الفصل الحادي والعشرون حنانيا وسفيرة

الفصل الحادي والعشرون
حنانيا وسفيرة
حكم الكنيسة وعدالة الله
أ- حكم الكنيسة
هذا هو العنوان الذي نستطيع أن نعطيه لهذا الخبر الغريب الذي نقرأه في 5: 1- 11: حكم الكنيسة وعدالة الله التي تستبعد الخاطئ. سنتوقف عند هذا النص دون التوسع في موضوع السلطة الكنسية التي تحكم على الإنسان وتحرمه وتستبعده. هناك خلاف بين النصوص. من جهة، هي تشدّد على أن الله وحده الديّان، ومسيحه معه. لهذا لا يحقّ للإنسان أن يدين. قال يسوع (مت 7: 1؛ لو 7: 37): "لا تدينوا"، أي لا تحكموا على أحد. وقال بولس: "ديّاني هو الرب. فلا تدينوا (أو: تحكموا على أحد) قبل الأوان، قبل أن يأتي الرب" أي وقت الدينونة الاسكاتولوجية (1 كور 4: 4- 5؛ رج روم 2: 1؛ 14: 4، 10، 12). أخيراً، كتب يعقوب: "هناك ديّان واحد وهو الذي يقدر أن يخلّص ويهلك. فمن تكون أنت لتدين قريبك" (يع 4: 12؛ 2: 4، 12- 13)؟ ولكن من جهة أخرى، يندّد بولس بدعاوى الكورنثيين أمام القضاة غير المؤمنين في كورنتوس فيقول: "أما فيكم حكيم يقدر أن يقضي (يكون حكماً) بين إخوته" (1كور 6: 5)؟ وفوق هذا، وحين تبرز حالة زنى مشهور، يدين بولس بعنف زاني كورنتوس (مع زوجة أبيه) كما يدين (يحكم على) الجماعة التي لم تجرؤ على التدخل في مثل هذا الظرف: "كان الأَولى بكم أن تحزنوا حتى تزيلوا من بينكم من ارتكب هذا الفعل. أما أنا، فغائب عنكم بالجسد، ولكني حاضر بالروح، فحكمت كأني حاضر على الذي فعل هذا الفعل. فعندما تجتمعون، وأنا معكم بالروح، باسم ربنا يسوع وقدرته، سلّموا هذا الرجل إلى الشيطان حتى يهلك جسده، فتخلص روحه في يوم الرب" (1 كور 5: 2- 5). سنعود فيما بعد إلى هذا النص الغريب. وينهي الرسول هجومه بهذه الكلمات: "كتبتُ إليكم أن لا تخالطوا من يُدعى أخاً (يحمل اسم الأخ) وهو زان... أنا لا أدين الذين في الخارج (من غير المؤمنين). أما الذين في الداخل (من أعضاء الجماعة) فعليكم أن تدينوهم" (1 كور 5: 11- 12). تدينونهم لا لترموهم خارجاً، لأن الرباط المسيحي لا يفكّ، بل لتدعوهم إلى التوبة من أجل الدينونة الأخيرة. وفي إطار آخر يدعو المسيح (كما يخبرنا عنه متى) إلى إبعاد الخاطىء: "إن رفَضَ (الخاطئ) أن يسمع للكنيسة، فعامله كأنه وثني وعشار" (مت 18: 18). أي، اعتبره على هامش الجماعة وخارج حقل المسؤولية الكنسية (رج 2 تس 3: 6- 4 حيث يطلب بولس من المؤمنين ان يتجنبوا الخاطىء. وقالت الدياداكي: إذا أغاظ أحد أخاه، فلا يوجّه إليه أحد الكلام ولا يقل شيئاً حتى يتوب). نلاحظ هنا أن الجماعة لا تتلفّظ بحكم استبعاد: هي تقرّ بوضع موجود: أراد الخاطىء أن يكون على هامش الكنيسة. تلاحظ الجماعة هذا الأمر ولا تعود تهتمّ بالخاطئ، بل لا تعود تصلّي من أجله (1 يو 5: 16). وهناك نصوص أخرى تتحدّث عن الاستبعاد.
ولكنّنا نترك هذه الأمور العامة، ونحاول قراءة أع 5: 1- 11. نقرأ أولاً النص في حد ذاته وكأنه خبر يُروى لنا. وندرس ثانياً العوامل التي دعت إلى تدوين هذا النص.
ب- نص الخبر في أع 5: 1- 11
1- قرينة النص
يقع الخبر بعد إجمالة أع الثانية التي تتحدّث عن المشاركة في الخيرات(4: 32- 35)، ويوازي بصورة معاكسة خبر ما صنعه برنابا (4: 36- 37) "الذي باع حقلاً يملكه وجاء بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل".
نلاحظ أولاً العلاقات مع العناصر السابقة: ألقى على أقدام الرسل، باع (4: 37، 5: 1- 8). ولكن لا علاقة أبداً مع القرينة اللاحقة (5: 12- 16). ويشكل الخبر وحدة قائمة في ذاتها، وهذا ظاهر من خلال جمع حنانيا وسفيرة مع الرسل ثم انفصال كل منهما في الكارثة التي تنهي كلاً من دَرْفَتيْ الخبر. وفي الوقت عينه يبقى الخبر مرتبطاً بمجموع أع. نتوقّف خاصة على عنصرين. في 3: 23، أورد بطرس كلمة موسى عن النبي الذي يمثّل يسوع: "كل من لا يسمع لهذا النبي يُقطع من الشعب" (لا 23: 29). ونقرأ في 4: 32: "كان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحدةً، لا يدّعي أحد مُلك ما يخصّه. كل شيء كان مشتركاً بينهم". سيكون برنابا المثل الأول، وحنانيا وسفيرة الصورة السلبية لهذا الوصف المثالي. ونذكر هنا بنية الكتاب حيث تتجاوب دورة بطرس (ف 1- 12) مع دورة بولس (ف 13- 27)، وتفسّر الواحدة الأخرى في موازاة هي أبعد ما تكون عن التكرار. فما نقرأ عن سفيرة (5: 7- 11) ليس تكراراً لما نقرأ عن حنانيا (5: 2- 6). فالتشابهات والاختلافات لها معناها عند القديس لوقا وعددها كبير. بطرس يشفي كسيحاً (3: 2- 26) وبولس يشفي كسيحاً (14: 8- 17). بطرس يمثل أمام مجلس الكهنة (4: 5- 7)، وبولس يمثل أمام مجلس الكهنة (23: 1- 10). كلاهما يجُلدان ويجترحان المعجزات عينها (5: 4، 12- 16 و19: 11- 12، 22؛ 9: 32- 42 و20: 9- 12). ما يصنع الواحد يصنعه الآخر. وهذه المقابلة الدائمة بين بطرس وبولس، تساعد صاحب أع أن يدل على الرباطات وأن يقيس الفوارق بين كنيسته التي ورثت تأسيساً بولسياً، والجماعة التي ارتبطت ببطرس في أول تاريخ الكنيسة. في هذه الظروف نفهم أهمية الحدث المتعلق بالساحر عليما الذي يلعب في حياة بولس الدور الذي لعبه حنانيا في حياة بطرس. فلقد امتلأ بولس من الروح القدس كما امتلأ بطرس، وكشف لعليما خطيئته: "يا ابن الشيطان، يا عدوّ كل خير، أيها الممتلئ بكل خبث وغشّ. أما تكفّ عن تعويج سبل الله القويمة؟ ستضربك يد الله، فتكون أعمى لا تبصر النور إلى حين (أي: حتى يصلك أمر آخر). فسقطت على عينيه في الحال (العبارة اليونانية عينها التي نقرأها في 5: 10: باراخريما) غشاوة سوداء، (أع 13: 6- 12). نلاحظ أن بولس يختلف عن بطرس في خبر حنانيا فيعلن الحكم بنفسه. إن كل هذه الاختلافات ستساعدنا على قراءة نصوص أع. ولنبدأ باكتشافها في خبر حنانيا وسفيرة الموزَّع على درفتين تتشابهان وتختلفان.
2- قراءة الخبر (5: 1- 11)
آ 1- 2 ولكن رجلاً اسمه حنانيا مع امرأته سفيرة
باع ملكاً له وبالموافقة مع امرأته
احتفظ بقسم من الثمن (أو بعلم منها)
الدرفة الأولى (5: 2 ب- 6) الدرفة الثانية (5: 7- 11)
آ 2 ب- جاء بالقسم الآخر وألقاه آ 7 - وبعد نحو ثلاث ساعات دخلت امرأته
على أقدام الرسل وهي لاتعرف ماجرى
آ 8- فسألها (أعلن لها) بطرس:
"قولي لي: أبهذا الثمن
بعتما الحقل"؟
أجابت (قالت له): "نعم،
بهذا الثمن"
آ 3- فقال بطرس: "يا حنانيا، آ 9- فقال لها بطرس: "لماذا
لماذا استولى الشيطان على قلبك اتفقتما على امتحان روح الرب"؟
فكذبت على الروح القدس واحتفظت
بقسم من ثمن الحقل؟
آ 4- أما كان الحقل يبقى لك لو أبقيته؟
ولما بعته، أما كان لك أن تحتفظ
بثمنه؟ فكيف نويت في قلبك ها إن أقدام الذين دفنوا
هذا العمل؟ أنت كذبت على الله، زوجك على الباب، وسيحملونك
لا على الناس" أنت أيضاً".
آ 5- فلما سمع حنانيا هذا الكلام آ 10- فوقعت في الحال عند قدمي.
وقع ميتاًً بطرس وماتت.
فاستولى خوف شديد على جميع فذهل الشبان فوجدوها ميتة
الذين سمعوا بذلك. فحملوها ودفنوها بجانب زوجها.
آ 6- وقام بعض الشبان فكفنوه آ 11- فاستولى خوف شديد على
وحملوه إلى الخارج ودفنوه الكنيسة كلها وعلى جميع الذين
عرفوا هذه الأخبار.

نزيد بعض ملاحظات سريعة. في آ 2. الفعل "أنوسفيساكو" قليل الاستعمال ومعناه "سلب" أو بالأحرى أخذ قسما من مجموعة وذلك بطريقة سرية. والمقابلة الوحيدة في العهد القديم (ما عدا 2 مك 4: 32 حيث يتحدّث النص عن تحويل أموال الله)، نجدها في يش 7: أي في خبر عاكان الذي احتفظ بخير حرّمه الله أي جعله وقفاً له. "أخذ عاكان من المبسل أو المحرّم، فاتقد غضب الرب على بني اسرائيل" (يش 7: 1). حينئذ قال له يشوع: "لماذا حمّلتنا هذه المصيبة؟ فليحمّلك الرب مصيبة في هذا اليوم. فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة" (يش 7: 25). وفي وضع حنانيا، نحن لسنا أمام سرقة بحصر المعنى، لأن الملك كان يخصّه (كما كانت الأسلاب تخص من يستولي عليها). قال له بطرس: "أما كان الحقل المباع كله يبقى لك لو أبقيته" (5: 4)؟ نحسّ للوهلة الأولى كأننا أمام تعارض: اتُهِم حنانيا بالاحتفاظ بجزء من كل جماعي، بينما هذا الكل هو خير خاص به. سنعود إلى هذه النقطة فيما بعد.
ونشدّد في الآيات التالية على إدراك بطرس للأمور إدراكاً عميقاً: هو يعرف ويكشف أعماق القلوب. هذا الموضوع معروف عند لوقا. فقد أعلن بطرس إلى سمعان الساحر: "لتهلك فضّتك وأنت معها (إلى جهنم أنت ومالك)... لا حصة لك ولا ميراث (نصيب) في ما يحدث هنا، لأن قلبك ليس مستقيماً أمام الله" (8: 20- 21). لقد كشف بطرس الخطيئة، كما يفعل نبي من الأنبياء. ثم إن قلب حنانيا (مثل قلب يهوذا) مملوء من الشيطان (5: 3؛ لو 22: 3: دخل الشيطان في يهوذا). وهذا ما يبرز أهمية أول صراع داخل الكنيسة بين حنانيا المملوء من الشيطان وبطرس المملوء من الروح القدس. في هذه الظروف ستكون المعركة وبالاً على حنانيا، هذا ما لا شكّ فيه. ونلاحظ أخيراً كيف قلب لوقا عناصر آ 5 ب- 6 و10 ب- 11. في المرة الأولى: الخوف ثم الدفن. في المرة الثانية: الدفن ثم الخوف. هنا تظهر للمرة الأولى كلمة كنيسة في أع، وسترد بعد ذلك 22 مرة.
هذا هو الخبر الغريب الذي لا تتحمّله عقليتنا: بطرس القاضي والديّان الذي جاءت كلماته كالسوط، وحكمه لا استئناف فيه. بطرس "المحتال" الذي نصب فخاً لامرأة مسكينة صارت أرملة منذ ثلاث ساعات. هو لم يمارس التنبيه الأخوي الذي طالب به يسوع تلاميذه (مت 18: 15). ولكن قال كنوكس (أعمال الرسل، كمبريدج، 1948): إن الخبر ليس بصحيح. وأوضح هانشن في شرحه لسفر الأعمال: لم يدفن حنانيا دون أن تنبّه امرأته! وقال أوريجانس عن المعجزة التي أوقعت حنانيا ميتاً: إن توبيخ بطرس قتل الخاطئ. وزاد رايكي في كتابه إيمان وحياة الجماعة الأولى: حين سمعت سفيرة بموت زوجها، تحطّم قلبها وماتت. ولكن نترك جانباً هذه الاعتبارات التأويلية التي تنسى الفن الأدبي الدراماتيكي (قد يكون حنانيا مات بعد ذلك، ولكن الكاتب قصّر المسافة بين توبيخ بطرس وموت حنانيا فربط بين الاثنين)، وفن الإخبار الديني الذي يجعل من عمل حنانيا "الخطيئة الأولى" في حياة الجماعة الجديدة. كانت خطيئة عاكان في يش 7 أول خطيئة لجماعة تدخل أرض الميعاد فاستحق العقاب. فكم يجب أن يكون عقاب شخص كذب على الروح القدس وهدر مبدأ المشاركة الصحيحة في الكنيسة الأولى!
لنقرأ النص في ذاته ولا نحصر دراستنا في "الحدث" (لا نتساءل: ماذا حدث تاريخياً، وكأننا أمام تقرير مفصّل يرسل إلى الصحافة؟) الذي يرويه النص. فان فعلنا هكذا، كتبنا خبراً جديداً ولم نقرأ كلمة الله كما قدمها لنا لوقا في أع.
3- الدرفة الأولى من الخبر (5: 2- 6)
نميّز أولاً بوضوح درفتَيْ الخبر. توافق حنانيا مع امرأته، فاحتفظ بقسم من المال (5: 1- 2 أ). بعد هذا سيُبرز لوقا السببين اللذين لأجلهما مات حنانيا وسفيرة: في الدرفة الأولى، خطيئة حنانيا. في الدرفة الثانية: التوافق على الشر. ويشدّد لوقا على الاتفاق بين حنانيا وسفيرة بحيث إن ما يحدث للواحد يحدث للآخر أيضاً: رباطهما الزواجي (سفيرة امرأته)، خطيئتهما (بموافقة امرأته) وحتى موتهما (دفنوها قرب زوجها)، لا شيء يفرق الواحد عن الآخر. والمرة الوحيدة التي لم تعرف المرأة بما حصل لزوجها (5: 7) ستكون عليها وبالاً.
تتركّز الدرفة الأولى في النص على خطيئة حنانيا، وتبدو كأنها خبر نقض عقد ومجازاة واستبعاد. لنشدّد على هذه المواضيع الثلاثة: نرى أولاً حنانيا يلقي "خطيئته" عند أقدام الرسل فيخلق صراعاً بينه وبين الله بعد أن زوّر العقد. في الحالة السابقة التي تحدّث فيها لوقا عن برنابا، تمّ التبادل بطريقة صحيحة: وُضع ثمن الحقل عند أقدام الرسل. سلّم برنابا ماله ليسلّم ذاته بكليتها إلى الجماعة التي كان كل شيء فيها مشتركاً. أما حنانيا فتظاهر بالصدق، ولكنه كذب. فلم يعد إلا معطياً يتظاهر بالعطاء، يعطي الجماعة خيراً لا صدق فيه ولا حقيقة. فبدا بذلك وكأنه يغبن الجماعة. هنا نتذكّر الآية السابقة: "لم يكن للمؤمنين إلا قلب واحد وروح واحدة. ولا يدّعي أحد منهم ملك ما يخصّه. بل كان كل شيء مشتركاً" (4: 32). يرى لوقا أن كل خيرات المسيحيين هي خيرات الله سواء سلّمت كلها إلى الجماعة (كما فعل برنابا) أم ظلّت في عهدة مالكها (كما كان باستطاعة حنانيا أن يفعل لو اتّبع نصيحة بطرس). حتى في هذه الحالة الأخيرة، ما كان لأحد "أن يدّعي ملك ما يخصه"، لأن الله (ومنذ اليوم الجماعة) هو المالك الحقيقي. فإن فصل حنانيا (أو احتفظ) جزءاً من هذا الكل الجماعي، جعل نفسه مالكاً وادّعى مُلك ما يخصّه. إن كذبه يشوّه حقيقة فعلته فيعطيها ظاهر المشاركة التامة في حياة الجماعة. إنه حطّم الـ "كوينونيا" أو الاتحاد والمشاركة، حطّم العنصر الأساسي الذي يكوّن المجموعة (2: 42). لم تعد فعلته إلاّ ظاهرة كاذبة لهذه المشاركة (كوينونيا).
ينتج عن هذا، لو لم يُكشف "المشروع"، أنه يجب على الجماعة أن تقدم لحنانيا "السارق" مشاركة تامة في الحياة الجماعية، وأن تفتح لحنانيا المملوء من الشيطان الباب لحياة الروح. لو فعلت هذا، لكانت حاولت أن تفرض على الله أمراً لا يرضى عنه، لكانت "جرّبت الروح" (5: 9) وجعلته يعارض نفسه بنفسه: فكأنها أعطت الروح للشيطان، ومهّدت الطريق للتجديف على الروح القدس (لو 12: 10) فاقترفت الخطيئة التي لا تُغفر. من جرّب روح الرب أو جرّب الرب، اقترف أكبر الخطايا. (خر 17: 2؛ تث 6: 16 عرفت وثيقة دمشق القمرانية عبارة دنّس روح القداسة لا عبارة "غش الروح" كما نقرأ في أع 5: 3). ليس من تحديد أفضل للخطيئة من هذا التحديد: أن نجعل الله يعارض نفسه. ستحل بقية الخبر الصراع وترجّح كفّة كلمة بطرس التي تكشف الخطيئة. حينئذ حلّ محلّ التبادل الغاش المجازاة الإلهية، لأن الله هو الذي يضرب ويعاقب. مات حنانيا وسفيرة. إن الفعل اليوناني "اكسبسيخو" (أي: خرجت روحه) هو قليل الاستعمال. نجده في خبر موت هيرودس الذي ضربه الله (12: 23: "ضربه ملاك الرب في الحال لأنه ما مجد الله، فأكله الدود ومات") وفي خبر موت سيسرا حسب الترجمة السبعينية (قض 4: 21). إذا وضعنا جانباً خبر حنانيا، لن نجد في العهد الجديد عجائب اجترُحت لمعاقبة الخاطىء. هنا نقابل بين خبر حنانيا وما نقرأه في 2 مل 5: 24- 27: أخطأ جيحزي حين طلب من نعمان السوري مالاً باسم سيده النبي اليشاع. اكتشف النبي الخطيئة وأعلن عقاب الخاطئ: "إن برص نعمان يعلق بك وبنسلك".
وهكذا يبدو خبر حنانيا بشكل خبر استبعاد أو لعنة جذرية. هذا ما نراه عندما نتطلّع في كل العناصر المتعلّقة بالطوبوغرافيا (الحركات والأعمال). ففي كل من الدرفتين نجد دخولاً وخروجاً، الجمع والفصل العنيف. حمل حنانيا جزءاً من ماله وألقاه عند أقدام الرسل، ولكنّه في النهاية حُمِل إلى القبر. وهذا ما نقوله أيضاً عن سفيرة. ثم إن خروج حنانيا (وسفيرة) ليس عودة الخاطئ إلى حالة سابقة. فبعد الحركة الأفقية التي تقوم بالدخول أو الخروج، هناك حركة عمودية تسير من أعلى إلى أسفل. وقع حنانيا ووقعت سفيرة (5: 5- 10). خبر الخروج هذا هو أيضاً خبر سقوط واستبعاد من الجماعة (رج 3: 23).
4- الدرفة الثانية (5: 7- 11)
حين ننتهي من قراءة الدرفة الأولى، نظن أن الخبر انتهى. ولكنه يتواصل بشكل إسهاب (أو توسّع جديد) عرفته التقاليد الشعبية الشفهية. ولكن هذه النقطة تبقى مدهشة لأن لوقا لا يحبّ التكرارات وإن اهتم بالتوازيات على طريقة الكتّاب الهلنستيين في عصره (مثلاً، أخبار دعوة بولس لا تتكرر، ولكنّها تتكامل فيوضح الخبر الأول الخبرين الآخرين). لنقابل درفتي خبر حنانيا وسفيرة، اللتين يفصل بينهما مدى ثلاث ساعات، وذلك بفضل رباط زمني (قد يكون من أصل ليتورجي) يحدث تأثيراً مميّزاً.
إذن، نشهد في الدرفة الأولى مونولوجاً: كلّم بطرس حنانيا، فاستعمل صيغة المخاطب المفرد المذكر (أنت كذبت). في الدرفة الثانية، نحن أمام حوار بين بطرس وسفيرة: المتكلم المفرد (قولي لي أنا) والمخاطب المفرد المؤنث. في الدرفة الأولى، ألقى حنانيا المال عند أقدام الرسل، ولكن الخطيئة ظلّت خفية، فكان على بطرس أن يكشفها على طريقة الأنبياء. في الدرفة الثانية، صارت الخطيئة مشهورة (معروفة)، وقد وافقت عليها سفيرة علانية. سأل بطرس، تحقّق، فهتفت: نعم بهذا الثمن. في الدرفة الأولى، كشف بطرس الخطيئة، ولكنه لم يحكم (كان بورفيروس قد قال خطأ: حكم عليه بالإعدام). إنه أعلن حكم الله ودينونته: تكمن خطيئة حنانيا في كذب يضر الجماعة والروح. في الدرفة الثانية، كانت الخطيئة معروفة، فرافقها توافق على الشر. حينئذ أعلن بطرس الحكم: سيحملونك.
الاختلاف بين هاتين الدرفتين له مدلوله الخاص. في الدرفة الأولى، يعمل الله بواسطة بطرس نبيه لكي يكشف الخطيئة السرية، وهو الذي يجازي. في الدرفة الثانية، تحقق بطرس، وتأكد من التوافق، وأعلن الحكم. من الواضح في نظر الراوي أن للجماعة (التي يرمز إليها بطرس) سلطاناً من الله على الخطيئة: لها سلطة أن تعلن الخطيئة وأن تُبرز قضاء الله. في الحالة الأولى، كانت خطيئة حنانيا سرية، فتدخّل الله مباشرة. في الحالة الثانية، كانت الخطيئة علنية (توافق في الشر) فأعلنت الجماعة تدخّل الله. نحن نرى أن بنية هذا الخبر الغريب تعكس نظام التوبة في الكنيسة التي يذكرها لوقا هنا للمرة الأولى (5: 11) كما قلنا من جهة، وفي الدرفة الأولى، نحن أمام الخطيئة في مدلولها: ضغط على الله. من جهة أخرى، وفي الدرفة الثانية، نحن أمام سلطة الكنيسة في مجال قبول التائب. الكنيسة كلها معنّية حين نكون أمام خطيئة علنية تهدّد الجماعة كجسم اجتماعي.
من جهة أخرى، ما يقوله أع عن بطرس يقوله أيضاً عن بولس مؤسس الجماعات اللوقاوية. فالموازاة بين بطرس وبولس ترجّح كفة بولس. ونحن نستطيع أن نكمل دراستنا بقراءة 13: 4- 12. هنا، لا يتردّد بولس في إعلان الحكم على عليما الساحر: "ها إن يد الرب عليك: ستكون أعمى ولن ترى النور إلى حين" (13: 11).
ج- العوامل التي دعت إلى تدوين النص
يبدو خبر أع 5: 1- 11 غير عادي في مؤلّف لوقا، فتساءل النقاد: من أين جاء به؟ أمِن منبع مسيحي متهوّد؟ أمِن مرجع أورشليمي؟ ولكننا نترك جانباً افتراضات خاصة بنقد المراجع لنركّز انتباهنا على عدّة محاولات تفسيرية تمّت على مستوى الخير التقليدي. حينئذ نصيب مباشرة مسألة الاستبعاد في الجماعة الأولى.
1- خبر موت خاطئ
قال مانو سنة 1950 إن لوقا الإنجيلي الذي تحدّث عن الرحمة، لم يخترع هذا الخبر القاسي. لقد أخذه من التقليد على الشكل التالي: على إثر موت طبيعي لأول أعضاء الجماعة مثل حنانيا وسفيرة، أراد المسيحيون أن يفسّروا هذا الحدث غير المنتظر بالخطيئة. كانوا كلهم ينتظرون المجيء الثاني، فلماذا يُحرم من هذا الانتظار بعد الموت (1 تس 4: 13- 17)؟ وفسّر مانو الوضع فقال: إن القطعة التي ندرس هي صدى مخفّف ومحوّل لشعور خاص سبّبته لا الخطيئة الأولى، بل أول وفاة حصلت في الكنيسة. في الواقع لم يمت الزوجان لأنهما أخطئا خطأ مميتاً. ماتا ولأنهما ماتا فقد أخطئا. فالخطيئة تجرّ الموت. هذا الموضوع يعرفه الكتاب المقدس بما فيه بولس: "لهذا عدد من الموتى" (1 كور 11: 28- 30). انطلق التقليد المسيحي المتهوّد من هذا اليقين، فقلب الرسمة حين تحدث عن حنانيا وسفيرة: خطئا، إذاً ماتا. مثل هذا البناء الذي لا يمكن أن يستند إلى وضع اسطفانس، لا يرضينا، رغم تقديم ناجح لمعجزة مؤلمة (موت الخاطئ بقساوة) في خط عقلانية تبحث عن التاريخ. ومع هذا نحن نحتفظ بعاملين مهمين في تدوين الخبر: مسألة الموت، ومسألة الخطيئة.
2- عقاب إنسان مليء بالطموح والادعاء
أراد مانو أن "يفسر" موت حنانيا. أما شميت فحاول أن يفهم بالأحرى خطيئته. تساءل: بم خطيئة حنانيا؟ حين ميّزت الجماعة الأولى التلاميذ (الكمّال) الذين يشاركون في أموالهم مشاركة تامة، والمبتدئين (الشبان الصغار الذين يتكلم عنهم أع 5: 6)، أراد حنانيا بالحيلة أن يصل إلى درجة تلميذ، فغشّ بالنسبة إلى ماله. وهكذا تصرّف كمبتدئ غاشٍّ. فقد قيل في قمران: إن وُجد بين المبتدئين من يكذب كذباً واعياً فيما يتعلّق بثروته، يُستبعد من جماعة العديدين مدة سنة، ويعاقَب فيْحرم من ربع خبزه (المغارة الأولى). أما وثيقة دمشق فتقدّم قصاصاً أخف: "ستة أيام من الصوم". إن الجماعة المسيحية احتفظت بذكرى عقاب مثالي حل بحنانيا الكذاب، وتدخّل الفولكلور فتحدث عن موته. من المؤسف أن لا يفسّر مثلُ هذا البناء إلا عنصراً هامشاً من الخبر، مستنداً إلى معطية واهية وهي الفصل بين التلاميذ والمبتدئين. أما يسوع والمجموعات المسيحية الأولى، فقد رفضت فصلاً عرفته مجموعة "الأنقياء". من جهة ثانية يكتب شميت خبراً آخر يبنيه على طموح حنانيا الرخيص. ولكننا نبقي على فكرة الاحتفاظ بخير جماعي يجلب استبعاد إنسان كاذب. حين ادّعى حنانيا أن خير الله هو ملك يخصّه، خرج من الجماعة مدعياً أنه لم يترك شيئاً لنفسه. في إطار جماعة فلسطينية فتية وفقيرة، كانت تلك الممارسة خطراً على المجموعة كلها.
3- انعكاس ممارسة مسيحية.
لنتطلع الآن بانتباه إلى عوامل إنتاج خبر حنانيا. يفرض الحدث وجود مجموعة واعية لحدودها. وهو يعكس ممارسة جماعية هي ممارسة الاستبعاد. أخيراً هو يدلّ على جماعة تفكّر في ممارستها بواسطة لغة لينة استعملها المسيحيون. ليس من مجموعة بدون نظم، بدون البحث عن وحدة وعن تماسك، بدون إجراءات دخول وخروج تدلّ على المجموعة، وتميّزها عن غيرها من المجموعات. إن وجود طقس دخول يستدعي وجود خروج. والنموذج القمراني يلقي ضوءاً على ما نقوله. فالنصوص حول الاستبعاد المؤقت أو النهائي معروفة: استبعاد مؤقت لمن يغش بالنسبة إلى ثروته. واستبعاد نهائي لمن يحلف باسم الله فيعرّض هذا الاسم للإهانة. والاستبعاد النهائي لمن ينتقد الجماعة أو يتذمّر على عمداء (المسؤول أو الوجيه) الجماعة، أو يتجاوز الشريعة بوقاحة. مثل هذا الاستبعاد لا يعيد المذنب إلى حالته التي سبقت مجيئه إلى الجماعة. استبعاده هو سقوط. لا شك في أن المذنب لا يُقتل إلا في حالة التجديف، ولكنه لا يسجَّل على لوائح المخلصين، يُلعن بفم قديسي العلي (وثيقة دمشق). إن خروجه هو صوت روحي. وقال فلافيوس يوسيفوس في هذا المجال: يستبعد الأسيانيون المذنبين من "النظام" فتكون نهايتهم تعيسة: حلفوا فأجبروا على الامتناع عن طعام الناس (الذي قد يكون نجساً) فيجبرون على أكل العشب فيموتون. إذاً نستطيع أن نقابل بين الجماعة المسيحية الأولى وجماعة قمران مع إجراءات الحرم والاستبعاد. غير أننا نقرّ بوجود اختلاف كبير بين جماعة "الأنقياء" (من قمرانيين أو من فرّيسيين بدرجة أولى) والمجموعات المسيحية التي قبلت الأولى، ففد رفضت فصلاً عرفته مجموعة "الأنقياء". من جهة الخطأة (بالمعنى الديني والاجتماعي للكلمة) بانتظار أن تقبل الوثنيين. إن القداسة والطهارة الطقسية لا تحدّدان المجموعات المسيحية التي تتبع مثل يسوع فلا تشكل مجموعة المنفصلين (أو الفرّيسيين)، بل هي تقبل الخاطئ والعشار.
بالإضافة إلى ذلك فطقس الدخول العمادي في الجماعة المسيحية لا يحل. إنه مثل طقس الدخول في ديانة العهد أي الختان. فالجماعة الأسيانية (أو مجموعة الفرّيسيين الأطهار) تقدر أن تطرد من حضنها أصحاب الفتن، بل تستبعدهم من مجمع معين، ولكن رباط العهد لا يُلغى. وبقدر ما فرض الطقس العمادي نفسه كطقس دخول في العهد المسيحي الجديد، حالاً محلّ الختان، لم يعد من الممكن أن نستبعد أخاً صار خاطئاً. فالمعمودية لا تُحلّ هي أيضاً. أو إن كان هناك من استبعاد، فهو يأتي من الله نفسه الذي لا يسبّب موت الخاطئ. هذا ما حصل في خبر حنانيا وسفيرة. لم يكن بطرس هو الذي حكم باستبعاد الموت، بل الله وحده. إن هذه النقطة توافق موافقة تامة ما قلناه أعلاه، متذكّرين ملف العهد الجديد عن الاستبعاد. إن الجماعة لا تقتل الخاطئ بل تكشف خطيئة تعرّض المجموعة للخطر من الناحية الاجتماعية. إنها تلاحظ الإبعاد أو الإقصاء الذي يعيشه الخاطئ، وتعلن دينونة الله بالنسبة إليه.
4- أول لاهوت مسيحي متهوِّد.
إن خبر حنانيا يعكس ممارسة مسيحية، ولكنّه يدلّ أيضاً على وجود تفكير لاهوتي حول هذه الممارسة. فاللاهوت المسيحي المتهوّد لا يشبه لاهوتنا اليوم. فإذا أردنا أن نلج إلى لغته الملونة ونكشف كل غناه، وجب علينا أن نغطس في عالم اليهود بين العهدين ونتذكر الفكر اليهودي المدراشي حول الخطايا الأصلية: هناك خطيئة أصلية لآدم، وخطيئة أبناء الله حسب تك 6: 1- 4، وخطيئة جماعة سيناء المقدسة والملتئمة حول موسى. إن هذه الجماعة التي هي عمل نعمة الله عاشت بدون خطيئة في رجوع إلى حالة آدم. لم يدركها الموت حتى حادثة العجل الذهبي (خر 32). حينئذ دخلت التجربة من جديد ودخلت معها الخطيئة والموت. بلبلت الخطيئة كل شيء وأجبرت جماعة البرية من جرّاء ذلك على العيش في الالتباس والغموض على أن تكون بين الموت والحياة، بين الخطيئة والتوبة. هكذا هو الأمر بالنسبة إلى جماعة العهد الجديد. فخطيئة حنانيا أصابت الروح القدس فحطّمت الجماعة وأدخلت الكنيسة (سماها لوقا هنا باسمها) في زمن الالتباس. إن خطيئة حنانيا التي أصابت الروح شكلّت في نظر الراوي أول خطيئة في أع، خطيئة الكنيسة الأصلية التي تبعها موت مسيحي خاطئ.
وهناك تقليد آخر يلفت انتباهنا بصورة خاصة:
قصة عاكان حسب يش 7: 1 ي. نحن هنا أمام أول خطيئة في الشعب بعد موت موسى (كما كانت خطيئة حنانيا أول خطيئة في الجماعة بعد موت المسيح). عاد لوقا إلى حدث عاكان بصورة صريحة فاستعمل كلمة نادرة "أنوسفيساتو" التي نجدها في يش 7: 1 حسب السبعينية. خطئ عاكان ضد الله حين احتفظ بخيرات الله، خيرات موقوفة لله. انتهك الأقداس فعوقب بالموت. إن هذه الخطيئة سبّبت اليأس كما قال فلافيوس يوسيفوس، لأنها طرحت للمناقشة مسألة الوعد الإلهي. من حسن حظ الجماعة أن الله كشف عن المذنب فقُتل ودُفن خلال الليل (القديميات اليهودية 5: 33- 35). وفي القرن الأول المسيحي، ذكر فيلون المزعوم أن خطيئة عاكان هدّدت وجود شعب الله نفسه. قال: هذا ما أعلن يشوع بعد خطيئة عاكان التي سبّبت هزيمة إسرائيل: "أما كان أفضل لنا لو متنا في البحر الأحمر حيث غرَّقتَ (يا الله) أعداءنا، لو هلكنا في البرية مثل آبائنا، من أن نسلّم إلى أيدي الأموريين. ونفنى إلى الأبد". (القديميات البيبلية 21: 3). بعد هذا، سيكون التقليد سهلاً بالنسبة إلى عاكان: اعترف بخطيئته وقُتل، وهذا ما أتاح له رغم كل شيء أن يرث العالم الآتي (غنزبرغ تقاليد اليهود). كفَّر الخاطىء الصالح عن ذنوبه بالموت. هذا موضوع معروف في التقليد اليهودي. فحسب فيلون المزعوم، حرّض "القاضي" قناز الخطأة على الاعتراف بذنوبهم قبل أن يُقتلوا: "من يدري؟ إذا قلتم لنا الحقيقة، لا شك أنكم تموتون، ولكن الله يرحمكم حين يعيد الحياة إلى الموتى" (القديميات البيبلية 25: 7) وهذا بالضبط ما طلبه بولس بالنسبة إلى الزاني الذي كان في كورنتوس: "ليسلّم هذا الرجل إلى الشيطان حتى يهلك جسده، فتخلص روحه في يوم الرب" (1 كور 5: 5) أي: ليسلمِ الله (لا الجماعة) هذا الإنسان إلى الموت، بواسطة الشيطان (وهو الملاك الذي يقوم بالأعمال الدنيئة، ليس هو بعد عدو الله). ليسلّم ذلك الذي دِين لكي يفتدي الموتُ لا النهاية خطيئته. فالموت عنصر مكفّر.
هنا نقرأ 1 تم 19- 2: "بعضهم انكسرت سفينة إيمانهم (أو: غرق إيمانهم) من بين هؤلاء هيمينايس والإسكندر اللذان أسلمتهما إلى الشيطان ليتعلّما أن لا يجدّفا من بعد" (أن لا ينطقا كفراً). لا يتضمّن هذا العنصر البولسي فكرة حكم استبعاد خارج الكنيسة وبالتالي خارج الحالة العمادية، بل قراراً بأن يترك المذنبون في خطيئتهم تحت نظام الموت والخطيئة على مثال "ابنة إبراهيم التي ربطها الشيطان" (لو 13: 16). لم تعد الجماعة تأخذ على عاتقها وظيفة الخلاص بالنسبة إليهم، والموت يبقى مرجعهم الأخير. إن العبارة السحرية «يا شيطان الموت أُسلم إليك فلان» كانت معروفة في العالم الهلنستي، لكن لم يكن لها هدف توبة (كما عند بولس: لكي يتعلّما أن لا يكفرا) أو هدف خلاص (ليخلص الروح، 1 كور 5: 5). حينئذ يكون الموت مكفراً عن الخطيئة على مثال المجرم اليهودي الذي كانوا يدعونه قبل تنفيذ الإعدام: "ليكن موتك تكفيراً عن خطاياك" (المشناة، سنهدرين 6: 2). لا شك في أن التوبة كانت مفروضة، وهذا أمر لا جدال فيه في العالم اليهودي الذي لم يعتبر الديانة يوماً عملاً سحرياً، يفعل في الإنسان الذي لا يتجاوب مع نداء الله.
ونعود إلى خبر حنانيا حيث لا يذكر موضوع التكفير. فنحن لسنا أمام غفران الله بالموت، بل أمام دينونة الخاطئ من أجل الحفاظ على المجموعة. حنانيا هو عاكان الجديد الذي يحتفظ (يميل) بخيرات الله. اكتشفه الله بواسطة بطرس الذي أعلنه، فحكم الله عليه بالموت. وبمختصر الكلام، نحن نتساءل إن لم يكن هذا الخبر صدى تفكير مسيحي متهود صبّ في قالب أخبار إفناء. بهذا الخبر أفهمنا التقليد أن الخطيئة (عاكان، حنانيا) تهدّد الجماعة وتقود إلى الموت.
5- حنانيا والتاريخ
ولكن التدوين المسيحي المتهود لهذا الخبر ما زال يحيرّ القارئ الحديث، بل يصدمه مراراً بحيث أن بعض الليتورجيات تحاشت قراءته في الاحتفالات الدينية. فإذا تأملنا في هذا الخبر الخشن والقاطع كحدّ السيف، نجد أنه رغم كل ذلك يدل على حس عجيب بالخطيئة (جربّ الروح) واعتقاد بسلطة كنسية فيما يخص الخطيئة. فالجماعة تتبع بطرس وبولس، وهي تقدر بل تجبر على إعلان الخطيئة عندما يكون توافق في الشر ينتج عنه أذى للجماعة. وتعلن الكنيسة أيضاً حكم الله على الخاطئ، ولو كان الله وحده يقدر أن يستبعد (بالموت) من الجماعة المذنب الذي ظل مرتبطاً بالكنيسة برباط العماد. لا تستطيع الجماعة أن تصدر حكم استبعاد على مثال مجموعة مثل مجموعة قمران. فالمؤمن لا ينفصل عن الكنيسة كما ينفصل "فرّيسي" أو "أسياني" عن المجموعة التي ينتمي إليها. وحتى زاني كورنتوس الذي حكم عليه بولس رغم تخاذل الكنيسة المحلية، وأعلنه على هامش الجماعة معدّاً للموت، فهذا الزاني يبقى أخاً يقرر الله خلاصه في قلب المشاركة الأخيرة أو خارجها.
هنا نفهم أهمية خبر حنانيا إن أدركناه كوثيقة تاريخية أي على أنه يحمل شهادة رئيسية تتعلّق بالجماعة اللوقاوية حوالي سنة 80، عن معنى الخطيئة، عن السلطة الكنسية فما يخص الخطيئة، عن التمثّلات النموذجية التي أخذت بها هذه الكنيسة لكي تشّرع ممارستها. انطلاقا من هذا الأساس اللوقاوي، يستطيع المؤرخ أن يصعد في مجرى التقليد، علّه يجد المنبع دون أن يتمكن بطريقة مباشرة من القفز من النص، أي من التاريخ نرويه بصورة حرفية، إلى مستوى فرادة ما حدث. فالمؤرخ الذي ينطلق من تقليد وحيد، لا يستطيع أن يجعل نفسه في عالم الحدث وإلاّ خلق بطريقة وهمية خبراً آخر. غير أنه يبدو من الممكن أن نؤكد على النقاط التالية: استعاد لوقا من كنيسته تقليداً مسيحياَ متهوداً قديماً، وكيّفه حسب نظرته. هو لم يخترع ولا شك اسم حنانيا. فلو فعل لخلق التباساً بين حنانيا هذا وحنانيا الذي عمّد بولس الرسول (9: 10 ي): إن الذي أدخل بولس في الكنسية ليس ذلك الذي أخرجه منها.
ومن جهة أخرى، فخطيئة المال التي يتحدّث عنها الخبر تستعيد موضوعاً توسع فيه لوقا: من أجرة يهوذا (1: 18) إلى مالك عليما (8: 18؛ رج لو 16: 13). إنها الخطيئة الجذرية التي صارت مع حنانيا الخطيئة الأصلية في الكنيسة. حينئذ أعلن لوقا أن كل خيرات المسيحيين تبقى تحت سلطة الله وإن كان يحق لهم التصرف بها (تلك كانت الممارسة العادية في زمن لوقا). ولكن هذا لم يمنعه من أن يذكر على سبيل المثال الـ "أوتوبيا" (عالم مثالي) الأولى في الجماعة الناشئة يوم وهب برنابا كل أمواله دون أن يحتفظ بحق التصرف بها. وهنا أيضاً تبقى المعلومة مهمة على المستوى التاريخي، وهي في خط المجموعات الفلسطينية. ففي ذلك الوقت، كان الغش بالمال يهدّد بتدمير الجماعة أقلّه في إطار الطعام الجماعي المرتبط بطعام التعاون الذي هو الموضع الأسمى للمشاركة (كوينونيا).
ونذهب أبعد من هذا فنقول: إن الحدث التاريخي الذي يعكسه أع 5: 1- 11 هو في جوهره حدث دخول الخطيئة إلى الكنيسة مع وعي للسلطة الكنسية على الخطيئة. إن خبر حنانيا يجمع في صورة نموذجية (تعود إلى البدايات) خبرة الخطيئة هذه في الكنيسة. ولكن هذا الإقرار بالخطيئة، وإن لم يكن عميقاً، لا يحمل شيئاً جديداً بالنسبة إلى إعلانات الأنبياء القدامى وإلى الاعتراف بالخطايا الذي مارسته الجماعات التقوية في القرن الأول المسيحي. أما النقطة الجديدة فهي الاعتراف بسلطان كنسي على الخطيئة اعترافاً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسلطان يسوع على الخطيئة كما يقول النص الإنجيلي.
وفي النهاية يدل خبر أع 5: 1- 11 على جماعة تعي وجودها وتحدد نفسها داخل أوتوبيا تقوم بتأسيس طقس دخول في العهد الجديد عبر فعلة استبعاد أو بالأحرى عبر الاعتراف الجماعي بحالة إبعاد يعيشها الخاطئ نفسه لأننا لا نستطيع أن نحلّ نفسنا من المعمودية كمعمودية. أجل هذا هو معنى هذا النص داخل وثائق من العهد الجديد حول موضوع ما زال حاضراً الآن: الله وحده هو الذي يستبعد (يطرد، ينفي) استبعاداً جذرياً، وإن كان على الكنيسة أن تكشف المكان الذي حصر فيه الخاطئ نفسه، وأن تعلن دينونة الله (أي الموت) بالنسبة إليه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM