الفصل الخامس والستّون: فرح الأبرار وألم الأشرار

الفصل الخامس والستّون

فرح الأبرار وألم الأشرار

جاء ف 65 يعطي الجواب للصلاة التي تلاها المؤمنون في ف 63-64. ولكنَّه لا يكتمل إلاَّ مع ف 66 حيث المواضيع والتعابير هي هي. ونحن نقسمه قسمين كبيرين. في الأوَّل (65: 1-12)، الأشرار الذين يتمرَّدون على الله وبالتالي يتعرَّضون للعقاب المريع. في الثاني (آ13-25)، الأبرار الذين يفتخرون بأن يكونوا عباد الربِّ وخدّامه. غير أنَّ هذين القسمين يتداخلان. ففي القسم الأوَّل، بعد كلام عن "المتمرِّدين" (آ1-7)، تكون مقابلة بين خدّام الله ورافضي خدمته (آ8-62). وفي القسم الثاني، بعد أن نرى خدّام الله ينعمون بالفرح والأشرار يتلوُّون في العذاب (آ13-16أ)، نتأمَّل الأبرار وحدهم (آ16ب-25) الذين يستجيبهم الربّ قبل أن يدعوه، ويسمعهم قبل أن يتكلَّموا. وفي النهاية يقيمون على الجبل المقدَّس. أمّا الأشرار فلا يستمعون إلى الله حين يكلِّمهم ولا يتجاوبون مع نداءاته. لهذا تكون إقامتهم مع الشرّ، بعيدًا عن جبل الله.

65: 1-7 طلبوني، وجدوني

تبدأ آ1 بصيغة المجهول: طلبت (ن د ر ش ت ي). صرت موضوع طلب وبحث لدى الذين لم يسألوا عنّي. هو إله المجّانيَّة التامَّة، الذي يمضي بحرِّيَّة مطلقة إلى الناس. ثمَّ: وجدت لدى الذين لم يلتمسوني. ونلاحظ الاهتمام والاستعداد مع تكرار "هـ ن ن ي"، ها أنا، ها أنا. من هم هؤلاء؟ لا الشعب العبرانيّ الذي دُعيَ باسم الربّ، الذي دُعي شعب الربّ وافتخر بهذه التسمية، بل كدت أقول الشعب الأدوميّ والشعب العمّونيّ والشعب المصريّ... هذا يعني أنَّ جميع الأمم تستطيع أن تطلب الله وتجده، لا شعب واحد من الشعوب.

أمّا شعب الله، فبدا ذاك الشعب "العاصي" (س و ر ر). هم لم يسألوا عن الله ولم يطلبوه، فهل يعجبون إن لم يجدوه! رسم لهم الطريق "الصالحة" (ط و ب)، فساروا في الطريق غير الصالحة. قال لهم إنَّ أفكاره غير أفكارهم (55: 9)، ففضَّلوا أفكارهم على أفكار الله، وتركوا طرق الله وساروا في طرقهم.

أمثلُ هذا التصرُّف يُرضي الله؟ بل يُسخط الله، يغيظه (آ3)، لا في السرّ، بل في وجهه وبكلِّ وقاحة. لا مرَّة ولا مرَّتين، بل على الدوام، لا يتوقَّف (ت م ي د). ويعدِّد الله بفم نبيِّه الخطايا التي تغيظ الله: "الجنّات" أو "الجنائن" المكرَّسة للآلهة مع أشجارها الباسقة. مثل هذه الجنائن وُجدت قربَ المدن الوثنيّة الكبيرة. ذُكرت في بداية النبوءة الإشعيائيَّة وها هي تُذكَر في النهاية. هذا يعني أنَّ الشعب لم يسمع للنبيّ أو سمع وما فعل (6: 9). أو هو ما أراد، لهذا لم يرجع إلى الربّ بحيث ينال الشفاء. هناك الذبائح، وهناك البخور الذي يُحرَق للأصنام على حجارة القرميد أو الآجر (آ3).

والخطيئة الثانية، استشارة الأموات، لهذا يقيمون في القبور وينسون أنَّهم يتنجَّسون حين يلامسون الموتى، مع العلم أنَّ الشريعة منعت مثل هذه الممارسة (تث 18: 11؛ لا 19: 31). نتذكَّر أنَّه كانت معابد في تلك المدافن المحفورة في المغاور: يقضون الليل فيها وينتظرون الأحلام التي تحمل إليهم ما يعتبرونه وحيًا، كما قالت النسخة اليونانيَّة. "المصانات" (ن ص و ر ي م). هي الأماكن المحفوظة والخفيَّة، وفيها يجتمعون. وهناك يذبحون الخنزير ويأكلون من لحمه. قال سفر اللاويّين: لا تأكلوا الخنزير لأنَّه نجس لكم (11: 4-7). ثمَّ إنَّ طقوس الشرق الأوسط لم تقدِّم الحنزير ذبيحة. ولكن يقدَّم، إذا قدِّم، للآلهة السفلى، آلهة الجحيم. مثل هذا الطعام لا يكون إلاَّ نجسًا. وما يدهش فهؤلاء "الذابحون" يبتعدون عن الناس ولا يسمحون لأحد بأن يلمسهم. صاروا "محرَّمين" (آ5).

هل يقبل الله بهذه التصرُّفات؟ هل يستطيع أن يراها؟ بل لا يقدر أن يشمَّها. إنَّها نار في يده لا يستطيع أن يلمسها. لهذا، لن يسكت الله. فالعقاب ينتظر هؤلاء الأشرار كما ينتظر آباءهم، لأنَّ جميع الأجيال متضامنة في الخطيئة. وهنا يذكر النبيّ ما يتمُّ من عبادة البعل على المرتفعات فيراها الجميع و"يعيِّرون" الله. فماذا يفعل الله؟ يجازي الأشرار شرًّا. نقرأ هنا "الكيل" (م د ت ي). ونتذكَّر: بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم (لو 6: 38). هذا يعني أنَّ العقاب يكون على قدر الخطيئة. وبما أنَّ الخطيئة كبيرة نستطيع أن نتصوَّر ما يكون عليه العقاب.

65: 8-12 هكذا قال الربّ

وهكذا ينال عبّاد الأوثان ما يستحقّون. ولكنَّ الربَّ لا يريد أن يسحق شعبه، لا يريد أن يقتلع الكرمة من جذورها. فمع أنَّ هذه الكرمة أعطته فقط "عنبًا رديئًا" (5: 2)، أو أعطته بعض العناقيد، فهو يستعدُّ أن يعفو ولو وجد عنقودًا واحدًا. ففي العنقود بعض "السلاف" أو "النبيذ" (ت ي ر و ش) ممّا يعني وجود البركة. كذلك في الشعب بعضُ الخدّام الصالحين الذين يمكن أن يعطوا "نسلاً" (آ23) كبيرًا. هؤلاء هم البقيَّة الباقية (46: 3) التي تحدَّث عنها إشعيا مرارًا.

لن يزول يعقوب أبو القبائل الاثنتي عشرة، لن يزول يهوذا بعاصمته أورشليم، بل يبقى "نسل" (أو: زرع) و"إرث" على الجبال التي تحيط بأورشليم. من يسكن هناك؟ لا الأشرار، بل "مختاريّ، عبيدي". هم تعلَّقوا بالربِّ، واختاروا أن يكونوا له، لا للآلهة الكاذبة. قالوا له: أنت إلهي، فقال لهم: أنتم شعبي. هؤلاء يكون لهم الكلأ لقطعانهم مع الماء، على الشارون، ذلك السهل الممتدّ من جبل الكرمل إلى يافا، والمشهور بمراعيه (نش 2: 1). إنَّ وادي "عخور" الواقع بين أورشليم وأريحا، يتحوَّل  من وادي الشقاء (يش 7: 24-26) إلى وادي الرجاء (هو 2: 17)، ويكون "مربض بقر". وكلُّ هذا من أجل الذين طلبوا الربّ.

"أمّا أنتم" (و أ ت م). تعارض تامّ. ينتقل النبيّ من الذين سألوا عن الربّ وطلبوه (آ1)، إلى الذين تركوا (ع ز ب) الربّ، ونسوه (ش ك ح) وأعدّوا للأصنام وليمة. تلك عادة لدى الشعب ندَّد بها الأنبياء. فقال هوشع: "يأكلون ولا يشبعون... لأنَّهم تركوا الربَّ" (4: 10). وقال في 2: 15 عن التي دعاها عروسه: "تذهب وراء محبِّيها وتنساني". وقال إرميا: "هل تنسى عذراء زينتها، أو عروس مناطقها؟ أمّا شعبي فنسيني" (2: 32). نسوا الربَّ ونسوا "جبل قدسه" أو جبله المقدَّس حيث يرتفع الهيكل رمز حضور الله، ومضوا إلى الآلهة. "ج د" (جاد) هو السعد أو الحظّ. عُبد في كنعان ودخل في أسماء عديدة مثل "بعل جاد" (يش 11: 17)، مجدل جاد (يش 15: 37). ثمَّ "م ن ي" أو ماني أي الموزِّع (الحظوظ). قد تكون "مناة" الإلاهة التي عبدها العرب في الجاهليَّة. ربَّما هي المصير، فتعدُّ أيّام الإنسان (م ن ه، عدَّ، أحصى، رج دا 5: 25-26).

ماذا يكون نصيب هؤلاء؟ السيف، النحر أو الذبح. والسبب: دعاهم، كلَّمهم، فما أجابوا ولا سمعوا، بل ساروا في طريقهم، طريق الشرّ وما اختاروا مسرَّة الله، بل مسرَّتهم الخاصَّة. طلبوا الموت فكان لهم ما طلبوا. فيا ليتهم طلبوا الحياة!

65: 13-16 لذلك

وها هي النتيجة: فالفرق شاسع بين "عبيدي" والآخرين. بين صيغة الغائب (هم، يأكلون) وصيغة المخاطب (أنتم، تجوعون). فالتعارض بين "العاصين" (آ11-12) وعباد الله الأمناء (آ8-10) يعود هنا في عدد من التناقضات: الأبرار يأكلون، يشربون، يفرحون، يرنِّمون، والعدد أربعة هو عدد المسكونة. والأشرار يجوعون، يعطشون، يخزون، يصرخون، يولولون. هكذا يعبِّرون عن كآبتهم وحزنهم. ماذا نفعهم ما فعلوه للأصنام من "مائدة عامرة"؟ أمّا وليمة الربّ فيُستبعدون منها ويكونون للعنة. لا يمكن هنا إلاَّ أن نتذكَّر الدينونة كما يصوِّرها يسوع: "اذهبوا عنّي، يا ملاعين، إلى النار الأبديَّة" (مت 25: 41).

الأشرار يكون اسمهم للعنة والموت، أمّا عباد الربّ فيكون لهم اسم آخر، اسم الربِّ واهب الحياة. ونستعيد كلام متّى، الأبرار هم مباركو الآب ووارثون للملكوت. والأشرار هم من جماعة إبليس وآخرتهم النار. فكلُّ بركة هي من عند الربّ. والشعب يقول: آمين. والمؤمن يحلف فقط باسم الربّ، والشاهدون يقولون: آمين. تلك هي الحقيقة التي لا يمكن أن تخطئ. وتلك هي المواعيد التي لا تراجع فيها.

65: 16ب-25 الضيقات الأولى

"نُسيَتْ" (صيغة المجهول)، الربُّ نساها وتركها إلى غير رجعة. سُترَتْ. وربَّما نقول: دُفنت وما عاد أحدٌ يذكرها. نترك الماضي ونتطلَّع إلى المستقبل. وما يكون؟ الله يخلق من جديد. "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (تك 1: 1). واليوم يخلق الله سماوات جديدة وأرضًا جديدة، بحيث ينسى المؤمن الخلق الأوَّل بسبب جمال الثاني.

"سرُّوا" (ش ي ش و)، "ابتهجوا" (ج ي ل و). كان خلق أوَّل. وكذلك كان خروج أوَّل. وها هو خروج جديد (43: 18-19)، وعالم يتجدَّد، وشعب يتجدَّد. ويتردَّد فعل "خلق" (ب ر ا) ثلاث مرّات لكي يتثبَّت المؤمنون من مواعيد الله، وكلُّ هذا يكون حول أورشليم والقائمين فيها. وكما، في الخلق الأوَّل، رأى الله أنَّ كلَّ شيء حسن (تك 1: 10، 12...)، هنا الربُّ "يبتهج، يسرّ" فيشارك شعبه في فرحه. وتأتي الصور الحسِّيَّة لتدلَّ على أبعد ما هو حسّيّ.

حين كانت أورشليم تحت الحصار. كان الصراخ والبكاء. كلُّ هذا مضى. لن يُسمَع بعد. مرّات عديدة يموت الأطفال، يُقصَف عمرهم وهم ما عرفوا الحياة، فيعتبَر أنَّه خطئ هو أم والداه (يو 9: 3). لن يموت الإنسان طفلاً. بل تصل سنوُّه إلى مئة سنة. أي تكمل حياته. وحتّى الخاطئ يصل إلى مئة سنة. إذًا، كم يطول عمرُ البارّ!

مع المحتلّ، أُخذت البيوت، سُلبَتِ الكروم. أمّا الآن فالإنسان يسكن في بيتٍ بناه، ويستغلّ كرمًا غرسه. وأيّام الشجرة تكون كأيّام الشعب، طويلة، مديدة. ذهب الشبّان إلى الحرب فما استفادوا من عمل أيديهم. انتهت الحرب، ولا حاجة إلى أن يذهب "نسل الربّ" إلى الموت والرعب: باركهم الربُّ فيحيون هم وذرِّيَّتهم.

تبدَّل الوضع كلُّه. في لا 26: 16 نكتشف ما حصل للشعب حين دُمِّرت أورشليم: "الرعب والسلّ والحمّى تُفني العينين وتتلف النفس. وتزرعون باطلاً زرعكم فيأكله أعداؤه". ويتوسَّع سفر التثنية في هذا الوضع المؤلم الذي عرفه الشعب ومدينته. "تخطب امرأة ورجل آخر يضطجع معها، تبني بيتًا ولا تسكن فيه، تغرس كرمًا ولا تستغلّه. يُذبَح ثورك أمام عينيك ولا تأكل منه. يُختطف حمارك من أمام وجهك ولا يرجع إليك. يُدفَع غنمك إلى أعدائك وليس لك مخلِّص. يسلَّم بنوك وبناتك لشعب آخر وعيناك تنظران إليهم طول النهار، فتكلاّن وليس في يدك طائلة" (تث 28: 30-32). ذاك ما حصل سنة 587-586 ق.م. وذاك ما يحصل اليوم حين يسيطر شعبٌ على شعب آخر. تلك قاعدة الحرب وما تعمله القوَّة. رفض النبيّ كلَّ هذا، أو أقلَّه تمنّى، لأنَّه جعل ثقته في الربِّ لا في البشر. فالله يستبق دعاء أبنائه وما يطلبون، ويسمعهم قبل أن يتكلَّموا. ونعود إلى ما قيل في إش 11: 7: الذئب مع الحمل، والأسد مع البقرة. فالحيوانات لا تأكل بعضها. بل تأكل العشب كما في البدايات: أعطيتكم... وأعطيت كلَّ حيوان وكلَّ طير... كلَّ عشب أخضر طعامًا لكم (تك 1: 29-30). وما سُمح بذبح الحيوان إلاَّ بعد عنف الطوفان (تك 9: 13: "كلُّ دابَّة حيَّة تكون لكم طعامًا كالعشب الأخضر"). أمّا الحيَّة، أساس الشرِّ في الكون، فيكون التراب طعامها. كما حكم الله عليها بعد الخطيئة (تك 3: 14). وهكذا تزول الخطيئة من الكون الذي يرمز إليه جبل الله المقدَّس.

زال البغض من الكون، فتطلَّع الإنسان إلى عالم يسوده السلام وتنتفي الحرب واستعمال القوَّة. مثال بعيد ولا نراه تحقَّق إلى الآن. قال النبيّ: لا سلام للأشرار. أمّا المسيح فحمل السلام إلى العالم، وبانتظار أن ندخل في سلام المسيح ويزول البغض والعداوة، يتطلَّع المؤمنون إلى من قال لهم: "سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم" (يو 14: 27).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM