الفصل الثامن عشر: الإيمان بالمسيح الرب أساس حياتنا

الفصل الثامن عشر
الإيمان بالمسيح الرب أساس حياتنا
2: 36– 41
تشبه خطبة بطرس الأولى عظة الجبل في بداية متى، وعظة يسوع في المجمع عند لوقا، فتحتل مكانة مميزة في أع. إن لوقا يعتبرها مهمّة جداً لمن يريد أن يفهم كتابه ويفسّر سر الفصح ويُدرك إدراكاً عميقاً رسالة الكنيسة والحياة المسيحية. نحن هنا في حفلة تدشين الانطلاقة المسيحية. من هنا العبارة البيبلية المفعمة بالعظمة (تث 1: 1ي؛ 5: 21 ي؛ مت 5: 1 ي؛ لو 4؛20) التي بها قدّم لوقا خطيبه: حينئذ قام بطرس مع الأحد عشر، فرفع الصوت ووجّه إليهم هذه الكلمات (2: 14 أ).
تشكّل هذه الخطبة وحدة متكاملة، ولكننا نشرح فقط الآيات الأخيرة. غير أننا لن نفعل إلا بعد أن نضعها في مجمل الخطبة.
بعد مقدمة قصيرة تشير إلى الظرف الذي يجد فيه الرسل نفوسهم، يعرض بطرس (في قسم بنفماتولوجي أو اسكاتولوجي) موهبة الروح على الكنيسة. إنها موهبة الأيام الأخيرة: نقرأها على ضوء نبوءة يوئيل التي تتخذ بعداً جديداً، بعداً روحياً شاملاً (آ 16- 21). بعد هذا يأتي القسم الكرستولوجي (الحديث عن يسوع المسيح، آ 22- 36)، وفيه يفسّر بطرس مستنداً إلى النصوص الكتابية مضمون حياة يسوع وموته وقيامته. وينتهي هذا القسم بإعلان احتفالي: فليعلم بنو اسرائيل كلهم علم اليقين أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه انتم رباً ومسيحاً (آ 36). وبعد أن قوطع بطرس بسؤال (آ 37: ماذا يجب علينا أن نعمل؟)، أنهى خطبته بتحريض كنسي (آ 38- 40) ظهرت ثماره الملموسة حالاً (آ 41: إنضم 3000 نفس، آ 42- 47، حياة الكنيسة الأولى).
يجب أن نُبقي أمام عيوننا تسلسل أقسام الخطبة ووحدة بنيتها. هكذا نستطيع أن نفهم ممارسة الحياة المسيحية ونربطها بالإيمان. نحن أمام فيض شامل للروح (القسم الأول) يدخلنا في سر المسيح الذي استتر في الكتب المقدسة، وتحقّق بحياة يسوع وقيامته (القسم الثاني) والذي يقودنا إلى الإيمان والأسرار والمحبة في الكنيسة (القسم الثالث الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصورة الحياة المسيحية في آ 42- 47 التي تلي).
أ- الكنيسة تعلن ايمانها
ونعود إلى آ 36 التي تختتم القسم الكرستولوجي. لقد أوجز بطرس المقابلة التي توسّع فيها سابقاً (آ 22- 24؛ رج 3: 13- 14؛ 5: 30- 31) بين الحكم على يسوع الذي تمّ بأيدي البشر، وتمجيد يسوع الذي تمّ بيد الله. ولكن هذه العبارة العميقة تحتوي أيضاً على نداء إلى شهادة اسرائيل وتأكيداً أساسياً للاّهوت المسيحي. أن يدعى كل بيت إسرائيل للشهادة، هذا ما يشدّد على التواصل السري في تاريخ الخلاص.
أما التأكيد اللاهوتي فنجده في شكل أقدم الإعلانات الإيمانية، ويتضمّن الموضوع الواحد: يُسمّى يسوع المسيحَ و الربَ. إن هذين اللقبين لا يسقطان كالمنّ من السماء، بل هما يشملان التفكير اللاهوتي الذي سبقهما. في آ 25- 31، بيَّن بطرس أن يسوع هو المسيح. وفي آ 34- 35، بيَّن أنه الرب. فيسوع كمسيح أتمّ الأسفار المقدسة وآمال العهد القديم. وجاءت الأناجيل لتصوّر دعوة يسوع ورسالته المسيحانية، أقلّه منذ عماده. ولكن المواعيد لا تبلغ ملئها إلا في تمجيده الحاضر. ولقد أقام لوقا جسراً يربط طرفَي حياة يسوع: منذ ولادته (لو 2: 11: هو المسيح الرب) حتى تمجيده (أع 2: 36): يسوع هو المسيح. هذا هو لقبه.
ويسوع هو الرب (كيريوس) أيضاً. هذا لا يعني أنه لم يكن كذلك في السابق. فالجسر الذي وضعه لوقا يصحّ أيضاً للقب رب الذي يُنسب إلى يسوع مرات عديدة خلال حياته العلنية، ولكن بصورة خاصة بعد قيامته (لو 24: 3، 12؛ أع 1: 6). حين نعطي مثل هذا اللقب ليسوع، لا نكتفي بأن نقدّم له واحداً من أسماء الله الخفي، بل ندلّ على أن طابع سيادته قد تجلّى بدون معارضة بفضل تمجيده.
الله جعل يسوع. تُدهشنا هذه العبارة. نبقى أمينين للنص، ولا نضخّم مضمونه ولا نقلّل منه. ليس بطرس وليس المسيحيون الأولون هم الذين اخترعوا مسيحانية يسوع (هو المسيح) وربوبيته (هو الرب والسيد). لا، لم يكن سر الفصح يوماً أسطورة يعظمون بها يسوع. فلوقا اهتم، منذ أولى صفحات إنجيليه، بأن يهيّىء العقول لهذا الإعلان العظيم. لا شك في أن يسوع تجنّب كلّ إعلان قاس، ليبعد كل التباس وكل تفكير سياسي يسبب تسامي السرّ المسيحاني الذي لا يدركه إلاّ الإيمان. ولكن يكفي أن نحلّل بدقة بعض النصوص الإنجيلية، لنكتشف في حياته نفسها علامات عن صفة التسامي التي تُعلَن هنا. وبطرس نفسه لمّح إلى الوجهة المسيحانية لأعمال يسوع. ومن جهة ثانية إنه لأكيد أن الأناجيل بوجهها الحالي، قد سبّقت في أخبار حياته العلنية على استعمال هذه الألقاب ولاسيّما لقب كيريوس (رب). إنها تنقل إلينا صدى الاجتماعات الليتورجية التي كانت تعيشها جماعات الرب الممجّد. فمن يرى في أع 2: 36 خلق جديدٍ جذري أو رفع يسوع إلى طبيعة لم يكن يمتلكها، يخطىء خطأً فادحاً. لا شك في أنه كان هناك توسّع ونموّ، ولكن هذا النموّ كان وعياً لحقيقة سابقة، لا خلقاً لشيء جديد. لم يكن المسيحيون الأوّلون يبنون إيمانأ تدريجياً بألوهية يسوع، بل كانوا يكتشفون حقولاً جديدة لإيمانهم. حين تذكّر التلاميذ حياة يسوع، فهموا أنها كانت مطبوعة كلها بالسر عينه. كان يسوع ابن الله في السر قبل أن يصبحه بالفعل على عيون الناس والملأ.
ولكن يجب أن لا نضعف عبارة بطرس بحيث نفرغها من محتواها. فالأسفار المقدسة تمّت أيضاً في تمجيد يسوع: حينئذ نستطيع أن نعلن الوجهة الملكية لمسيحانيته. فبطرس لا يشدّد على أن يسوع مجّد جزاء كل ما تألّمه حين صار طائعاً حتى الصليب (فل 2: 9- 10). فالروح وحده أعطاه القدرة ليتحمّل موته. لهذا نحن نرى في هذا الموت التعبير السامي عن مسيحانيته وربوبيته. وبكلام آخر، لم يكن يسوع المسيح لأنه تحمّل الموت طاعة للآب، ولكنّه تألم ومات ليطيع إرادة الله لأنه كان المسيح الذي أعلن عنه الأنبياء. إن الفترة التاريخية التي يحدّثنا عنها أع 2: 36 تقابل واقعاً لا ينكر: إن يسوع قد نُصّب مسيحاً ورباً. والذين يعترفون به كذلك، سيقيم معهم بفيض الروح علاقة خلاص جديدة تتيح لبولس أن يسمّيه في لغته اللاهوتية روحاً يعطي الحياة، روحاً محيياً (1 كور 15: 45). ما أشار إليه لوقا منذ بداية إنجيله، أمكن الإعلان عنه الآن دون خوف الوقوع في التبنيّانية (الآب تبنى الابن). إن يسوع يعيش في علاقة فريدة مع الله (لو 1: 45) الذي أرسله (لو 4: 43) ومنحه سلطة مميّزة (لو 4: 33) يعلن بفضلها كلمة الله عينها (لو5: 1) ويشعّ مجده دون انقطاع (لو 2: 9- 14، 20؛ 7: 16- 17؛ 13: 13).
ب- الكنيسة تعبرّ عن إيمانها في حياتها
"فلّما سمع الحاضرون هذا الكلام، توجّعت قلوبهم" (آ 37).
بعد أن نقل لوقا الإعلان الرسولي والرسمي عن الإيمان المسيحي، أخبرنا كعادته (4: 4؛ 5: 33) بردّة فعل السامعين: كانت إيجابية جداً. ونحن نجد الرسمة نفسها عند مار بولس: كرازة، سماع الكلمة، إيمان (روم 10: 14- 15). أول علامات الإيمان التي تظهر في القلب (أي في الإنسان الداخلي) هى التوجّع. وقال السامعون للرسل إخوتهم في الإيمان: "ماذا يجب علينا أن نفعل"؟ وهكذا جعل لوقا مجموعة من الناس تتكلّم، وكأنها تؤلّف جوقة كبيرة (2: 7- 11؛ لو 2: 20؛ 7: 16 ي؛ 13: 17). ولكن ما يسرّ به لوقا، هو أن يعبر الإيمان إلى العمل، وأن يُترجم في الحياة كي يتحقّق الخلاص: ماذا يجب علينا أن نعمل؟ هذا السؤال طرحه سامعو يوحنا المعمدان ثلاث مرات (لو 3: 10، 12، 14)، وطرحه معلم الناموس على يسوع (لو 10: 25). وسيطرحه القديس بولس على الرب في طريق دمشق (أع 22: 10). وسيطرحه السجان المرتعب على بولس وسيلا (16: 30). يطرح السامع السؤال، فيدلّ على أنه مستعدّ لكل شيء، فيبين له الرب (أو الرسول) كيف أن الإيمان ينطبق على الحياة الملموسة.
فقال بطرس: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم" (آ 38). ويعدّد القديس بطرس المراحل الثلاث التي تتوزع طريق الخلاص: التوبة، المعمودية، قبول الروح. وتتضمّن الندامة الصادقة عن الخطايا عودة إلى الذات في وجهة من وجهاتها. ولكننا لسنا فقط أمام تحليل داخلي، بل أمام حوار شخصي مع المسيح. والعماد الذي نتقبله من يد الكنيسة هو ضروري للخلاص (ليتعمد كل واحد منكم). يُعطى هذا العماد باسم يسوع المسيح لغفران الخطايا. لا نحصل على هذه النتيجة بفضل قوة سحرية تتعلق بالكلمات، بل نحن نستند إلى قوة المسيح نفسه. وإذا كانت لفظة "عمّد" تشير إلى الطقس الأسراري، فنحن لا نجد التعبير الليتورجي لهذا الطقس في عبارة "باسم يسوع (الذي هو) المسيح". إن النص يشدّد على الإيمان الذي يعلنه كل واحد شخصياً بالمسيح. أخيراً إن الروح الذي هو عطية الله هو موضوع وعد من قبل بطرس: "تنالون الروح القدس".
"لأن الوعد لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين" (آ 39). إن الباعث الذي يدفع الله في عمل الخلاص هذا الآن هو أمانته لكلمته. وهذا الوعد لا يخص فقط الذين هم هنا (لكم، أنتم الشعب اليهودي)، بل يمتد إلى أولادهم وإلى كل الذين يدعوهم الرب حتى ولو كانوا بعيدين (أي: لو كانوا من الوثنيين). يتذكّر بطرس هنا أشعيا ويوئيل. إن الذين هم بعيدون يقدرون أن يقتربوا وينضمّوا إلى الشعب الكهنوتي الذي يتكوّن الآن. أما الشعب المختار الذي ما زال يملك الوعد، فيقدر أن ينال الغفران والروح، كما يقول لوقا في أماكن أخرى (3: 15 ي؛ لو 23: 34). وإن دعا الرب اليهود، فهم يقدرون أن يتحّدوا مع الذين جاؤوا من بعيد فيكونون شعب "الذين يدعون باسم الرب". هذا هو الاسم الجميل الذي أعطي للمسيحيين: "الذين يدعون باسم الرب (2: 21؛ 9: 14، 21؛ 22: 16؛ 1 كور 1: 2؛ 2 تم 2: 22).
"وكان بطرس يناشدهم ويشجعهم بأقوال أخرى كثيرة" (آ 40). ينبّهنا لوقا أنه أعطانا خطبة موجزة وأعطانا رسمة توسّع فيها بطريقته. ثم يلخّص لنا بعبارات قاسية تحريض بطرس الأخير: "تخلّصوا من هذا الجيل الفاسد". طبّقت التوراة هذه العبارة على شعب اسرائيل الذي خان العهد (رج تث 32: 5، 20؛ مز 78: 8). ثم طبّقها يسوع على معاصريه (رج مت 16: 4: جيل فاسد فاسق يطلب آية). وطبّقت العبارة في الكنيسة على العالم الذي يرفض الخلاص (غل 2: 15). لقد اتخذ الجيل معناه النموذجي الكامل. إن جيل الخروج الذي كان صورة الجيل الذي حكم على المسيح، صار صورة العالم الخاطىء. ثم إن هذه الصورة دخلت في مناخ "الأيام الأخيرة" الذي ذكره بطرس في بداية خطبته، فبدت قاسية ومهدّدة.
"فقبل بعضهم كلامه وتعمّدوا" (آ 41). قال لنا النص ممن يجب ان نحتفظ لنخلص. وها هو يشير إلى جماعة الخلاص التي يدخلنا فيها تقبّل الكلمة والأسرار: "انضم" 3000 نفس إلى جماعة المؤمنين الذين تعلّقوا بالرب. وهذا ما يقول النص فيما بعد (2: 47؛ 11: 21، 24). وكان الرب نفسه ينمي كنيسته (2: 47). وهناك نصوص لوقاوية أخرى تشدّد على هذا النمو. هي لا تتوقف على الأرقام، بل تعتبر هذا النمو (في منظار العهد القديم) علامة البركة الإلهية وثمرة العهد التي وعدتنا بها الحقبة الاسكاتولوجية بوفرة. ويرسم لوقا حالاً بعد النص الذي درسنا (آ 42- 47) لوحة أولى عن الحياة المسيحية. وهذه اللوحة تعكس رغم ما فيها من اصطناع، الميزات الجوهرية في الكنيسة الفتية. ولا ننسى أن هذه الآيات ترتبط في فكر الكاتب ارتباطاَ وثيقاً بسر الفصح وبخطبة بطرس. فالحياة المسيحية التى ترافقها شركة كاملة في الإيمان وفعل الشكر وعاطفة المحبة، هي أولاً وآخراً ثمرة الروح القدس. وروحانية وجودنا في الكنيسة لا يمكنها أن تتأسّس إلا على الإيمان الفصحي بيسوع الذي هو المسيح والرب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM