الفصل الخامس عشر: انتظار الروح واختيار رسول جديد

لفصل الخامس عشر
انتظار الروح واختيار رسول جديد
1: 12- 26
أ- الكنيسة تصلي (آ 12- 14)
إن خبر الصعود في نهاية الإنجيل الثالث (لو 24: 50- 53) وفي بداية أع (1: 6- 11) يربط الكتابين اللذين دوّنهما لوقا. ويجب أن نقف في ضوء هذا السر المركزي لنفهم عمل لوقا والعنصرة (2: 33) معاً. فبعد أن رأت جماعة المؤمنين الصغيرة يسوع يعود إلى السماء (حينئذ، آ 12)، رجعت من جبل الزيتون إلى أورشليم. ويوضح لوقا أن المسافة كانت قصيرة (كلم واحد تقريباً، مسيرة سبت). إن لهذه الملاحظة بُعداً "لاهوتياً": فالجماعة لم تترك حقاً المدينة التي فيها وصل وحي الإنجيل إلى ذروته، وتمّ تمجيد يسوع. في الوقت عينه، صارت أورشليم مركزاً يشعّ منه هذا الوحي وهذا التمجيد بالكلمة التي ستنتشر "إلى أقاصي الأرض" (1: 8).
إذاً، عادت مجموعة التلاميذ من جبل الزيتون الذي ارتبط بتذكرات اسكاتولوجية (مر 13)، وشهد صلاة المسيح (لو 22: 39). أطاع التلاميذ تعليمات المعلم، فذهبوا إلى المدينة لينتظروا "وعد الآب"، قوّة من العلاء (لو 24: 49؛ أع 1: 9)، العطية الاسكاتولوجية (2: 17) في الخلوة والصلاة كما فعل يسوع (لو 3: 21؛ 4: 1 ي).
كانوا متعوّدين على العلية التي ذهبوا إليها بعد رجوعهم إلى المدينة: هي الغرفة (العالية) التي فيها شاركوا في العشاء الأخير، أو هي بيت أم يوحنا مرقس (12: 12). مهما يكن من أمر، إلى هناك ذهبوا من دون تردّد (آ 13). الصلاة في العلية أو في غرفة من غرف البيت، تقابل تقليداَ بيبلياً عرفه إيليا (1 مل 17: 17- 24) واليشاع (2 مل 4: 8- 11) ودانيال (دا 6: 11؛ رج مت 6: 6؛ 24: 26؛ لو 12: 3؛ أع 10: 9: إلى هناك صعد بطرس ليصلّي).
أن يذكر لوقا هنا أيضاً اسم الرسل أمرٌ له معناه (رج لو 6: 14- 26): إنهم يؤمّنون التواصل بين الجماعة القبل فصحية والجماعة البعد فصحية. إنهم سيجدون نفوسهم مسلّحين بسلاح شرعي، مسلّحين بموهبة الروح. فالقائم من الموت جعلهم شهوده المحلّفين حين كلّمهم عن ملكوت الله خلال أحاديث دامت أربعين يوماً (رقم يقابل التقاليد اليهودية). إن اللائحة التي نقرأها في أع، تختلف بعض الشيء عن تلك التي نجدها في الإنجيل الثالث. اختفى يهوذا، وهذا أمر طبيعي. هناك بطرس الذي يحمل فقط الاسم الذي أعطاه إياه الرب (لو 6: 14). هو يحتل المقام الأول في بداية الكنيسة. وهناك يوحنا رفيق بطرس (3: 13؛ 4: 11؛ 8: 34؛ رج لو 22: 8) الذي يرد اسمه بعد بطرس. ثم يأتي يعقوب أخوه (12: 2) الذي قتله الملك هيرودس بحدّ السيف. ويرد بين الأسماء الأخيرة اسم يعقوب بن حلفى الذي قد يكون يعقوب الذي احتل مكانة هامة في كنيسة أورشليم (12: 7؛ 15: 13).
إن "الخلية الأم" في الجماعة تتجاوز مجموعة "الأحد عشر": هناك النسوة، وهناك بعض أقارب يسوع (أخوته، رج مر 6: 3). كان الإنجيل قد ذكر نساء رافقن يسوع خلال حياته العلنية (لو 8: 2- 23) ولم يتركنه أبداً: سنجدهن عند الصليب (لو 23: 49 ب) وساعة الدفن (لو 23: 55- 56)، وفي الساعات الأولى التي تلت القيامة (لو 24: 1- 11، 22- 23). وهكذا تجاوز تعليم العهد الجديد الأفكار المسبقة التي عرفها الناس آنذاك (لم تكن المرأة تظهر في المجتمع). وستظلّ النسوة يلعبن دوراً هاماً ودقيقاً في أع. وهناك مريم أم يسوع الحاضرة في لو وفي أع: يقول عنها لوقا بعد ميلاد يسوع: "حفظت باهتمام كل هذه الذكريات وتأملتها في قلبها" (2: 19). ويلاحظ في أع 1: 14 أنها تصلّي مع التلاميذ حين تلد الكنيسة.
إلتأمت المجموعة ("كلّهم"، آ 14) في العلّية، وكرّست وقتها للصلاة: صلاة مثابرة (2: 42). صلاة يكون فيها الجميع قلباً واحداً ونفساً واحدة. فهل تستطيع كنيسة أن تصلي إلى ربها بقلب منقسم دون أن تنكر ذاتها؟!
ب- اختيار متيا (آ 15- 26)
ا- لوقا والتقاليد القديمة
إن اختيار متيا محلّ يهوذا، يشكّل عنصراَ جديداً في استعداد الكنيسة للعنصرة. نحن هنا أمام تأليف لوقاوي مؤسّس على تقاليد قديمة. من هذه التقاليد: خبر موت يهوذا (لا يتطابق مع ما ورد في مت 27: 3- 10)، ما يتعلق بمتيا وبارسابا (لا نعرف عنهما شيئاً)، طريقة الاختيار.
ومن جهة ثانية هناك تفاصيل تدلّ على عمل لوقا التأليفي ليعطي القطعة وحدتها على المستوى الأدبي والبنيوي واللاهوتي. ثم إننا نندهش حين نلاحظ أن معنى بعض الكلمات (حقل دما: حقل الدم) أو بعض الوقائع يحتاج إلى شروح تقدّم إلى أهل أورشليم الذين يُفترض أن يتوجّه إليهم الكلام. ونندهش أيضاً لاستعمال التوراة اليونانية. نشعر أن لوقا يفكّر بقرّاء لا ينتمون إلى المحيط عينه، ولم يشاركوا في ما حصل من أحداث.
2- يهوذا ووظيفته
"في تلك الأيام". إشارة غامضة، إشارة لاهوتية أكثر منها واقعية. إنها تحيلنا إلى زمن يسبق "يوم العنصرة" (2: 1). هذا ما يفرضه المضمون وروح الخبر.
واتخذ بطرس المبادرة هنا، كما في ظروف أخرى (1: 13؛ 2: 14، 37- 38؛ 3: 1...) دون أن يعارضه أحد. وهكذا أكّد لوقا بطريقة لا تقبل الشك أن أولوية بطرس لم تظهر خلال قيامه بعمله، بل منذ البداية وعلى أساس اختيار يسوع له. ولكن، لا شيء يفرض علينا أن نظن أن بطرس تسلّم أمراً واضحاً من يسوع يدعوه فيه إلى اختيار متيا.
"وسط الأخوة" (أو وسط الجماعة). لسنا هنا أمام "أخوة" يسوع كما في آ 14، بل أمام أعضاء الجماعة. اعتبر المؤمنون ذواتهم أخوة بعضهم لبعض، وأخوة بطرس بنوع خاص (1: 16؛ 2: 29). أما بطرس وسائر الرسل فيسمّون الآخرين "إخوة" (2: 37). هذه التسمية التي تتكرّر في أع، تعود ولا شك إلى يسوع (رج مت 23: 8: كلكم أخوة). إن استعادة هذه العاطفة الأخوية بين كل أعضاء الجماعة المسيحية، أمرٌ يفرض نفسه كمتطلّبة إنجيلية وكنسيّة. كانوا 120 (في قمران: 10 لكل كاهن). العدد 10 هو عدد الأعضاء الضروريين ليؤلّفوا جماعة يهودية.
تألّفت "خطبة بطرس" من قسمين: قسم مركّز على مصير يهوذا، وقسم على ما يجب عمله. يبدأ القسمان بالفعل عينه (يجب: داي في اليونانية): هو عزيز على قلب لوقا ويستعمله ليدلّ على إرادة الله التي تظهر في الأسفار المقدسة. في الحالة الأولى، يعود الفعل إلى ما حصل في الماضي: "كان يجب أن يتمّ الكتاب" (آ 16). ويُستعمل أيضاً بعد هذا (آ 22) ليدلّ على النتيجة الواجب استخلاصها: "يجب إذن".
يذكرنا القسم الأول من "الخطبة" أن مصير الخائن قد تمّ. وبعد استطراد قصير حول موت يهوذا ومكان دفنه، يُورد لوقا آية من الكتاب المقدس: مز 69: 26: "لتصر داره خراباً، ولا يكن فيها ساكن".
ويأتي إيراد كتابي آخر (مز 109: 8:، "ليأخذ وظيفته آخر") بشكل انتقال يبدأ القسم الثاني، وهو القسم الأهم بمضمونه: كُتب أنه يجب أن نعين شخصاً يحلّ محل يهوذا. ويحدّد بطرس الشروط المطلوبة من المرشحين.
ذكر بطرس الكتاب (بصورة عامة) أو بالأحرى نصاً كتابياً محدداً (نجد المفرد في بعض المخطوطات)، فأكد أولاً أن نبوءة الروح القدس التي جاءت على لسان داود قد تمّت، وأسفاه، في ما حصل ليهوذا (آ 16). ثم أعلن أن هذا كان قائد الجنود الذين أمسكوا يسوع، ولكنه لم يقل إن الرب كان قد أخبر بهذه الخيانة ودلّ على الخائن بطريقة خفية (لو 22- 23): كل هذا يدلّ إلى قدم هذا التقليد. أما كلمات بطرس فتقدّم عناصر مهمة تساعدنا على فهم الوظيفة الرسولية التي تخلىّ عنها يهوذا: "كان واحداً منا وله نصيب معنا في الخدمة".
ألّف يهوذا مع الآخرين الحلقة الرسولية: نصيب لم يكن ليأمله. نصيب لم يستحقّه، ولكنه اقتبله من الرب (لو 6: 12 ي). ولهذا التعيين طابع المجانية، شأنه شأن النداء إلى الإيمان. كما أن المسيح أعطى الوثنيين بواسطة بولس المرتد "غفران خطاياهم وميراثاً مع القديسين" (26: 8)، كذلك كانت "الرسالة" موهبة ينالها الإنسان مجاناً من الله. ولقد استعملت كتابات قمران لفظة مماثلة لتدلّ على مجانية الموهبة التي يتقبّلها المؤمن.
وسيسمى هذا "النصيب" فيما بعد "خدمة" (دياكونيا). يتتبّع لوقا بولس (رج 2 كور 3: 7- 9؛ 4: 1، 5: 18. روم 11: 13) فيتطلّع إلى الرسالة من هذه الوجهة. غير أنه يحملنا في الوقت عينه إلى يسوع نفسه: إنه كالخادم (لو 22: 26- 27). قد نجد في عالم قمران اليهودي ألفاظاً مثل "كليروس" (من هنا الاكليريكي) أو "إبسكوبوس" (أسقف)، غير أننا لا نجد ما يقابل "دياكونيا" (مشمشونو في السريانية، شماس. رج كلمة ارشيدياقون) مقابلة دقيقة.
نحن هنا أمام عنصر خاص يحدّد موقع قوّاد (موجّهين) الجماعة المسيحية. يتكلّم أع مراراً عن "دياكونيا" حين يتحدّث عن الرسل عامة (6: 4) و"السبعة" (6: 1- 2) وبولس (19: 22، 20: 24، 21: 19). واللّمة الشهيرة تسمى هي أيضاً "دياكونيا" (11: 29؛ 12: 25).
أساس هذه الخدمة أساس كرستولوجي. من هنا أهمية لو 22: 7- 34 في جوه الإكليزيولوجي والإفخارستي. نجد فيه ثلاث مرات عبارة "الذي يخدم، خادم" (دياكونون، آ 26- 27). وهو في المرة الثالثة يكشف لنا هوية هذا "لخادم" "أنا بينكم مثل الذي يخدم" حين يسمّي المسيح نفسه بهذا الاسم، لا يفكر بخدمة المائدة، بل بخدمة "لعهد الجديد" (لو 22: 20) الذي بدأه حين حَرّر الانسان وفدَاه (رج مر 10: 45). وهذه الدياكونيا (التي هي عهد) التي نالها المسيح من الآب، ستمتدّ إلى أخصائه (لو 22: 29). في جماعة العهد هذه، نستطيع أن نتكلّم بطريقة شرعية عن "الأكبر"، عن "الذي يحكم" أو الرئيس (لو 22: 26- 27)، ولكن كل تشبيه مع السلطة الزمنية مرفوض. عبرّ يسوع عن هذه الفكرة بقوة شدّد عليها غياب الفعل: "أما أنتم، فما هذا حالكم". الدياكونيا هي عنصر يميّز الرسول، ولكنها لا تختصّ به وحده: فالعهد الجديد كله يعتبر الخدمة كقلب الحياة المسيحية التي لا يحلّ شيء محلّها. وحين نقرأ آ 17 هذه، نفهم أن الوظيفة الرسولية هي قبل كل شيء "خدمة".
ولكن يهوذا ما عاش هذا المثال، يا للأسف! تعامل مع العظماء، ومن خلالهم مع الشيطان نفسه (لو 22: 2- 6). هنا ظهر مصيره الذي أشار إليه بطرس في آ 18- 19 مع تلميح إلى عقاب الخطأة الذين يتكلّم عنهم حك 4: 19: "سيسقطهم الله على رؤوسهم".
في هذه المناسبة يورد بطرس مز 69: 26. عبّرَ البار المتألم عن قلقه بالنداء (صُبَّ عليهم سخطك ولتُدركْهم نار غضبلك، 69: 25). فأجاب المرتل بسلسلة من اللعنات أورد بطرس واحدة منها: "لتصر داره خراباً ولا يكن من يسكنها". تبقى العلاقة عامة بين هذا النص وحالة يهوذا. ثم إن العهد الجديد يطبّق مز 69 على المسيح وعلى آلامه (مت 27: 34- 48؛ يو 2: 17؛ روم 11: 9- 10). وقف يهوذا مع الذين اضطهدوا يسوع، فطبّقت عليه لعنات المزمور. إن مثل هذه الإيرادات من التوراة، تدلّ على اعتقاد المسيحيين الأولين الذين رأوا في أهم أحداث التدبير الديني الجديد تتمة لما أنبأ به العهد القديم بصورة غامضة. في الواقع، إن الجماعة المسيحية هي إسرائيل الجديد (رج غل 3: 29؛ 6: 16) الذي فيه يتحقق بالمعنى الكامل والروحي ما قيل عن تدبير الخلاص القديم.
3- من يقدر أن يكون شاهداً
والنص الثاني مأخوذ هو أيضاً من مزمور يدعو فيه المضطهد الله ويلعن مضطهده (مز 9- 1: 8)، ولكنه يأخذ معنى آخر في إطار خطبة بطرس في قسمها الثاني: هدفه أن يبرّر بنص كتابي ضرورة اختيار رسول جديد: "ليأخذ آخر وظيفته" (ابسكوبي، في العبرية: فقوده أو مهمة ووظيفة). هناك تقارب بين "ابسكوبي" "كليروس"، "دياكونيا". هذه الوظائف تتضمّن حقّ المراقبة، سلطة رعاية الآخرين. ولكننا لا نستطيع أن نتصوّرها بعد وصية يسوع إلا في إطار الخدمة. الميل الطبيعي في المجتمع يدفع السلطات لتعتبر نفسها غاية في حد ذاتها؛ والسلطة الكنسية ليست بمأمن من هذا الخطر. إن "لاهوت الصليب" يفرض على مالكي السلطة واجباً وهو أن يبقوا في إطار الخدمة الإنجيلية التي بها طبع المسيح السلطة المسيحية إلى الأبد، منذ البداية.
وجدت آثار ذلك في الأناجيل، وأحسّ بطرس بالحاجة إلى أن يذكّر المسؤولين بهذا الواجب: "لا تتسلّطوا على الذين هم في عنايتكم، بل كونوا قدوة للرعية" (1 بط 5: 3).
إذن، طلب منهم بطرس أن يقترحوا أسماء أناس يتمّمون الشروط المذكورة. كل الجماعة الحاضرة (وليس الأحد عشر وحدهم) تنعم بحق تقديم الاقتراح. والتعيين الأخير لن يكون عمل بطرس، بل عمل الله الذي تتوجّه إليه الجماعة في الصلاة، والذي يُظهر تدخّله بواسطة قرعة لها طابع ديني.
ترتدي آ 21- 22 أهمية خاصة، لأنهما، إذ تحدّدان الشروط المطلوبة من المرشحين، تغنيان نظرة لوقا إلى الرسالة. نحتاج إلى أناس عاشوا مع الجماعة الرسولية ومع الرب يسوع بطريقة متواصلة، منذ المعمودية حتى الصعود. نلاحظ ذكرا خاصاً للقيامة.
من الواضح أن الحضور المادي المحض لا يكفي، هناك كثيرون رافقوا التلاميذ خلال هذه المدة (آ 21). وكما أن يسوع فرز بعضاً من تلاميذه (لو 6: 13)، هكذا سيكون المرشح "شاهداً" (آ 22). وليمست القرعة إلاّ إظهاراً لاختيار الله (آ 24). بهذه الطريقة ينضم "المختار" إلى الرسل الأحد عشر (آ 26). كل هذا يثبت معنى نصيب ووظيفة: الرسالة هي موهبة إلهية. والرسول هو شاهد لا يرتبط تعيينه حصراً أو بصورة رئيسية بالبشر، بل بالله نفسه.
إذن، على "المختار" أن يكون "رافق" (آ 21) المسيح والرسل (رج 9: 35؛ لو 23: 55). وهكذا يتأمّن التواصل بين يسوع الأرضي والكنيسة. فمن الضروري أن تكون وحدة بين المسيح الذي مات وقام، وبين البشرية التي تمّ الفداء من أجلها، أي البشر الذين ينتمون إلى زمن المسيح وزمن الكنيسة معاً. هؤلاء هم الرسل.
إن الرسل عاشوا بطريقة حميمة مع يسوع خلال فترة من الزمن: "طوال المدة التي قضاها الرب يسوع معنا". قد تُترجَم العبارة حرفياً: "كل الوقت، منذ دخوله إلى خروجه". لم يعد لها هنا المعنى الحرفي الأصلي. ونحن نجد فيها تلميحاً إلى أسفار يسوع المتعددة. على كل حال هي تعني: شركة حياة مع شخص رافقناه في كل شيء.
ذكر بطرس المرحلتين الرئيسيتين في حياة يسوع. من جهة، بداية رسالته أي عماده الذي هو مسحة نبويّة حسب لوقا. ومن جهة ثانية، تمجيده "مسيحاً ورباً" (2: 36)، وهذا يفترض عطية الروح للكنيسة (2: 33). لن يُذكر موتُ يسوع هنا ولا في نص مواز (10: 37- 39). فلا بد من فيض الروح ليفهم الرسل موت يسوع. ومهما يكن من أمر، فالقسم الأول من الخطبة (آ 16) لمّح إلى هذا الموت.
ينتج عن كل هذا أن الرسول هو الذي جُعل بصورة رئيسية "شاهداً لقيامة يسوع". نحن هنا أمام نقطة ثابتة من لاهوت لوقا: الرسل هم وحدهم الشهود المميّزون للقيامة. لم يكن مطلوباً منهم أن يشاهدوا الحدث نفسه. ولكن المسيح جعلهم بعد قيامته شهوده حين ظهر عليهم مرات عديدة. قال أشعيا: على اسرائيل أن يكون شاهداً لله أمام الأمم فيعلن وقائع الخلاص والظهورات التاريخية: "أنتم شهودي" (أش 43: 10؛ رج 43: 9، 12؛ 44: 8). يستعيد يسوع الكلمات عينها، فيعطيها قيمة جديدة حين يتوجّه إلى الرسل في مقطع هام أورده لوقا: "أنتم شهود على ذلك" (لو 24: 48). هذا يعني أن يسوع أتمّ الكتب بآلامه وقيامته، وفتح أذهان التلاميذ ليفهموها (لو 24: 45)، كل هذا ينتمي إلى الماضي. وعلى الرسل في المستقبل أن يعلنوا "غفران الخطايا لجميع الأمم" (لو 24: 47). إن هذه النظرة الى الرسالة تلتقي بما قاله بولس الذي دعاه الله ليكون رسولاً، واختاره ليعلن بشارته (روم 1: 21). فالرسول هو خادم الكلمة والمصالحة. وهو المنادي بالغفران وبإنجيل الله.
يملك لوقا نظرة محددة عن الشهادة التي تنتمي بصورة جوهرية إلى الأحد عشر أو إلى الاثني عشر (لو 24: 48؛ أع 1: 8، 22؛ 2: 32؛ 5: 32؛ 10: 39، 41؛ 13: 13). ولكننا نجد مع الاختيار (ذُكر بوضوح في بعض هذه النصوص) تسليم وظيفة على يد الروح القدس (لو 24: 49)، وعد من الآب، قوة من العلاء، قوة تنزل من العلاء 1: 8. 2: 3- 4)، قوة تشهد بجانبهم (نحن شهود لهذه الامور، نحن والروح القدس، 5: 32). ولا تظهر فقط عبر حضور باطني بل بظهورات خارجية. فمن اختاره الله (10: 39- 41) كان له امتياز بأن يكون "شاهداً للقيامة". لم يكن بولس من مجموعة الاثني عشر، ولكن لوقا سمّاه رسولاً هو وبرنابا، دون سواهما (14: 4، 14). ولكنه يستطيع أن يكون "شاهداً" لأنه رأى المسيح الممجّد (22: 15؛ 26: 16)، وإن لم يعرفه خلال حياته على الأرض.
ولوقا بدوره سيسمّي اسطفانس "شاهد" المسيح: "امتلأ اسطفانس من الروح القدس، فرأى مجد الله ويسوع واقفاً عن يمين الله" (7: 55).
يشدّد لوقا على أنّ الرسل هم الشهود، وهذا يخوّلهم لأن ينقلوا بأمانة كرازة الرب (لو 1: 2). لا يكفي الشاهد أن يسمع ويرى. عليه أن يكون مدعواً، أن يتأهل ليستقبل بالإيمان كلمة الله التي أعلنها يسوع. لكي يفتح قلبه ليفهم الكتاب المقدّس، لكي يتثبّت بالروح. ومجمل القول، إن موضوع الشاهد موضوع مفتوح، ونحن نجد أول عناصره عند بولس واسطفانس. سيتوسّع هذا الموضوع طوال تاريخ الكنيسة، وسيتحمل تأويلات جديدة. وفي النهاية، كل الذين يلتقون في الإيمان بيسوع القائم من الموت، يستطيعون أن يكونوا شهوداً، بل عليهم أن يكونوا شهوداً.
وخلاصة القول، يحصل الرسول من الرب على "حصة" على "نصيب". إنها وظيفة ومهمة، ولكنها جوهرياً "دياكونيا" تكمن في الشهادة لرسالة يسوع الذي عشنا معه منذ عماده إلى صعوده، واختبرنا بصورة خاصة قيامته. وهذه الخدمة هي "بشارة غفران لكل الأمم". والروح نفسه يثبّت هذه الشهادة بحضوره. كل هذه العناصر تنطبق على الرسل، ولكن "الحصة" و"دياكونيا" و"شهادة" هي "مفتوحة" لكل المسيحيين. تكون حياتهم دياكونيا في خدمة كل إخوتهم وشهادة للقيامة. نستطيع أن نقول عن جميع المسيحيين ما قيل عن الرسل: أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بين الاموات (10: 41).
4- تقديم المرشحين، الصلاة والقرعة
"اقترح الاخوة اثنين منهم هما يوسف بارسابا الملقب بيوستوس ومتيا" (آ 23). وكما فعل يسوع قبل أن يختار الاثني عثر، هكذا فعلت الجماعة: "ثم صلوا". تعطي آ 24- 25 نصّ صلاة توجهت إلى الرب أي إلى المسيح. سيحتلّ مختار الرب في الخدمة والرسالة المحل الذي تركه يهوذا. نقرأ حرفياً: خدمة الرسالة. ولكن الخدمة ترادف الرسالة، لأن الرسالة هي الاسم الحقيقي لكلمة "دياكونيا".
ولكن لماذا يجب أن يكون الرسل اثني عشر؟ يُطرح السؤال لأنها المرة الوحيدة التي تهتمّ فيها الكنيسة بهذا الأمر. ففي الوقت الذي سيحلّ الروح على الاثني عشر، عرفوا أنهم يمثّلون اسرائيل "آخر الأيام" الذي نال وعداً بحلول الروح هذا (2: 16). من جهة ثانية، نحن في منظار اسكاتولوجي: أعلن لهم يسوع أنهم سيدينون "أسباط اسرائيل الاثني عشر" (لو 22: 30).
وقد نجد تفسيرين آخرين لهذا الهمّ بأن تكون مجموعة الرسل اثني عشر رسولاً. التفسير الأول تاريخي. قبل مجيء الروح وظهور الجماعة الهلينية، قبل رحلات بولس ومجمع أورشليم، كان بطرس والذين يرافقونه منغلقين على تفكير قديم لا يتخيّل اسرائيل الجديد إلاّ على شكل اسرائيل القديم: استمرارية وتواصل، إن لم يكن "إعادة الملك إلى اسرائيل" (1: 6). إذن، هناك التباس وغموض. وحين يجتاح الروح التاريخ، سيبدّد هذا الحنين وهذا السراب البشري.
التفسير الثاني يربطنا بلاهوت لوقا. لقد تمّ تنظيم الرسل النهائي كشهود بعد القيامة (لو 24: أع 1)، وقبل العنصرة (أع 2). لا نجد في لو 6 خطبة إرسال الاثني عشر، بل نجدها في لو 9: 1- 5 مع خطبة للتلاميذ في لو 10. إذن، وجب على الرب أن يتدخّل بصورة خاصة لاختيار متيا. من هنا اللجوء إلى القرعة لا إلى تسمية يقوم بها إنسان. ولكن مثل هذا التدخّل لن يتكرّر. لهذا لن يروي لوقا اختيار رسول آخر حين مات مثلاً يعقوب أخو يوحنا (12: 1). ثم إن الرسل يختلفون عن يهوذا: ماتوا في الايمان ومن أجل الايمان.
ومهما يكن من أمر، ستتحرّر الكنيسة تدريجياً من هذه العقلية اليهودية. فالروح يدفعها، ووعد الآب الذي نقله المسيح يفعل فيها، وقوة علوية ستحل من دون تأخير على اليهود (أع 2) كما على الوثنيين (أع 10).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM