الفصل السادس والستّون: نداء الله الأخير

الفصل السادس والستّون

نداء الله الأخير

تطلَّع النبيّ إلى الجماعة التي يقيم فيها. هناك المؤمنون الذين يريد أن يشجِّعهم، وهناك رافضو وصايا الله، الذين يريد أن ينبِّههم إلى الخطر الذي ينتظرهم. فبدا كلامه هنا النداء الأخير: فالدينونة تنتظر البشر جميعًا، لا أهل أورشليم وسكّان يهوذا وحدهم. فكلام الله يجب أن يصل إلى أقاصي الأرض. ومصير كلِّ إنسان يتعلَّق بطواعيَّته لله أو بعداوته له، على ما قال سفر التثنية: "جعلتُ اليوم قدَّامك الحياة والخير، والموت والشرّ" (30: 15). أوصيتك أن تحبَّ الربَّ. إن تسمع تحيا. وإن لم تسمع... وكانت الخلاصة: "أخذُ الحياة لكي تحيا أنت ونسلك" (آ19).

هذا ما نقرأه في ف 66: في إطار بناء الهيكل، يدعو النبيّ إلى العبادة الحقَّة. أمّا أصحاب الممارسات المشبوهة فالعقاب ينتظرهم (آ1-4). وفي قلب صهيون التي تتجدَّد، يعرف الأشرار الخزي (آ5-6). أمّا الأبرار فيعيشون في الفرح (آ7-14). تصبح أورشليم أمًّا لها الأبناء (والبنات) العديدون. وفي آ15-24 نعود إلى بداية النبوءة الإشعيائيَّة حيث تُدعى الشعوب كلُّها للدينونة فينقسمون بين أهل اليمين وأهل اليسار (مت 25: 31ي).

66: 1-4 هكذا قال الربّ

النبيّ لا يتكلَّم باسمه، بل باسم الذي أرسله. فإذا أراد الناس أن يسمعوا إلى كلامه على أنَّه كلام بشر، يخطئون ويخطئون. الربُّ يتكلَّم والنبيّ يوصل صوته. "السماوات كرسيّ" (آ1). دعا النبيّ حجّاي إلى بناء الهيكل وحمل التقادم إلى الربّ من أجل سعادة الشعب (حج 2: 14، 17). ولكنَّ إشعيا يرى أنَّ حضور الله لا يرتبط ببناء مهما كان مجيدًا. ومثله إرميا الذي رأى المؤمنين يتعلَّقون بالهيكل ويرون فيه حرزًا يتَّكلون عليه (إر 7: 4ي). فخالق الكون لا يمكن أن يُسجَن بين أربعة جدران. عرشه ليس على الأرض بل في السماوات، أمّا الأرض فموطئ قدميه. حين كان الشعب في البرِّيَّة، كان الله في خيمة بين خيامهم، بحيث لا يُحصَر في هيكل مثل الآلهة الوثنيَّة. ولمّا أراد داود أن يبني للربِّ بيتًا، قال له الربّ: "أنا أبني لك بيتًا" (7: 5ي). فبيت الله يقوم بالمؤمنين، لا بالحجارة فقط[RK1] . ومع المؤمنين العاملين مشيئته يرتاح.

وهكذا لا نستطيع أن نبني لله "بيتًا يسعه". ولا أن نقدِّم له شيئًا من عندنا. فكلُّ ما نملك هو عطيَّة من لدنه. قال المرتِّل: "لي حيوان الوعر والبهائم على الجبال بالألوف... إن جعتُ فلا أقول لك" (مز 50: 10-12).

إلى ماذا يتطلَّع الله، أو بالأحرى إلى من يتطلَّع؟ ثلاث فئات. المسكين (ع ن ي). الذي ينتظر كلَّ شيء من الله ولا يستند إلى نفسه ولا إلى البشر. "منسحق روح" (ن ك ه، روح). سحقه الناس فتألَّم في أعماق قلبه، وصرخ كما صرخ العبرانيّون في مصر. وأخيرًا، "مرتعد" (ح ر د) إلى كلمة الربّ. أي يخاف عليها من الضياع، كما يخاف أن لا يكون أمينًا له. هي الغيرة الشبيهة بغيرة إيليّا أو صموئيل. أحد معاني "حرد" في العربيَّة، غضب من أجل شيء من الأشياء.

في آ3، نكتشف الفساد الذي يدخل في عبادة شكليَّة: هناك الذبيحة للربّ (ثور) ويقابلها التعدّي على الوصيَّة القائلة: لا تقتل. ماذا يذبح المؤمن؟ مع الشاة الكلب الذي هو حيوان نجس. ومع التقدمة يسكب "دم الخنزير". وأخيرًا يقدِّم البخور لا أمام الربِّ الإله، بل أمام الصنم وما يمكن أن يسبِّب من الشرّ، لأنَّ الإنسان في النهاية يشابه الصنم الذي يعبد. هل اختار هؤلاء طريق الربِّ أم طريقهم؟ هل طلبوا مسرَّة الله أم سرّوا "بأصنامهم". اللفظ العبريّ هو: "ش ق و ص ي هـ م": القبيح، المكروه.

وماذا يكون ردُّ الله؟ تأتيهم المصائب والمخاوف بسبب هذا التمرُّد. ويتكرَّر في آ4 ما قرأنا في 65: 10: دعا الربُّ، تكلَّم، فما كان جواب. وعاد فعل "ح ف ص"، سرّ. هل طلبوا رضى الله أم رضى نفوسهم؟

66: 5-14 اسمعوا كلام الربّ

قال النبيّ كلام الربّ، وها هو يطلب من الشعب أن يسمعوا. لا يتوجَّه إلى الجميع، بل فقط إلى فئة "المرتعدين إلى (إلى، لا من) كلامه"، أي الذين يغارون على كلامه. "إخوتكم". هم من نسلكم، ولكنَّهم الأقوياء، الذين وضعوا يدهم على الأرض، ساعة مضى العديدون في طريق المنفى. هم يسحقون الفقراء والذين لا يملكون شيئًا. بالإضافة إلى ذلك، يطردون "المساكين" ويلاحقونهم بأقوال مثل هذه: أين هو إلهكم الذي وثقتم به، فتركتم بابل وأتيتُم إلى هنا؟ أما كان من الأفضل لكم أن تنعموا بخيرات هذه المدينة العظيمة؟ في هذا المناخ صرخ المرتِّل يومًا: "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً إذ قيل لي كلَّ يوم: أين إلهك؟" (مز 42: 3). أترى الله نسيَ أصفياءه؟ ولماذا يتركهم يتألَّمون من مضايقة الأعداء؟ (آ9).

تحدَّى "الأقوياء" الضعفاء. أين هو فرحكم لكي نراه؟ (آ5). ولكنَّ الإيمان يحرِّك هؤلاء: الخزي يكون للذين "يهاجمون" العائدين إلى أرض الربّ. الله حاضر. هو هنا. إن كنتم لا ترونه، فتقدرون أقلَّه أن تسمعوه: صوت (ق و ل). "ضجيج" (ش ا د ق). أو همهمة وإشاعة. قريبًا تصل إليكم. ثمَّ يتكرَّر "ق و ل". صوت من الهيكل. صوت الربّ. ألا تريدون أن تسمعوا؟ ولكنَّكم سوف تلمسون العقاب الذي تستحقّون.

وفجأة يرى "المساكين" أورشليم وقد فاضت عليها البركة. كانت أرملة لا تستطيع أن تلد، وهي الآن تلد ذكرًا يرمز إلى شعب الله. وهذا الولد هو أرض يهوذا التي تلد "أمَّة"، شعبًا كبيرًا في يوم واحد. تلك هي صهيون، المدينة التي يصونها الربّ. من أجرى هذه المعجزة؟ الربُّ نفسه.

وحين تأتي الجموع إلى أورشليم تنطلق هتافات الفرح كما في مز 122: "فرحتُ بالقائلين لي: إلى بيت الربِّ نذهب" (آ1). وفي مز 126: "عندما ردَّ الربُّ سبي صهيون، صرنا مثل الحالمين. حينئذٍ امتلأت أفواهنا ضحكًا، وألسنتنا ترنُّمًا" (آ1-2). جاء المشكِّكون وقالوا للمؤمنين: لا نرى فرحكم. ولكن ها هو صراخ الابتهاج. كلُّ الذين يحبّون أورشليم وناحوا عليها، يُدعَون لكي يشاركوا في البهجة.

فأورشليم هي أم ترضعكم التعزية وتشبعكم، وتستطيعون أن "تتغنَّجوا" (ع ن ج) عليها، كما الأطفال.

"هكذا قال الربّ" (آ12). ما الذي سيعمل من أجل مدينته؟ يرسل إليها السلام وافرًا، مثل نهر لا ينقطع ماؤه (48: 18). ثمَّ "المجد" الذي كان للأمم، ينتقل إليها، لا بقدرة ملك، بل بقدرة من أحبَّها. فكما أنَّ "جبل الله" يرتفع فوق جميع الجبال، كذلك مجد أورشليم يضمّ أمجاد العالم. ويتصرَّف الله هنا مثل أمّ، تحمل أولادها على ركبتيها، تدلَّلهم. وهو "يعزّيهم" لا في طريق العودة فقط، بل في أورشليم.

"ترون" (آ14) عمل الربِّ وبركاته. "يُسرُّ قلبكم" ويفرح، وبهذا الفرح تتحوَّل عظامهم اليابسة (58: 11)، فتنبت مثل العشب وتزهو. والمؤمنون يعرفون يد الربّ، أمّا الآخرون فيعرفون العنف مع الغضب الذي يصيبهم.

66: 15-24 هوذا الربّ

ما تكلَّم الربُّ فقط من بعيد، ولا برزت أعماله وهو في الأعالي، بل هو حاضر، وقد أتى في النار. هكذا رآه موسى. وفي مركبة شبيهة بتلك التي رآها حزقيال، من أجل الدينونة. فالنار تمرُّ على المعادن من ذهب وفضَّة. وتمرُّ على الخشب والقشّ والتبن. فماذا يبقى بعد مرورها؟ ويفعل الرب بسيفه كما فعل بجيش سنحاريب حين حاصر أورشليم سنة 701 ق.م. نقرأ صورة قديمة في خبر جدعون، يقول: "سيف ليهوه ولجدعون". صورة مادِّيَّة. وهنا صورة روحيَّة وعقاب للذين يعبدون الأصنام ويغتسلون في الجنّات وكأنَّ مثل هذه المياه تطهِّرهم، ويأكلون الحيوان النجس. أمّا النتيجة التي تنتظرهم فالفناء.

مع آ18 تبدأ دينونة الأبرار الآتين من جميع الأمم: يبدأ الربُّ فيجمعهم حوله كما الراعي يجمع خرافه المشتَّتين، فيرون مجده. بعد ذلك يرسلهم إلى الأمم الذين لم يروا هذا المجد لكي يخبروهم، لكي يبشِّروا بأعماله. ويصل هذا الإرسال إلى البعيد البعيد، إلى ترشيش، إلى شواطئ ليبيا وصولاً إلى اليونان وجزره المنتشرة.

عندئذٍ يأتي الناس من كلِّ مكان، ويتوجَّهون إلى المدينة المقدَّسة التي نعمت بخيرات الله (آ20). ويأتي معهم "إخوتكم" (أنتم) من البعيد، لأنَّ الغرباء هم أيضًا إخوة المقيمين في أورشليم ويستعملون كلَّ وسائل النقل. وبنو إسرائيل يحملون التقادم في الآنية المقدَّسة التي حملوها معهم من بابل ومن هناك استعادوها.

حين عاد المنفيّون من بابل، وجب على كلِّ واحد أن يدلَّ على أنَّه من نسل الكهنة، وإلاَّ يُرذَل (عز 2: 62؛ نح 7: 64). الآن، لا حاجة إلى هذا البرهان. فالربُّ يدعو إلى الكهنوت أناسًا آتين من الشتات. وأكثر من ذلك، يختار الربُّ له بين الغرباء كهنة ولاويّين. وحين تنفتح أورشليم على الآتين إليها من كلِّ مكان، سواء كانوا من نسل يعقوب، أو من سائر الأمم، تنطلق السماوات الجديدة والأرض الجديدة، وتكون ثابتة فلا يؤثِّر فيها الطوفان كما فعل بالسماوات الأولى والأرض الأولى.

كانوا يعيِّدون في بداية القمر (الهلال) في بابل، وفي أورشليم يوم السبت. هنا يجتمع الاحتفال ويشارك الجميع في العيد، "كلّ بشر" (ب ش ر) بدون استثناء، يأتون ويسجدون "أمامي". لا وجود بعد للآلهة. ولا وجود بعدُ للأشرار الذين صاروا جثثًا. فالقسمة لم تعد بين اليهود والوثيّين، بل بين الأبرار والأشرار. في أورشليم يقيم الأبرار. أمّا الأشرار فيكونون طعمًا للدود وللنار. وهكذا تنتهي النبوءة الإشعيائيَّة. كما ينتهي سفر الرؤيا حيث لن يبقى للبحر، للشرِّ، من وجود، أمّا المقيمون في أورشليم السماويَّة فهم "الذين أسماؤهم مكتوبة في كتاب الحياة، كتاب الحمل" (رؤ 21: 27).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM