الفصل الحادي والستّون: البشرى بالخلاص

الفصل الحادي والستّون

البشرى بالخلاص

جاء ف 61 في امتداد ف 60 وسوف يتواصل مع ف 62. في ف 60، توجَّه النبيّ إلى أورشليم وكأنَّها شخص حيّ، فأنشد جمالها ومجدها. وفي ف 61، توجَّه النبيّ إلى أبناء المدينة المقدَّسة (61: 1-4)، فوعدهم بأنَّ وضعهم يتحوَّل تمامًا بشكل عجيب (آ5-9). عندئذٍ يتفجَّر من قلب الجماعة نشيد البهجة والفرح (آ10-11).

61: 1-4 روح الربِّ عليَّ

هذه الآيات قرأها يسوع في مجمع الناصرة (لو 4: 18-19) واعتبرها برنامج حياته. وفي الشرح قال: "اليوم تمَّ هذا الكلام الذي تلوتُه على مسامعكم" (آ21). وقبله بخمس مئة سنة تقريبًا، قاله نبيّ من الأنبياء أُغفل اسمه فبقيت كلماته. حلَّ عليه روح الربِّ كما سبق له وحلَّ على عدد من الأنبياء من أجل مهمَّة محدَّدة. حلَّ عليه فخلقه من جديد، فاختاره الله وأرسله. إشعيا نال جمرة على شفتيه. حزقيال أمسكه الربُّ بيده. وهذا النبيّ حوَّله الروح. عندئذٍ مسحَهُ الله بالزيت المقدَّس، كما يُمسَح الملوك ثمَّ الكهنة. صار "مسيح" الربّ في خطِّ ما سيكونه يسوع المسيح "الذي مسحه" الله، كما قال بطرس الرسول في إحدى عظاته (أع 4: 27). أوَّل نتائج هذه المسحة، حمل البشارة إلى المساكين، أولئك الذين طوَّبهم يسوع في عظته على الجبل: "طوبى للمساكين بالروح فإنَّ لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3).

تلك كانت المهمَّة الرئيسيَّة التي اضطلع بها النبيّ. ثمَّ جاء فعل "أرسلني" مع عدد من الأعمال يجب أن يقوم بها تجاه مختلف فئات الشعب الذين ذاقوا محنة المنفى وما بعدها. أوَّل فئة "منكسري القلب". تحطَّموا، جرحوا. فيكون العملُ عملَ الطبيب: هو كسرٌ يُجبَر، جرح يُعصَب. الفئة الثانية، "المسبيّين". مضوا إلى السبي. انطبعوا بذلِّ العبوديَّة. لا بدَّ من تحريرهم وتأهيلهم إلى حياة لم يعتادوا إليها. والفئة الثالثة، الأسرى (أ س و ر) أو الذين في السجن. يجب أن يخرجوا من هناك ويعودوا إلى الحياة العاديَّة. والسجن لا يكون فقط غرفة بأربعة جدران مقفلة بل صعوبات نفسيَّة أو عاطفيَّة تطوِّق الإنسان وتجعله أسير ذاته. حرفيًّا: فتح كوخ (ف ت ح. ق و ح). هكذا يرون النور بعد أن كانوا في الظلمة.

والنبيّ ينادي (ق ر ا، دعا) بسنة رضى (ر ص و ن). هي السنة السبتيَّة التي تأتي كلَّ سبع سنوات، فيتحرَّر العبد بدون فدية ويعود إلى بيته (خر 21: 2؛ تث 15: 12). هكذا تعود الأمور إلى نصابها مع "ن ق م" الذي يعني أوَّل ما يعني العقاب (كما في العربيَّة) بالنسبة إلى الذين ظلموا "الصغار" في شعبه. ويتواصل كلام النبيّ حين يحمل كلام التعزية إلى الحزانى الذين فقدوا عزيزًا لهم (آ2).

في آ3، يردُ عددٌ من الصور. الأولى، محلّ الرماد الذي يدلُّ على الحزن والتوبة، تكون "العصابة" أو العمامة، أو التاج علامة البهجة. نحن نتذكَّر أنَّهم كانوا يضعون الرماد على رؤوسهم (مرا 2: 10). والصورة الثانية، زيت السرور والعطر بدل علامات الحداد. وأخيرًا، محلّ اللباس الذي يدلُّ على الحزن (هو في بلادنا اللون الأسود)، اللباس الذي يدلُّ على التهليل والفرح (اللون الزهريّ مثلاً). وظنَّ المنفيّون أنَّهم "شجرة يابسة" (56: 3) لا تنفع شيئًا. فإذا هم اليوم شجرة خضراء وبأيِّ اخضرار: أ ي ل ي: البطمة. وإذ هم "غرسة" الربّ ويدلُّون على جمال الربّ (60: 21).

بهذه القلوب التي تغلَّبت على اليأس، يعود الشعب إلى عمل البناء: الخرائب تبنى. الأماكن الموحشة تمتلئ بالسكّان. المدن تتجدَّد بعد أن يزول الخراب، وكلُّ ما يدلُّ على القفر الموحش يزول بغير رجعة ويبقى الوجه الحلو إلى أجيال وأجيال (آ4).

61: 5-9 وتتبدَّل الأحوال

"الغرباء" (ز ر ي م). أو بالأحرى: الأجانب الذين يجب أن لا يختلطوا معكم، مع بعض احتقار. ثمَّ "ب ن ي. ن ك ر". هم نكرة، لا تعرفونهم. يهتمّون برعي الغنم وأعمال الفلاحة في الكروم. فأنتم لا وقت لكم، لأنَّكم مأخوذون بخدمة الربِّ في هيكله. اللفظ الأوَّل "ك هـ ن ي". والثاني "م ش ر ت ي": هم كهنة وخدّام للربِّ الإله. هذا ما يعود بنا إلى سفر الخروج: "وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمَّة مقدَّسة"  (خر 19: 6). وكما كان الشعب يحمل التقادم إلى الكهنة واللاويّين من أجل المعيشة اليوميَّة، ها هي الأمم تحمل تقادمها إلى "الأمَّة الكهنوتيَّة" التي يرئسها رئيس الكهنة، بعد أن زالت الملكيَّة من أرض يهوذا.

"ضعفان" (آ7). في الماضي، نال نسل يعقوب الخزي مضاعفًا، مع الخجل والعار بفعل الذين ضايقوهم. والآن ينالون ضعفين من الفرح. وكما ورثوا أرضكم، ترثون أنتم أرضهم. في الماضي، سُلب شعب الله وظُلم. وها هو الربُّ العادل يعيد له ما أخذ منه. كلُّ هذا يكون في إطار "العهد" (ب ر ي ت). والعهد لا يكون موقَّتًا، لكن أبديًّا. فلا ندامة بعد اليوم على عطايا الله. وذاك الذي أعطى لا يقبض يده لكي يوقف عطاءه.

بعد سقوط أورشليم، صار سكّانها قليلين، والذين مضوا إلى السبي ضاعوا بين المسبيّين من البلدان المتعدِّدة. أمّا الآن فالبركة ترافق شعب الله. لهذا، يُعرَفون بين الشعوب، وخصوصًا يُعرَفون في اتِّصالهم بالربّ: "نسل باركه الربّ".

61: 10-11 فرحًا أفرح بالربّ

هو كلام عن الفرح والسرور (ش و ش) والبهجة. صهيون تعبِّر عن فرحتها. بدايتها في الربّ (ي هـ و ه) ونقطة الوصول في الله (ا ل هـ ي). والسبب: ألبسها الربُّ ثياب خلاص. تبدَّل لباس الماضي، لباس الذلّ والمسيرة إلى الموت. ونلاحظ أنَّ هناك معنى آخر: الثياب الموشّاة، المزركشة. ثياب العيد. هو العريس والكاهن يلبس العمامة وهي العروس تتزيَّن بالحلى. أيُّ سرور يضاهي هذا السرور!

الخلاص آتٍ بسرعة ولا شيء يوقفه، مثل نبتة غرسها الربُّ في الأرض. فكما النبتة تنمو وتعطي ثمرًا، هكذا عملُ الربِّ ينبت "البرارة" (ص د ق ه) بحيث إنَّ شعبه يهلِّل ويسبِّح فتسمعه أمم الأرض، بانتظار أن تشارك في الفرح كما شاركت في الحزن والحداد.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM