الفصل السادس عشر: العنصرة المسيحية الاولى

الفصل السادس عشر
العنصرة المسيحية الاولى
2: 1- 11
تحل العنصرة المسيحية محلّ الاحتفال اليهودي بإعلان الشريعة وتتممّه. فالعيد اليهودي يصبّ في العيد المسيحي الذي يتجاوزه. ولكنه يحمل إلى العيد المسيحي كنوزه البيبلية وفكره اللاهوتي، يحمل إلى عنصرتنا العمق التعليمي.
إن خبر حدث العنصرة في أع يشهد لاهتمام الكاتب بإلقاء الضوء عليه بواسطة الكتب المقدسة. واستعمال يوء 3: 1- 5 في أع 2: 17- 21، 33، 39 له معنى خاص في هذا المجال. وكذا نقول عن التلميح إلى مز 68: 19 في أع 2: 33. كان المجمع قد طبق هذا المزمور على عطية الشريعة. فطبقته الكنيسة الأولى على عطية الروح (أف 4: 8- 11). دوّن خبر العنصرة بطريقة شخصية، ومع ذلك نحن نستشف تيوفانيا (ظهور) سيناء والتقاليد اليهودية المرتبطة بها.
ولكنّنا لن نكتفي بالتذكّرات التي تشكل خلفيّة الخبر. فلا بد من الدخول في منظار الكاتب الملهم الذي يهتم بإعطائنا الواقع مع تفسير هذا الواقع. ونحن سنصل إلى هذا التفسير بعد أن نشرح النص متطرّقين إلى المسائل التي يطرحها.
أ- مجيء الروح (2: 1- 4)
1- يوم العنصرة (آ 1)
أولاً: تاريخ الحدث: العنصرة (التجمّع والابتهاج). بنتيكوستي هي كلمة يونانية تعني اليوم الخمسين بعد الفصح. الاسم التقليدي في العبرية: عيد الأسابيع. يطلب المشترع من المؤمن "أن يحسب سبعة أسابيع تامة من غد السبت، من اليوم الذي فيه أتوا بحزمة يقدمونها" (لا 23: 15). لم تكن الفريضة واضحة. لهذا وُجد في القرن الأول المسيحي ثلاث طرق لحساب الخمسين يوماً: الصادوقيون يعدّونها انطلاقاً من عيد الفصح. الفريسيون يعدّونها انطلاقاً من السبت الذي يلي الفصح. الأسيانيون يحسبونها انطلاقاً من السبت الذي يلي اليوم الثامن بعد الفصح. المفيد في حساب الأسيانيين هو أنه يلتقي مع التاريخ الذي فيه يحدّد خر 19: 1 أحداث سيناء: "في الشهر الثالث لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في ذلك اليوم جاؤوا برّية سيناء". ولكن الفريسيين كانوا يعملون لكي يلتقي هذان التاريخان: يكفي أن نقرأ "في اليوم السادس" بدل "في ذلك اليوم".
ثانياً: الإشارة الكرونولوجية في أع ليست أوضح مما نجد في البنتاتوكس (أسفار موسى الخمسة). كتب لوقا: "حين تمّ يوم العنصرة". هذا يعني للوهلة الأولى: إذ كان يوم العنصرة قد شارف إلى النهاية. ولكن هذا المعنى مرفوض بواسطة آ 5 حيث نعرف أن الساعة هي التاسعة صباحاً (الثالثة). فالعبارات المشابهة ليست نادرة، وهي تدل على أننا أمام عبارة إضمارية. مثلأ، كتب لوقا في الإنجيل: "تمّ لأليصابات وقت الولادة" (لو 1: 57). هذا لا يعني أن الولادة تمت، بل أن زمن الولادة حل: ما تمّ هو الزمن السابق للولادة. وهكذا نقول عن 2: 1: تمّ الزمن الذي يصل بنا إلى العنصرة. انتهت هذه الحقبة، فوصلنا إلى يوم العيد. قالت اللاتينية الشعبية والترجمات القديمة: "حين تمت أيام العنصرة": جعلت الجمع مكان المفرد، فصار النص أكثر وضوحاً.
هناك شّراح قالوا: اقترب يوم العنصرة، ولكن أيامه لم تتمّ بعد. ما هو معقول هو أن لوقا أراد أن يقول إن الحدث طابق العيد اليهودي الذي يقدّم له الخلفية ويساعدنا على إدراك مضمونه العميق. وهناك من ربط فعل "تمّ" بمعنى لاهوتي: نحن أمام إكمال الوعد الإلهي أو المخطّط الإلهي. يبدو أن هذا التفسير يحمّل الفعل أكثر ممّا يقدر أن يحمل، وأكثر مما تشير إليه النصوص الموازية.
ثالثاً: "كانوا مجتمعين كلهم في مكان واحد". من تعني "كلهم"؟ هناك من يقول: 120 شخصاً المذكورين في 1: 15. وآخرون: الرسل وحدهم مع الأشخاص المذكورين في 1: 14، أي: "بعض النساء ومريم أم يسوع وأخوته". إذا أخذنا بالتفسير الأول كانت هناك 12 مجموعة، وكل مجموعة تتألّف من عشرة أشخاص (العدد المطلوب من أجل بناء مجمع).
نلاحظ أولاً العلاقة الوثيقة بين 2: 1- 2 و1: 13- 14 فالعبارة: "كانوا مجتمعين كلهم في مكان واحد"، هي صدى لما نقرأ في 1: 14: "كانوا يواظبون كلّهم على الصلاة بقلب واحد". وما نجد في 2: 2 عن "البيت الذي كانوا فيه" هو صدى لما في 1: 13 "العلية التي كانوا يقيمون فيها". ونلاحظ أن 2: 7 تقول إن كل المستفيدين من فيض الروح هم جليليون. وحين يبدأ بطرس خطبته، يقول لوقا عنه إنه وقف مع الأحد عشر (آ 14).
رابعاً: "كانوا مجتمعين كلهم في مكان واحد". تدلّ العبارة على تجمع خارجي محلي. ولكن إذا عدنا إلى درس مفردات لوقا وإلى الرباط مع 1: 13- 14 نفهم أننا أمام اتفاق. إنهم معاً، لا بالمكان الذي يقيمون فيه وحسب، بل باتحّاد القلوب. فحين أعلنت شريعة سيناء، "أجاب كل الشعب معاً" (يحدّد وكأنه صوت واحد) "بقلب واحد" متعهداً بأن يُتمّ كلمات الله (خر 19: 8). ولقد شدّد التقليد اليهودي على هذا الواقع. قال الترجوم منذ بداية الخبر: "خيّم إسرائيل تجاه الجبل بقلب موّحد" (خر 19: 2). وشرح تفسير التنائيين: حين وصل بنو إسرائيل إلى سيناء كانوا "قلباً واحداً". وحين أجابوا موسى (خر 19: 8) كانوا "قلباً واحداً". ويعود الموضوع بمناسبة خر 20: 2: "حين كانوا كلّهم في جبل سيناء ليتقبّلوا الشريعة، كانوا كلهم قلباً واحداً ليحصلوا بفرح على ملكوت الله". إن توافق الجماعة المسيحية يوم العنصرة يقابل توافق جماعة إسرائيل عند سفح جبل سيناء.
2- الضجة والدوي (آ 2)
رافق مجيء الروح ظاهرتان محسوستان: ضجة ودوي (آ 2)، ظهور ألسنة من
نار (آ 3).
أولاً: تسمّى الضجة التي سمعت «ايخوس» في العهد الجديد إلا في الرسالة إلى العبرانيين: "وما اقتربتم أنتم من واقع (هناك من يقول: جبل) ملموس: نار ملتهبة، ظلام، ضباب، زوبعة، دوّي بوق، صوت كلام" (عب 12: 18- 19). لم يكن المسيحيون مثل الإسرائليين الذين ظهر الله لهم على سيناء بطريقة محسوسة. هم لم يحتاجوا إلى كل هذا الدويّ ليقتربوا من الله بالإيمان، ليجيئوا إلى جبل صهيون، إلى أورشليم السماوية (عب 12: 22). إن ذكر تيوفانيا سيناء يعود بصورة خاصة إلى خر 19: 16: "وحدث في اليوم الثالث عند الصباح، أنها كانت أصوات (فوني) وبروق وغمام كثيف على جبل سيناء. ودويّ صوت بوق". ويتوسّع فيلون في مقاله عن الديكالوغ (الوصايا العشر) في معطيات النص الملهم. يتخيّل أن الله خلق في الجو ضجة غير منظورة حوّلت الهواء إلى نار مشتعلة. ثم تحدّث عن صوت دوي وسط نار انتشرت من السماء فتحوّل لهيبها إلى لغة تكيّفت مع السامعين. قيلت الكلمات بوضوح، فأحس كل واحد أنه يسمعها، بل يراها (خر 20: 18). تدلّ هذه الاعتبارات على اهتمام العالم اليهودي في القرن الأول المسيحي بتفحّص خبر تيوفانيا سيناء. أجل، إن العنصرة المسيحية الأولى هي تجديد التيوفانيا التي تذكّرتها العنصرة اليهودية.
ثانياً: جاءت الضجة من السماء: مثل الصوت الذي سُمع في عماد يسوع (مت 3: 17. مر 1: 11؛ 3: 22) أو مثل الصوت الذي سمعه بطرس في يافا (أع 11: 9)، أو مثل الذي سمعه الرائي في سفر الرؤيا (10: 4- 8؛ 11: 12؛ 14: 2، 13، 18)، أو مثل الصوت الذي دوّى في سيناء. "من السماء أسمع الله صوته" (تث 4: 36؛ رج خر 19: 3؛ 20: 22).
ثالثاً: يشدّد لوقا على فجاءة هذه الضجة. حدث فجأة. لا نجد هذه الكلمة (أفنو اليونانية) في كل العهد الجديد إلا هنا وفي 16: 26 و28: 6. ويجب أن ننسب أيضاً إلى لوقا المقابلة: "دوي كريح عاصفة". تذكرنا الكلمات بصورة سفينة تغرق (أع 27: 40- 41). لا يقول لوقا إنه كانت ريح، بل إن الضجة التي دلّت على حضور الروح تشبه ضجة ريح عاصفة.
رابعاً: إن هذه الضجة ملأت كل البيت الذي كانوا فيه. هذا البيت هو العلية التي كان الرسل يقيمون فيها عادة (1: 13). ملأت الضجة كل البيت، وسيملأ الروح القدس كل الموجودين هناك (آ 4). هنا نتذكر أيضا خر 19: 18: "كان جبل سيناء مدّخناً كله، لأن الرب هبط عليه بالنار".
3- ألسنة من نار (آ 3)
أولاً: وجاءت الظاهرة البصرية بعد الظاهرة الصوتية: "ظهرت لهم ألسنة". حرفياً: "ألسنة رُؤيت بهم". كتب متى: "ظهر ملاك ليوسف" (مت 1: 20؛ 2: 3، 19). أما لوقا فيقول: "رؤي الملاك" (لو 1: 11؛ 22: 43؛ أع 7: 30، 35). رؤي الله لإبراهيم (7: 2). المسيح القائم رؤي (ظهر) لبولس أو بطرس 9: 17؛ 26: 16؛ لو 24: 34؛ رج 1 كور 15: 5- 8) (صيغة المجهول تدل على عمل الله). نحن أمام ظهورات علوية حيث يجعل الله نفسه مرئياً. إذن، شهد الرسل تجلّي واقعٍ علوي.
ثانياً: وكان هذا الظهور بشكل ألسنة نار. نحن أمام ألسنة لهب تظهر للرسل. واستعمال كلمة نار له فائدته لأنه يذكرنا بتيوفانيا سيناء (خر 19: 18؛ 24: 17؛ تث 4: 5). ونبّهنا لوقا إلى أن هذه الألسنة لم تكن ناراً حقة، ولكنها كانت "كأنها من نار".
ثالثاً: حين رفع التلاميذ أنظارهم كانت الألسنة "النارية" تنقسم. هنا نجد تقارباً مع التقاليد الرابانية المتعلقة بأحداث سيناء. على الجبل المقدس، انقسم صوت الله إلى سبعة أصوات ثمّ إلى سبعين لساناً، أي على عدد الشعوب. وإليك هذا القول من رابي يوحنان (منتصف القرن 2 ب م): "خرج الصوت الإلهي وانقسم إلى سبعين صوتاً، إلى سبعين لساناً، بحيث سمعه كل الشعوب. وكل شعب سمع الصوت في لغته الخاصة". انقسم صوت الله وكلمته حين اتصّل بالبشر. نحن هنا في خط القراءة اليهودية لخبر إعلان الشريعة في التوراة.
رابعاً: "ووقف على كل واحد منهم". يقول النص اليوناني: وحطّ على كل واحد منهم. ليست هناك من فاعل. فيفترض أن الفاعل هي الألسنة التي انقسمت وتوزّعت على كل الحاضرين. أما استعمال المفرد فيعود إلى أن الكاتب فكر لا بالألسن بل بالروح القدس المتجلّي عبر هذه الألسن. وتتابع آ 4 الجملة فتقول: "فامتلأوا كلهم من الروح القدس".
"وقف أو حطّ" أو أقام. يقول الإزائيون في عماد يسوع إن الروح نزل عليه (مت 3: 16 وز). ويوضح يوحنا: "نزل وأقام" (يو 1: 32- 33). أجل، نزل الروح القدس، وضع يده على التلاميذ، أقام فيهم.
4- امتلأوا من الروح القدس (آ 4)
يقدّم لنا. لوقا الأمور بطريقة تدريجية. هو لم يذكر حتى الآن الروح القدس. كان قد تكلّم عن صوت قوي يشبه عاصفة عنيفة، ثم عن ظهور ألسنة تشبه النار. كل هذا علامات تنبئ بحضور الله. وها هو يدل الآن على روح الله الذي يضع يده على القلوب.
أولاً: كتب لوقا عن كل الذين كانوا هنا: امتلأوا من الروح القدس: كما امتلأ يسوع بعد عماده (لو 4: 1) ويوحنا المعمدان وهو في حشا أمه (لو 1: 15). وكما امتلأ زكريا وأليصابات حين تلفّظا بكلمات ملهمة (لو 1: 41، 67). وفي سفر الأعمال سنرى بطرس (4: 8) وبولس (9: 17؛ 13: 9) واسطفانس (6: 5؛ 7: 55) وبرنابا (11: 24) والرسل (4: 31) وتلاميذ أنطاكية بسيدية (13: 53) مملوئين من الروح عينه. منذ بداية تاريخ الكنيسة، ومنذ بداية تاريخ يسوع، نرى روح الله يعمل، وحضوره الناشط هو من القوة بحيث يظهر بطريقة تذكرنا بالماء: نشعر أنه ملأ الوعاء حين يفيض الوعاء. وإن خطبة بطرس ستتكلّم عن فيض الروح: صعد يسوع إلى السماء، فنال الروح من الآب ليفيضه على تلاميذه (2: 17، 33).
ثانياً: سيتوقف النص عند نتيجة ملموسة لحضور الروح. كان يسوع قد أعلن عن حدث العنصرة بكلمات جعلها لوقا في خاتمة إنجيله: "سأرسل إليكم ما وعد به أبي. فأقيموا في أورشليم إلى أن تحلّ عليكم القوة من العُلى" (لو 24: 49). وسُيعاد قول يسوع في بداية أع: "ستنالون قوة هي قوة الروح القدس الذي سيحلّ عليكم. حينئذ تكونون لي شهوداً" (1: 8). فصورة القوة (ديناميس) الإلهية التي تنزل على الرسل لتحيط بهم كالرداء، تختلف قليلاً عن صورة الفيض الداخلي الذي يملأهم فيطفح. إن الموهبة التي تدلّ على حضور الروح في التلاميذ، هي في الوقت عينه ظهور القدرة العلوية التي تلبسهم كالرداء.
ثالثاً: ويُعلَن مجيء الروح في العنصرة بصورة أخرى: "يوحنا عمّد بالماء، وإما أنتم فتتعمدون بالروح القدس بعد أيام قليلة" (1: 5). هـذا الوعد الذي يرد بفم يسوع هو صدى لإعلان المعمدان: "أنا أعمدّكم بالماء ويجيء الآن من هو أقوى مني، وما أنا أهل لأن أحلّ رباط حذائه. هو يعمّدكم بالروح القدس والنار" (لو 3: 16). إن فيض الروح في صباح العنصرة هو عماد، أي تغطيس (حسب اشتقاق الكلمة): لقد "تغطّس" الرسل في الروح القدس الذي يشبّه بمياه تغمر الإنسان.
جاء الروح القدس من السماء على الرسل في صباح العنصرة، وهو منذ ذلك الوقت حاضر في الكنيسة، وحضوره سيكون العلامة المميّزة للتدبير المسيحي. فالرسول يقدر أن يقول لكل مسيحي: "أرسل الله إلى قلوبكم روح ابنه" (غل 4: 6). الله هو الذي يثبّتنا في المسيح. وهو الذي مسحنا وختمنا بخاتمه، ومنحنا "عربونا في قلوبنا" (2 كور 2: 21- 22). كان إسرائيل قد نال الشريعة التي تعلّمه كيف يرضي الله. ولكن هذه الشريعة عجزت عن تبديل الإنسان: فبدل أن تحمل إليه البر والحياة، صارت أداة الحكم عليه وموته. وجاء العهد الجديد، فأحلّ محلّ فرائض الشريعة عطية الروح الذي يحوّل القلوب. والسلوك الذي ينتظره الله منا، لا يَفرِضه الروح علينا من الخارج، بل ينفحه في أعماقنا. إذن، يستطيع بولس أن يقول للمسيحيين: "إذا كان الروح يقودكم، فما أنتم في حكم الشريعة" (غل 5: 18). وهذه الطريقة في تصوّر الوضع المسيحي على أنه تدبير الروح تجاه حكم الشريعة، تحتل مكانة رئيسية في اللاهوت الذي توسّع فيه الرسول في روم، 2 كور، غل. ونحن نلاحظ أن هذا التناقض يبرز خاصة في إطار العنصرة: كان اليهود يتذكّرون عطية الشريعة في ذلك اليوم. فجاء العيد المسيحي فتذكر فيض الروح القدس.
ب- أخذوا يتكلمون بلغات أخرى
أمامنا اتجاهان: في اتجاه أول، ترتبط الخطب التي يتلفظ بها الرسل تحت تأثير الروح بعطية الألسنة، وتتضمّن أصواتاً لا معنى لها في أي لغة بشرية. في اتجاه ثانٍ ، عبّر الرسل عما في داخلهم بلغات غريبة بالنسبة إليهم، ولكنها كانت لغات شعوب ممثلّة بين الحاضرين. يظن عدد من الشّراح أننا لا نستطيع أن نختار بين هذين التفسيرين. هناك من يقول: يدل خبر أع على ثنائية حقيقية: وضع لوقا تفسيرين، الواحد قرب الآخر، كما وصلا إليه عبر تقليدين مختلفين. واعتبر آخرون (وهم كثر) أن خبر لوقا متناسق: أثار الروح لدى الرسل خطباً انخطافية لا يفهمها البشر، وفي الوقت عينه مُنح السامعون أن يفهموها كلّ في لغته الخاصة.
1- التكلم بألسنة
كتب لوقا أن الرسل أخذوا "يتكلّمون بلغات أخرى". نترك الآن لفظة "أخرى" ونتعرّف إلى عبارة "تكلّموا بلغات" التي تدلت على موهبة شاعت في الكنيسة الأولى.
أولاً: يتحدث أع عن التكلم بألسنة مرة أولى في بيت كورنيليوس الضابط الوثني (في قيصرية) الذي قبله بطرس في الكنيسة مع كل عائلته: "وبينما بطرس يتكلّم، نزل الروح القدس على جميع الذين يسمعون كلامه. فتعجّب المؤمنون من أهل الختان الذين رافقوا بطرس حين رأوا أن الله أفاض هبة الروح القدس على الأمم (الوثنيين). وكانوا يسمعونهم يتكلّمون بلغات ويعظمّون (ويتحدثون بعظائم) الله" (10: 44- 46).
إن كورنيليوس وذويه "يتكلّمون بلغات" أي يُلقون خطباً انخطافية. لا نستطيع أن نفكر هنا باستعمال لغة شعوب مختلفة. إن حدث قيصرية هذا هو مهم بصورة خاصة، لأنه يشدد على أمر شبيه بمّا حدث يوم العنصرة. وسأل بطرس الحاضرين: "من يمكنه أن يمنع ماء المعمودية عن الذين نالوا الروح القدس مثلنا نحن" (10: 47)؟ وحين عاد إلى أورشليم شرح تصرفه: "فلما بدأت أتكلّم، نزل الروح القدس عليهم مثلما نزل علينا نحن في البدء. فتذكّرت ما قال الرب: عمّد يوحنا بالماء، وأما أنتم فتتعمّدون بالروح القدس. فإذا كان الله وهب هؤلاء ما وهبنا نحن..." (11: 15- 17). وسيعود بطرس إلى الموضوع نفسه في مجمع أورشليم: «شهد الله على رضاه عنهم، فوهب لهم الروح القدس كما وهبه لنا" (15: 8). نلاحظ أن المقابلة تتعلّق بعطية الروح، لا بالطريقة التي بها يدل الروح على حضوره. ولا تقول النصوص إن الموهبة (كرسمة) التي منحت للوثنيين في قيصرية تشبه تلك التي نالها الرسل في العنصرة.
وتعود العبارة أيضاً في حادثة تلاميذ يوحنا المعمدان في أفسس: "وحين وضع بولس يديه عليهم، نزل عليهم الروح القدس، فأخذوا يتكلّمون باللغات ويتنبّأون" (19: 6). يظهر حلول الروح هنا، لا باستعمال ألسن غير مفهومة وحسب، بل بخطب ملهمة ومفهومة ترتبط بموهبة "النبوءة".
ثانياً: يقدم لنا القديس بولس تفاصيل أكثر عن موهبة الألسن في التوسيع الطويل الذي نقرأه في 1 كور 13: 14. أمام حماس مسيحيّي كورنتوس لهذه الموهبة الخارقة، شدّد بولس أولاً في ف 12 على فائدة تنوّع المواهب التي يمنحها الروح. لا شيء يدهش "إن تكلّموا كلّهم بألسن" (1كور 12: 30): فالروح لا يعطي تنوّع الألسن إلا إلى بعض المسيحيين. ويمنح آخرين موهبة "تفسير الألسن" (1كور 12: 10) التي تكمّل الأولى. ولكن هناك موهبة يجب أن يطمح الجميع إليها، والتي بدونها لن نستفيد شيئاً إن نحن "تكلمنا بلغات الناس والملائكة": هذه الموهبة هي المحبة (1كور 13: 1). ويلاحظ الرسول في 1كور 14 أن "الذي يتكلّم بلغات" لا يكلّم الناس، بل الله. فما من أحد يفهم كلامه: فهو "يقول في الروح أشياء خفية" (1كور 14: 2). والذي يتكلّم بلغات لا يعمل لبناء الجماعة إلا إذا وُجد شخص يقدر أن يترجم خطبته إلى لغة مفهومة (1كور 14: 4- 13). بل إن العقل يبقى عقيماً عند من يصلي بلغات (آ 14): هونفسه لا يدرك معنى صلاته. فعطية التكلّم بالألسن تشبه الهذيان. ويقول بولس: إن دخل غير المؤمن إلى اجتماع يتكلّم فيه الجميع بلغة غريبة، إما يقول: "إنكم مجانين" (1كور 14: 23)؟ عملياً، وخلال اجتماعات الكنيسة، من الحكمة أن نحدّد عدد الخطب بألسنة: خطبتان أو ثلاث وشرط أن يُوجد إنسان يترجم.
ثالثاً: هل التكلم بلغات في أع هو نفسه المصوَّر في 1كور؟ هناك إشارات تقرّب بين النصين. ثم إن 1كور 14 تفهمنا موهبتين أساسيتين في أع 19: 6: "يتكلّمون بلغات ويتنبّأون".
وهناك إشارة أخرى تساعدنا على تفسير معجزة العنصرة: ردة الفعل عند غير المؤمنين الذين يحضرون حفلة تكلّم بالألسن في كنيسة كورنتوس: "يقولون إنكم مجانين" (1كور 14: 23). ويورد لوقا هزء آخرين كانوا يقولون: "إنهم سكارى" (2: 13). فانطلق بطرس من هذه الملاحظة ليلقي خطبته: "ليس هؤلاء سكارى كما تظنّون، فنحن بعدُ في التاسعة صباحاً" (2: 15). يكون الحديث عن السكر معقولاً إن تكلّم الرسل بألسن غير مفهومة. ولكن الأمر يختلف إن ألقوا خطبة يفهمها كل واحد في لغته.
ونجد تقارباً آخر يقول بولس: من يتكلّم بألسن يتوجّه إلى الله (1كور 14: 2- 28): هو يصلّي (آ 14- 15)، يبارك الله (آ 16)، يحمده (آ 17). هذه الكلمات التي لا يفهمها الحاضرون، هي مفهومة في نظر الله وهي تمجّده. ويلاحظ لوقا في حدث قيصرية أن الحاضرين أحسوّا بمجيء الروح على كورنيليوس وذويه، لأنهم سمعوهم يتكلّمون بألسن ويعظّمون الله (10: 46). ويوضح خبر العنصرة أن الحاضرين سمعوا الرسل "يتكلّمون عن عظائم الله" (2: 11).
ماذا نقول في العبارة المستعملة عن كورنيليوس وذويه؟ يدل الروح على حضوره بالتكلّم بألسنة ثم بمدائح يفهمها الجميع. وتلاميذ يوحنا (19: 6) يتكلّمون بألسن ويتنبّأون. إن الأناشيد الموجّهة إلى الله هي من النوع النبوي: "امتلأ زكريا من الروح القدس فتنبّأ قائلاً: تبارك الرب، إله إسرائيل" (لو 1: 67- 68). إذاً، من المفضل حين نقرأ أع 10: 46 أن نفكّر أيضاً بتجلّيات الروح: تكلّم كورنيليوس وذووه بألسن وأنشدوا عظائم الله.
ونعود إلى العنصرة حيث أعلن الحاضرون: "سمعناهم يتكلّمون بلغاتنا عن أعمال الله العظيمة". عندما يقولون، "بلغاتنا"، هم يعنون أنهم فهموا الخطبة. فهذه الخطب الموجهة إلى الله ليست صلوات انخطافية كما في 1كور 14، بل أناشيد ملهمة مثل نشيد مريم الذي فيه تعظّم الرب فتقول: "القدير صنع بي عظائم، أموراً عظيمة" (لو 1: 49). أمسك الروح بالرسل، فأخذوا يمدحون الله وينشدون أعماله العجيبة: "عظيمة عجيبة أعمالك، أيها الرب الإله القدير" (رؤ 15: 3). وإذ ملأ الروح القلوب، جعلها تفيض إعجاباً وعرفان جميل تجاه الله. فجاءت هذه العواطف في مدائح تعود إلى النبوءة لا إلى تعدّد الألسن. وهكذا يبدو أن الموهبة التي منحها الروح للرسل يوم العنصرة، ليست من نوع تعدّد الألسن، بل من النوع النبوي الذي أعطانا الأناشيد الملهمة خاصة في لو 1- 2.
2- في لغات أخرى
أولاً: في قيصرية، في أفسس، في كورنتوس، هناك حديث عن التكلم بألسن. أما خبر العنصرة فيقول: "تكلّموا بلغات أخرى". لماذا زاد لوقا لفظة "أخرى" هنا، بينما لم يزدها في 10: 46 و19: 6؟ نقرأ في أش 28: 11: "سأكلّم هذا الشعب برجال من لغة أخرى وبشفاه غريبة". إذن، لغة أخرى تعني عادة: "لغة غريبة".
ثانياً: يزيد لوقا في نهاية الآية تحديداً آخر: "على قدر ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا". نحن هنا أمام خطبة احتفالية أو ملهمة. في آ 14، يتكلّم النص عن خطبة كبيرة لبطرس لا تدخل في فئة التكلّم بالألسن. وفي 26: 25، نحن أمام كلام بولس لدى الملك أغريبا. وهكذا نستنتج: "حين يتكلّم الرسل حسب ما يعطيهم الروح أن ينطقوا"، فهم يتكلّمون كلاماً مفهوماً.
ثالثاً: لا نستطيع أن نعزل عبارة آ 4 عن الإشارات التي تقترحها الآيات التالية. فبعد أن قال لوقا إن الرسل تكلّموا بلغات أخرى، صوّر ردة الفعل لدى الحاضرين وأشار أولاً (آ 6) إلى أن "كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته". وتشدّد آ 7- 8 على غرابة الأمر: "هؤلاء المتكلمون هم كلهم من الجليل". ومع هذا فكلّ من الحاضرين يسمعهم في لغة بلده. وبعد أن يعدّد الشعوب الموجودين في أورشليم، يقول لوقا مرة أخرى في آ 11: "نسمعهم يتكلّمون بلغاتنا على أعمال الله العجيبة". إذن، لا شك في معنى العبارة: تكلّم بلغات أخرى، أي تكلّم بلغة بلد كل من السامعين.
أجل، لم يتكلّم الرسل بلغات، بل تكلموا بلغات أخرى، أي بلغات غريبة، بلغة غير لغتهم، فأنشدوا الله وسط الأمم (روم 15: 9= مز 18: 50) في مختلف لغات هذه الأمم.
ج- كل أمّة تحت السماء (آ 5- 11)
1- حيرة الحاضرين
هناك الضجة القوية (آ 2) والصوت (آ 6). وهذا الصوت لم يملأ البيت فقط، بل سُمع في الخارج. وتجمّع الناس حول الرسل مندهشين.
نقرأ في آ 7: "فاحتاروا وتعجبّوا وقالوا". وفي آ 12: "كانوا كلهم حائرين مذهولين يقول بعضهم لبعض". ويعبرّون عن حيرتهم بالأقوال: "كيف يسمعهم كل واحد منا في لغة بلده" (آ 8)؟ "نسمعهم يتكلّمون بلغاتنا" (آ 11).
لماذا يشدّد الراوي على هذا الأمر؟ هناك ثلاثة أسباب. أولاً: تشدد حيرة الحاضرين بطريقة غير مباشرة ولكن فاعلة، على الطابع الخارق للحدث. فالشهود المباشرون أحسّوا أنهم أمام معجزة لا تفسَّر على مستوى البشر. ثانياً: إن هذه الملاحظة تهيّىء القارىء لخطبة بطرس الكبرى: تحيرّ الناس، فقدّم لهم بطرس التفسير اللازم. ثالثاً: إن الحيرة هي مدخل إلى عالم الإيمان. لهذا ذكرها لوقا مراراً في إنجيله مع ردة فعل طوعية أمام الأمور الفائقة الطبيعة، هي المخافة. فأول ما يحسّ به الإنسان أمام تجلٍ إلهي هو الدهشة أو الخوف. ولكي يتحوّلا إلى سلوك ديني، يجب أن تتّخذ المعجزة معنى فتصبح نداء يتطلب جواباً شخصياً. هذا الجواب يكون تعلّق الإيمان. إن المعجزة لا تنتج الإيمان بطريقة آلية، ولكنها تهيّئه. الشرح ضروري، وهذا ما سيفعله بطرس. الحيرة هي مرحلة سابقة للإيمان، وهي تصل إلى الهدف الذي تريده العناية حين يتقبل الحاضرون كلمة الخلاص (آ 41).
2- يهود أتقياء
حين دل لوقا على التجمّع الذي حصل، تحدث عن "جمهور". هنا نتذكر وعد الله لإبراهيم أن يجعله أب "جمهور أمم" (أي، عدد من الأمم). وهذا العدد ظهر في تبديل الأسم. أبرام أي: الأب الرفيع، صار إبراهيم أي: أب جمهور (تك 17: 4– 5؛ رج تث 26: 5؛ عب 11: 12). بدا الوعد وكأنّه تحقّق حين وصل إسرائيل إلى سيناء (تث 1: 10؛ 10: 22). غير أن حلول الروح يوم العنصرة سيؤكّد تمام هذا الوعد بطريقة عجيبة. لا بدّ من أن نتذكّر سامعي يسوع في لو 6: 17: "وكان هناك جمهور من تلاميذه وجمع كبير من الناس من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا جاؤوا ليسمعوه" (رج مر 3: 7- 8). إن السامعين يوم العنصرة يشبهون الذين عرفهم يسوع في بداية رسالته مع توسيع كبير.
كل هؤلاء الناس هم يهود. وفي آ 14 سيبدأ بطرس خطبته بهذه الكلمات: "أيها اليهود". وتحدّد آ 5: "أناس أتقياء". هذه الصفة عزيزة على قلب لوقا وهي تدل على مخافة الله، والاهتمام بممارسة "فرائض الرب وأحكامه" ممارسة دقيقة (لو 1: 6). هذا ما يميّز الموقف الديني النموذجي، وهو لا ينطبق إلا على اليهودي (لو 2: 25؛ أع 8: 2؛ 22: 12). غير أن آ 11 تشير إلى أنه بجانب اليهود الذين هم كذلك بالولادة، كان "دخلاء" أي ولدوا في الوثنية وارتدوا إلى الديانة اليهودية وأخذوا بكل متطلّباتها بما فيها الختان.
تقول آ 5 عن كل هؤلاء اليهود (هم من نسل يهودي أو من الديانة اليهودية): إنهم "يقيمون في أورشليم". هم وُلدوا في مكان آخر، ولكنهم جاؤوا وأقاموا في المدينة المقدسة.
3- من كل أمة
إن يهود أورشليم هؤلاء "جاؤوا من كل أمة تحت السماء". تأتي اللائحة في آ 9- 11. كانت النظرية اليهودية تقول إن شعوب الأرض هم 70 (لهذا انقسم الصوت الإلهي على سيناء إلى 70 صوتاً). تبدأ اللائحة بالفراتيين الذين يعيشون في أقصى الشرق الأوسط. ثم يأتي المادِييون والعيلاميون الذين يقيمون شمالي الخليج الفارسي. ثم سكان بلاد الرافدين (بين دجلة والفرات). وبدل أن يتابع الكاتب طريقه نحو الغرب فيذكر كبادوكية والبنطس، نراه يذكر اليهودية (ليست في محلها. هناك من قال: أرمينيا أو سورية). ثم يعود لوقا إلى مناطق آسية الصغرى: كبادوكية (في الغرب)، البنطس (في الشمال)، آسية (الساحل الأيوني)، فريجية (غربي آسية)، بمفيلية (مع برجة على الساحل الجنوبي). وينتقل الكاتب فجأة إلى مصر وليبيا ثم رومة. وفي النهاية: كريتيون وعرب.
الكون كله هو هنا بطريقة رمزية ليشهد مجيء الروح ويسمع كلمة الله. أجل لقد وُلدت الكنيسة شاملة، ولا حدود لها إلا حدود الأرض. والنور الذي تملكه سيضيء على كل الشعوب. تسلّمت الخلاص، وهي ستوصله إلى كل الأمم. هذا هو المعنى الجوهري لمعجزة العنصرة: إن الروح يعطي العالم كله للكنيسة، وهو يفرض عليها مجهوداً رسولياً ضخماً به تصل إلى ملء اتساعها، بل إلى ملء قامة المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM