود يوسف ليستقبل إخوته الذين جاؤوا يطلبون طعاماً.
هنا نطرح السؤال: من هو الشخص الأهم في آ 11- 15؟ يوسف أم يعقوب؟ نحسّ أن يعقوب يقف هنا على قدم المساواة مع يوسف. وذلك لسببين. الأول: أعماله تشرف على هذه الآيات: وصل إلى مصر، استقبله يوسف مع إخوته. الثاني: إن أزمة الجوع التي هي مقدمة لوصول يعقوب، قد حلّت في إطار نزول يعقوب إلى مصر: نداء أطلقه يوسف واعتراف من قبل فرعون. وهكذا انتهى كل شيء بوصول يعقوب وشعبه إلى مصر.
هذان السببان يدعواننا إلى البحث عن علاقة بين حدث يوسف ووصول يعقوب والسبعين شخصاً إلى مصر.
2- دور يوسف ويعقوب
لاحظنا أن الجوع هو الموضوع الأساسي في آ 11- 15 أ، وأنه التهديد الذي دفع يعقوب إلى أن يتحرّك إلى مصر. تغلّب يوسف على هذه الصعوبة من أجل عائلته، فأمّن لهم الخلاص واستقبال فرعون. وفوق ذلك، جُعل نسل يعقوب في موقع يستطيع فيه أن يتمّ المصير الذي أنبئ به إبراهيم في آ 7. صار يوسف الطريق الذي يؤمن للشعب الحياة والمستقبل. ذاك الذي كان في العبودية خلّصه الله. وعملُ الله هذا هو سبب مقبل لخلاص شعب كامل لا لخلاص شخص واحد.
ركّز لوقا مدة قصيرة على يوسف كمخلّص لشعبه بعد أن انتزعه الله من الموت. وهكذا نستطيع القول: إن موضوع آ 9- 10 هو خلاص يوسف. وموضوع آ 11 - 15 هو خلاص الشعب عبر يوسف.
كان يوسف أداة لخلاص شعبه. ونتيجة هذا الخلاص هو وصول الأمة إلى مصر. كان يوسف السبب في حلقة من أسباب متعاقبة. هل كان يعقوب نزل إلى مصر لو لم يدْعُه يوسف إلى هناك؟ وهل كان يوسف دعا عائلته لو لم يصر قوياً ويتعرّف إليه إخوته؟ وهل كان قوياً بحيث يستطيع أن يخلّص عائلته من المجاعة لو لم يكن الله قد حماه وأكرمه؟ وإذا اتبعنا سخرية القدر: هل كان يوسف في موقع يساعد فيه أهله لو لم يخُن، إخوته؟ هنا نزيد أن العمل الشرير ضد يوسف لم يكن السبب في خلاص الشعب، بل الظرف الذي استعمله الله لخلاص شعبه.
إذن، الله هو الفاعل الأساسي. يوسف هو أداة في يده. أما يعقوب فهو الرابط بين يوسف وإخوته، بين كنعان التي كان فيها ومصر التي جاء إليها. إنه الإطار الذي تمّ فيه الخلاص.
ج- أين مدفن يعقوب (آ 15 ب- 16)
يقول هذا القسم الثالث (آ 15- 16) إن يعقوب وأبناءه ماتوا في مصر وُدفنوا في حقل اشتراه إبراهيم في شكيم. وهكذا نصل إلى وحدة ثالثة: كيف تصرّف بنو إسرائيل في مصر؟ كيف مات يعقوب ودفن، وكيف بدا مستقبل أبنائه؟
هنا نطرح السؤال: أين دُفن يعقوب؟
هل أخطأ اسطفانس حين قال إن يعقوب دُفن في شكيم؟ لا، فهناك تقاليد سامرية تتحدّث عن دفن يوسف وبالتالي أبناء يعقوب في شكيم. وقد يكون هناك فصل غراماطيقي في آ 16 فنقول: نقلوا الآباء الاثني عشر ودفنوهم في شكيم. ونترك الكلام عن يعقوب الذي يحدّثنا التقليد عن دفنه في حبرون.
ولكن الصعوبة الثانية تبرز حين يقول النص: إن إبراهيم اشترى القبر من بني حمور في شكيم. لن نتوقّف عند التساؤلات العديدة: هل اخطأ اسطفانس بمعرفة أو بغير معرفة؟ هل عرف تقليداً ضاع اليوم؟ هل أخذ لوقا بالمعطية التي وصلت إليه ولم يناقشها؟ نحن هنا في الواقع أمام تقليد سامري. لقد مرّ إبراهيم في شكيم (تك 12: 6) قبل أن يصل إلى حبرون. ويكون قد اشترى له هناك ملك ارض في الشمال فتقدّست أرض السامرة بمروره.
ومهما يكن من أمر فقد شدّد الخطيب على دفن يعقوب كامتداد لخلاص الله، بل أيضاً كبرهان لهذا الخلاص. فهو يعلن للقراء أن الآباء ارتاحوا ورقدوا في أرضهم لا في ارض غريبة، وهذا ما يدلّ على خلاص الله الكامل.
د- خبر يوسف وخبر إبراهيم
ما هي العلاقة بين القسم الأول (آ 2- 7) من خطبة اسطفانس، والقسم الثاني (آ 9- 16)؟ ما هي علاقة خبر إبراهيم بخبر يوسف؟
نستطيع أن نسمّي القسم الأول: القسم الليتورجي. دعا الله إبراهيم ووعده مع نسله بامتلاك الأرض "لكي يعبده الشعب في هذا المكان". إذن الشعب في هذا القسم الأول هو شعب عبادي. ونسمّي القسم الثاني: "القسم الكرستولوجي". ترك لوقا موضوع العبادة، وانتقل إلى موضوع الخلاص. خلّص الله يوسف، وبه خلّص الشعب كله. فرَذْل يوسف وخلاصه وتمجيده هي الوسيلة التي بها نجا الشعب ودُفن الآباء في أرضهم. فيوسف هو سابق للمسيح. ننظر إلى المسيح عبر يوسف الذي هو نموذج سيتمّمه المسيح. والألفاظ المستعملة هي ألفاظ مسيحية في نص لوقا، وبالتالي تقال في المسيح. فالتلاميذ يعيشون حياة المسيح بكل دقائقها. وسنرى فيما بعد توسّع الموضوع الكرستولوجي في خبر موسى.
وهناك مقابلة بين خبر إبراهيم وموسى من جهة، والاتهام الأساسي ضد اسطفانس من جهة ثانية: يتضمّن هذا الاتهام نقطتين رئيسيتين: المسيح والهيكل. فالقسم الأول في الخطبة يتعلق بالعبادة في مكان، والقسم الثاني يتعلّق بالمسيح. هذان هما الخطان اللذان تتوالى فيهما خطبة اسطفانس لتصل إلى ذروتها قبل غضبة المجلس على اسطفانس والهجوم عليه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM