الخاتمة

الخاتمة

وهكذا انتهينا من قراءة النبوءة الإشعيائيَّة، فاكتشفنا أوَّل ما اكتشفنا قداسة الله. فالله في نظر هذا النبيّ هو المطلق الأوحد، وكلُّ نشاط للإنسان خارج هذا المناخ، إنَّما هو شركٌ وعبادة أصنام.

في محطَّة أولى تحدَّث النبيّ إلى مملكة يهوذا الصغيرة التي تتقاذفها الصراعات بين الممالك، كبيرها وصغيرها: لا مجال للمعاهدات مع القوى الكبرى، لأنَّ الخلاص يكون فقط في الثقة بالله. فهو وحده من يتطلَّع فيه الشعب بنظرة إيمان تتجسَّد في حياة من العدالة يجسِّدها ذاك "الولد الذي يُولَد"، فيلغي السلاح من الأرض، بل يحوِّله إلى آلات يستعملها الفلاّح في أرضه والعامل في صنعته. ولكنَّ الخطيئة حاضرة، والذين دعاهم الربُّ ليسيروا معه، دخلوا في عالم الربّ، فمات من مات، وتهجَّر من تهجَّر، ولم يبقَ سوى بقيَّة. غير أنَّ الربَّ سوف ينطلق من هذه البقيَّة ليعيد بناء شعبه ومدينته.

وهكذا ننتقل إلى المحطَّة الثانية مع ما دُعي "كتاب التعزية". ما الذي حصل؟ في نهاية القرن السادس مضى الشعب إلى المنفى. ولبث في أرض بابل قرابة سبعين سنة. أما يريد العودة إلى مدينة الله المقدَّسة؟ ولكنَّ هؤلاء المنفيّين يحسّون بنفوسهم أنَّهم شبيهون بالموتى. فكيف يقومون؟ لهذا أرسل الله نبيًّا فأعاد الرجاء إلى القلوب، وأفهمهم أنَّ الله يُعدُّ لهم خروجًا آخر أفضل من الذي عرفوه حين عبروا البحر مع موسى وأقاموا في البرِّيَّة أربعين سنة. أمّا الذي يستعين به الربُّ لكي يؤمِّن هذا الخروج الجديد، فلا يكون ملكًا من نسل داود، بل كورش الملك الفارسيّ. وهكذا يعود المنفيّون، أولئك المساكين بالروح، كما في تطواف يسير فيه الربُّ في المقدِّمة، فيحوِّل الصحراء إلى جنَّة غنّاء تجري فيها الأنهار، على مثال جنَّة عدن.

والمحطَّة الثالثة تعرف نبيًّا يعيش مع العائدين من المنفى، الذين خابت آمالهم حين رأوا الصعوبات التي تواجههم في أرض الربّ: الخراب، الأراضي التي وُضعت الأيدي عليها، الأعداء من كلِّ جانب. ولكنَّ الربَّ حاضر مع شعبه وهو يعيد بناء أورشليم، لا في حدودها السابقة، بل يوسِّعها لأنَّها لا تستقبل فقط الشتات اليهوديّ، بل جميع الشعوب والأمم. صارت مدينة الله مفتوحة لكلِّ الذين يطلبون الربَّ بحيث لا يستبعد أحد. فتلك التي عرفت الخراب بُنيَت بالحجارة الكريمة، لا بالطين واللبن والأحجار العاديَّة. والتي سيطر عليها الظلام بعد أن فرغت من السكّان، استعادت نور الرب، فما عاد القمر قمرًا بل صار نوره مثل نور الشمس. وصار نور الشمس سبعة أضعاف. فمدينة لا تعرف الظلام لن تحتاج بعدُ إلى أسوار، لاسيَّما وأنَّ الربَّ هو حارسها. الأشرار يزولون أو هم يعرفون أن لا مكان لهم فيها لأنَّهم رفضوا دعوة الربِّ للمشاركة في أفراحها. أمّا الأبرار فيضيئون في ملكوت الله.

ذاك ما وعد به النبيّ. فهل تحقَّق؟ كلاّ. فالعهد القديم لا يجد كماله إلاَّ في العهد الجديد، وأورشليم الأرضيَّة تبقى باهتة تجاه أورشليم السماويَّة التي تحدَّث عنها سفر الرؤيا. أمّا الملك الداوديّ الذي انتظره النبيّ ليكون مع شعبه، فلم يعد إنسانًا من البشر، بل ابن الله الذي صار بشرًا، غنّى معاصرو إشعيا حضور "عمانوئيل" مع ابن الملك آحاز، أمّا أبناء الإنجيل فعرفوا عمانوئيل في هذا الطفل الذي وُلد في المغارة، وحمل الإنجيل، بل كان هو في الإنجيل، في "عبد الربّ" الذي أخذ أحزاننا وحمل أوجاعنا، الذي سكب نفسه للموت وأحصي مع الأثمة، وفي النهاية برَّر الكثيرين، وحمل آثام البشريَّة كلِّها ووعدنا بأن يكون معنا حتّى نهاية العالم.

 


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM