داود الملك راعي شعب الله.

داود الملك راعي شعب الله.

نقرأ في الإنجيل مرارًا عن يسوع أنَّه ابن داود (مت 1: 1). ناداه الأعمى في أريحا: يا ابن داود ارحمني (مر 10: 48)، وهتفت له الجموع التي أتت إلى العيد: تباركت مملكة أبينا داود (مر 11: 10). سنتحدَّث عن داود الملك الذي اختاره الربُّ راعيًا لشعبه فعاش بحسب إرادة الربِّ وكان مثال جميع الملوك الذين جاءوا بعده في إسرائيل ورمزًا عن المسيح الملك الذي جاء راعيًا صالحًا (يو 10: 14) يخلِّص شعبه ويفتديهم من خطاياهم (مت 1: 21).

أ- من هو داود؟

1- ملك حكم شعب الله حوالي السنة 1000 ق.م.، يوم انتقل إسرائيل كلِّيًّا من حياة البداوة في البرِّيَّة إلى حياة تأثَّرت بالمناخ الاجتماعيّ والثقافيّ والدينيّ الذي عرفته شعوب كنعان. أخذوا يسكنون المدن، يفلحون الأرض، ويتكلَّمون لغة السكّان ويشاركونهم عبادتهم، وأخذوا يطالبون بملك يسير معهم في حروبهم على غرار باقي الشعوب المجاورة، فأعطاهم الله شاول ثمَّ داود الذي سيجمع القوى المتبعثرة فيوحِّدها حول أورشليم وهيكلها ويحشدها قرب عرشه وعرش أبنائه بعده.

ولد داود في بيت لحم، وكان أصغر أبناء يسّى (1 صم 16: 10 + 17: 12ي). مسحه صموئيل النبيّ ملكًا (16: 13)، ثمَّ جاء إلى جبعة حيث يقيم شاول الذي دعاه ليضرب له بالناي فيسرّي عنه. رافق ناتان ابن شاول وصاحبه، ثمَّ تزوَّج ميكال ابنة الملك بعد أن طلب منه شاول مهرًا يتطلَّب تنفيذه المغامرة لحياته، ففعل. أبلى البلاء الحسن في الحرب، فأنشدت بنات إسرائيل: "قتل شاول ألوفه وداود عشرات ألوفه". فحسد شاولُ داود.

أحسَّ داود أنَّ حياته في خطر، فانقلب إلى رئيس عصابة والتجأ إلى أرض غريبة مدَّة طويلة. بعد موت شاول صار ملكًا على يهوذا، ثمَّ على إسرائيل، فجمع قبائل إسرائيل حول شخصه، وأسَّس لهم عاصمة محايدة هي أورشليم، كما أخضع القبائل الكنعانيَّة ووسَّع حدود مملكته شعب الله، وأمَّن لإسرائيل ملكًا من بعده، هو ابنه سليمان.

2- الراعي الذي اختاره الربُّ لرعاية شعبه. كما اختار صيّادي السمك ليصطادوا الناس إلى الخلاص (لو 5: 10)، كذلك اختار داود، راعي الغنم (1 صم 16: 11) ليرعى شعبه، فيجعله آمنًا داخل حدوده، سعيدًا في أرضه تحت تينته وداليته. هذا ما يقول فيه المزمور (77: 70-72): اختار داود عبده. أخذه من حظائر الغنم، من خلف النعاج جاء به ليرعى بني يعقوب شعبه، بني إسرائيل ميراثه. فرعاهم بسلامة قلبه، وبيد ماهرة قادهم.

كلُّ ملك في الشرق هو راعي شعبه، يهتمُّ بأفراد رعيَّته كما يهتمُّ الراعي بخرافه، فيقوّي الضعيف، ويداوي المريض، ويجبر المكسور، ويردُّ الشارد، ويبحث عن المفقود (حز 34: 4). لأجل هذا العمل اختار الربُّ داود، لأنَّ الربَّ لا تهمُّه هيئة الإنسان أو طول قامته، لأنَّ الربَّ لا ينظر إلى العينين، كما يفعل الإنسان، بل ينظر إلى القلب (1 صم 16: 7). ولمّا مسح صموئيل داود باسم الربّ، حلَّ روح الربِّ على داود منذ ذلك اليوم وصاعدًا (16: 13)، فكان ذلك الملك بحسب قلب الله.

3- الخاطئ الذي تاب إلى ربِّه. هل اعتبر داود أنَّه لمّا صار ملكًا لم يعد خاضعًا لوصايا الله؟ استفاد من موت نابال فتزوَّج امرأته أبيجائيل واستولى على ثروة زوجها (1 صم 25: 2ي)، كما استفاد من مقتل أبنير، قائد جيش شاول (2 صم 4: 26-32)، ليصير ملكًا على كلِّ إسرائيل.

ولكنَّ خطيئته الكبيرة كانت لمّا قتل أحد قوّاده، أوريّا الحثّيّ، وتزوَّج امرأته بتشابع. لم يرضَ الربُّ عن فعلة داود الشنيعة فأرسل إليه النبيّ ناتان الذي ذكَّره بنعم الربّ، ووبَّخه لأنَّه لم يحفظ وصايا الربّ، وهدَّده بقصاص له ولأهل بيته (2 صم 12: 1ي).

فقبل داود توبيخ الربِّ بلسان النبيّ ناتان فقال: "قد خطئت إلى الربّ" (2 صم 12: 13). وعبَّر في المزمور 50 عن صلاة الخاطئ التائب إلى ربِّه: "ارحمني يا الله بحسب رحمتك، وبحسب كثرة رأفتك امحُ معاصيّ. اغسلني كثيرًا من إثمي، ومن خطيئتي طهِّرني، فإنّي عارف بمعاصيّ. وخطيئتي أمامي في كلِّ حين. أمام خطيئته عرف أنَّه ضعيف يحتاج إلى نعمة ربِّه: عندما مرض ابن بتشابع تضرَّع إلى ربِّه وصام ونام على الأرض تقشُّفًا (12: 16)، وحين علم بموت ابنه أبشالوم الذي تمرَّد عليه، أخذ يبكي وينتحب (19: 1ي)، ولمّا ضرب الربُّ الشعب بالوباء هتف إليه قال: أنا الذي خطئت، وأمّا أولئك الخراف (أي الشعب) فلم يفعلوا شيئًا يستحقُّ العقاب (24: 17).

أ‌-     داود مسيح الربّ

1- "المسيح" هو الملك الذي يختاره الربُّ فيرسل من يمسحه بالزيت المقدَّس، فيمدَّ يده فوقه ويجعله شخصًا مكرَّسًا لله، ويثبِّته في وظيفة تجعله وكيل الربِّ في شعبه. هكذا مُسح شاول بالزيت المقدَّس. وهكذا سيمسح سليمان وغيره من الملوك فيصبحون مسحاء الربِّ الذين يتمِّمون مقاصد الله في شعبه، فلا يتجاسر أحد أن يمدَّ إليهم يدًا (1 صم 24: 7، 11)، بل يكنُّ لهم إكرامًا قريبًا من العبادة لأنَّهم يمثِّلون الربَّ على الأرض.

مسح النبيّ صموئيل داود فحلَّ عليه روح الربّ (16: 3)، ووعده الله بأن يكون معه، وجدَّد وعده له يوم أرسل إليه النبيّ ناتان الذي كلَّمه باسم الربّ: "أنا أخذتك من وراء الغنم، لتكون رئيسًا على شعبي... وكنت معك حيثما سرت، وأقمت لك اسمًا عظيمًا كأسماء العظماء على الأرض. فصلّى داود إلى الربِّ قال: "من أنا يا سيِّدي الربّ، وما بيتي الذي أنتسب إليه حتّى أوصلتني إلى هنا" (2 صم 7: 4ي).

نحن نقرأ في المزامير كيف أنَّ الربَّ كان مع الملك الذي اختاره ومسحه. "دعوني أخبر بما حقَّقه الربّ. قال لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك. أي جعلتك ابني وصرت أباك، اطلب فأعطيك الأمم ميراثًا وأقاصي الأرض ملكًا لك. ترعاهم بقضيب من حديد وكإناء خزّاف تحطِّمهم (مز 2: 7-9). ويجلس الربُّ الملك عن يمينه، مركز الصدارة، فيعطيه القوَّة وصولجان العزّ (مز 109: 1ي).

2- الملك في إسرائيل يشبه الملوك في سائر الشعوب المجاورة، هذا من الوجهة الخارجيَّة. أمّا في إيمان شعب الله فالملك الحقيقيّ هو الربّ والملك هو من يمثِّله. وشريعة الربِّ تسري على الملك كما على الشعب، والعدل والإنصاف من واجبات الملوك والعظماء قبل أن يكونا من واجبات صغار القوم. وعندما يوبِّخ إيليّا آخاب ويهدِّده بقصاص الله، فهو يفعل باسم شريعة الربّ (1 مل 21: 1ي) فيقول له: "قتلتَ وأتيتَ لترثَ أرض من قتلت"!

الملك هو شخص مكرَّس، وهو ينبوع حياة لشعبه. عرشه عرش مقدَّس وصولجانه صولجان استقامة، عبير المرِّ واللبان في ثيابه وفي قصور العاج مسكنه (مز 44: 7-9). ولكنَّ عظمة الملك في إسرائيل، ولكنَّ عظمة داود تكمن في أنَّه المسؤول عن قيام العهد في الشعب، وإن خطئ الملك خطئ الشعب معه (2 صم 24: 1) وإن خطئ الشعب ولم يردعه الملك تحمَّل الملك وزر خطيئته. كلُّ مواعيد الربِّ تتجمَّع في الملك، وخلاص الشعب من خلاص الملك وهو ينتظر في كلِّ ملك ذلك الآتي من الربِّ الذي يملأ الأرض سلامًا وعدلاً.

كان الملك داود موفَّقًا ناجحًا فظنَّ الشعب أنَّ جميع مواعيد الله تحقَّقت فيه، ولكنَّ الربَّ أعلن بلسان ناتان أنَّ من يولد منه يبني للربِّ بيتًا ويكون ملكه إلى الأبد (2 صم 7: 12-14). وسوف ينتظر الشعب طويلاً ذلك الملك الذي سيكون على مثال داود فيرعى غنم الربِّ ويجمعها في رعيَّة واحدة (حز 34: 23-24 + 37: 21-28). يذكر الأنبياء داود فيذكرون معه حبَّ الله لشعبه (إش 9: 6) وأمانته لعهده (إر 33: 20ي) ومواعيده (إش 55: 3). "حلفت لداود عبدي: إلى الدهر أثبت نسلك، وإلى جيل أبني عرشك" (مز 88: 4، 20، 46).

3- أورشليم عاصمة الملك داود وأبنائه من بعده

أورشليم مدينة معروفة منذ الألف الثاني ق.م. وملكها الكنعانيّ تابع لملوك مصر. أخذها داود من اليبوسيّين (2 صم 5: 6ي) وبناها مدينة جديدة بين قسمي مملكته، بين الشمال والجنوب، وجعل نفسه وارث ملك كنعانيّ قديم، اسمه ملكيصادق (تك 14: 18-24 + مز 109: 4) فدمج أبناء البلاد الأصليّين بالإسرائيليّين الداخلين، ونقل إلى مدينته تابوت العهد، "بانتظار أن يبني فيها سليمان الهيكل" (1 مل 6: 1ي) الذي سيصبح المركز الدينيّ لشعب إسرائيل على مرِّ عصوره.

لأورشليم مكانة خاصَّة في الأرض المقدَّسة. كعاصمة سياسيَّة، هي تمثِّل وحدة شعب الله. كعاصمة دينيَّة، هي المركز الروحيّ لإسرائيل، لأنَّ الربَّ يقيم فيها وقد جعل مسكنه على جبل صهيون. وهكذا يكون لها دورهم في إيمان إسرائيل وفي رجائه. ولكن عندما ينقسم إسرائيل إلى مملكتين ستزاحم السامرة أورشليم التي يخفُّ بعض من دورها السياسيّ والدينيّ، وعندما تسقط السامرة (سنة 722) سيجتمع كلُّ المؤمنين حول أورشليم ليقدِّموا للربِّ ذبائحهم ويعبِّروا عن إيمانهم.

وعندما تسقط أورشليم (587 ق.م.) سيتطلَّع المؤمنون إلى أورشليم الجديدة عاصمة داود الجديد. ويتذكَّرون كلام المزمور (131: 13ي): الربُّ اختار صهيون واشتهاها مقامًا له. هذه هي دار راحتي إلى الأبد. هناك أنبت من نسل داود رئيسًا، وأهيِّئ للملك المسيح خلفًا. سيراها إشعيا (1: 26ي) مدينة العدل ومكان الإيمان، ويرسمها بأجمل الصور (54: 11ي). إنَّها المدينة المقدَّسة ومركز الهيكل المجيد للملك المسيح الآتي. هي ستبنى من جديد فتكون عروسة الربِّ ويتكاثر بنوها كرمل البحار (49: 14-36)، وإليها يأتي أبناؤها حجّاجًا فيقيمون داخل أسوارها ويهتفون: ما أحبَّ مساكنك يا ربَّ الجنود، إنَّ يومًا في ديارك خير لي من ألف في أخبية المنافقين (مز 83: 1ي).

ج- يسوع داود الجديد في مدينته أورشليم

1- يسوع ابن داود

يسوع هو ابن داود، ليس باللحم والدم فقط، بل بأعماله التي جاءت تكلِّل أعمال داود وتكمِّلها. ولد في بيت لحم مثل داود (مت 2: 1) وإليه حمل ملوك المشرق تقادمهم (مت 2: 11). قبل العماد، فكان عماده مسحة ملوكيَّة على مثال داود إذ قال له الربّ: أنت ابني الحبيب، وأنا اليوم ولدتك (لو 3: 22). ولقد بدأ عمله في تأسيس ملكوت الله، وعمره ثلاثون سنة كعمر داود لمّا ملك في حبرون. كان يسوع الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن رعيَّته (يو 10: 11-16) على مثال داود راعي شعب الله الذي جعل الأمان على الحدود والسعادة داخل البلاد.

لكنَّ يسوع ليس فقط ابن داود، إنَّه ربُّ داود (مت 22: 42-45) الذي جاء لا ليؤسِّس مملكة على الأرض، بل ملكوت السماوات. ولكنَّ يسوع ليس فقط "داود، عبد الربّ" الذي أقيم راعيًا ليرعى غنم الربّ (حز 34: 23)، بل هو الله بالذات الذي جاء بنفسه ليرعى غنمه ويخلِّص شعبه من خطاياهم. يسوع هو أصل داود ونسله (رؤ 22: 16) الذي تنتظره عروسه وتدعوه قائلة له: "تعال إيُّها الربُّ يسوع تعال". فيجيبها: "نعم، أنا آتٍ سريعًا" (22: 20).

2- أورشليم مدينة يسوع

لأورشليم دور كبير في حياة يسوع، وإليها يصعد بعد رسالته في الجليل. يدخلها دخول الفاتحين ويهتف الشعب في استقباله: مبارك الآتي باسم الربّ، ملك إسرائيل. ولكنَّ هذا الاستقبال لن يدوم وسترفض إورشليم ربَّها وتحكم عليه بالموت. في أورشليم سيموت يسوع، فيها يقوم من بين الأموات، وعلى إحدى تلالها سوف يرتفع عن عيون تلاميذه فلا يعودون يرونه. في أورشليم قبل التلاميذ الروح القدس (أع 2: 1ي)، ومنها انطلقوا ليحملوا كلمة الإنجيل إلى اليهوديَّة والسامرة وحتّى أقاصي الأرض (1: 8).

ولكن كما هُدمت أورشليم مرَّة أولى فتطلَّع اليهود إلى مدينة الله، كذلك ستُهدم أورشليم مرَّة ثانية (70 ب.م.) فيتطلَّع المؤمنون إلى أورشليم السماويَّة وقد عرفوا أن ليس لهم هنا مدينة ثابتة (عب 13: 13). إلى هذه المدينة، مدينة الله الحيّ ومسكنه، اقترب المؤمنون بالمعموديَّة وفي الهيكل الذي لم تصنعه أيدٍ بشريَّة قدَّموا للربِّ ذبائحهم الروحيَّة. أورشليم السماويَّة هي أمُّنا (غل 4: 26) وهي تمثِّل الكنيسة، عروسة يسوع الحمل الإلهيّ. إنَّها مسكن الله والناس: يسكن الله معهم ويكونون له شعبًا (رؤ 21: 2-3).

هذه المملكة التي جاء داود يدشِّنها في أورشليم ستصبح مع يسوع مملكة الله على الأرض، أي الكنيسة، بانتظار أن تصبح مملكة السماء حيث لا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع، بعد أن جعل الله كلَّ شيء جديدًا (رؤ 21: 4-5).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM