الفصل الستّون: أورشليم تستنير فتنير الشعوب

الفصل الستّون

أورشليم تستنير فتنير الشعوب

هكذا ينتهي نشيد أورشليم المستنيرة والمليئة بالسكّان، الغنيَّة التي أعيد بناؤها فصارت جميلة وفخر المدائن المقدَّسة.

انتهى السير في الظلام، وتوجَّه الشعب إلى النور. فأورشليم مستنيرة وهي تُرى من بعيد، لا بعيون أبنائها فقط، بل بعيون البشريَّة كلِّها. هكذا يكون ف 60 في امتداد ف 59. اشتاق سكّان المدينة إلى النور بعد أن تعبوا في ظلام السجون. واشتاقوا إلى نور آخر، إلى الخلاص والعدالة والسلام. وها هو مجد الله يتجلّى على المدينة المقدَّسة وعلى أبنائها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، جاء ف 60 مع ف 61-62 للكلام عن مجد أورشليم التي يأتي إليهم المنفيّون من الشتات كما تأتي الأمم التي يجتذبها الربُّ الإله في مدينته المقدَّسة.

60: 1-3 قومي استنيري

هي عروس الربِّ يتوجَّه إليها الكلام: امرأة ثكلى استرجعت أولادها. زوجة متروكة وجدت فاديها. أورشليم التي أنشدها إشعيا الثاني. "قومي". صيغة الأمر. كانت مرتمية على التراب حزينة. لتقفْ بافتخار بعد أن استعادت مجدها. "استنيري". كوني نورًا وأنيري حولك. فيها بهاء إلهها ومجد الربّ، أو هو الربُّ يشرق عليها مثل الشمس.

مدينة مميَّزة وسط عالم من الظلمة والضباب. هي منارة تدلُّ التائهين فيكتشفون طريقهم. نتذكَّر هنا أنَّ النور هو أوَّل خلق الله (تك 1: 3)، وأورشليم هي الخليقة الجديدة (65: 18). كان مجد الله يغطّي جبل سيناء، وأورشليم صارت سيناء الجديد. هناك يقيم الله ويكشف عن ذاته، فتعيِّده الشعوب ولاسيَّما في عيد المظالّ حيث يصبح الجبل كتلة من نور مشعشعة في الليل.

مجدُ الربِّ يُرى من بعيد. لذلك تسير إليه الأمم (آ3)، والملوك. ونور أورشليم هو الذي يناديهم. ذاك ما تنشده الليتورجيّا: "يا أورشليم، أيَّتها المدينة المقدَّسة... يزورك الأمم من الأقاصي، ويسجدون بقرابينهم للربّ، والأجيال تمجِّدك بفرح عظيم، والغرباء الآتون من البعيد لا يأتون بأيدٍ فارغة".

60: 4-9 ارفعي عينيك

وينادي النبيّ الإشعيائيّ أورشليم لترى الجموع الآتية إليها من المسكونة، جموع بنيها وبناتها، مع غنى الأمم وثروة البحار. فتحسُّ هذه المدينة بقلبها يخفق ويتَّسع.

من الجنوب، من مديان وعيفة، ومن الشرق، من شبأ. تأتي القوافل. كلُّهم يحملون الذهب لصنع الآنية المقدَّسة واللبان الذي يُحرَق على مذبح البخور. "يبشِّرون"، يحملون إنجيلاً وخبرًا طيِّبًا وينشدون هللويا في الهيكل (آ6). والذبائح تأتي وافرة (آ7): غنم قيدار، تلك القبائل الإسماعيليَّة المقيمة إلى الشرق من فلسطين، وكباش نبايوت، القبيلة المرتبطة بالأنباط. هكذا "أجمِّل (إ ف أ ر) بيت جمالي (ت ف أر ت ي). وهكذا نرى الربَّ معتزًّا بمدينته مفتخرًا.

هذا من الشرق. ومن الغرب، من البحر، يأتي العديدون مسرعين "يطيرون" (ع و ف). مثل "السحاب"، مثل "الحمام". هم معجِّلون، ولا مجال أن يدوروا الدورة لكي يصلوا إلى أورشليم. السحاب يعود إلى نقطة انطلاقه، إلى أورشليم منبع كلِّ خير. والحمام الذي انطلق من سفينة نوح وعاد إليها حاملاً غصن الزيتون، يعود الآن إلى "مدينة السلام"، إلى كواها، إلى بيوتها. من هم الآتون من الغرب؟ السفن الآتية من البعيد، سكّان السواحل والجزر القائمة في قلب البحار. كلُّهم يأتون ليمجِّدوا الربَّ فيك، يا بارعة الجمال (ف أ ر ك).

60: 10-13 الغرباء

يأتي البنون والبنات من أجل العيد. وبنو الغرباء (ن ك ر) لم يعودوا نكرة. صاروا من شعب الله، وهم يشاركون في احتفالاته. أوَّل عمل يبدأون به: بناء أسوار أورشليم. والملوك يشاركون في الخدمة، فلا ملك في أورشليم إلاَّ الله الذي هو ملك الملوك وسيِّد السادة (رؤ 19: 16). في الماضي، سيطر الملوك على أورشليم بسماح من الله، ولكن كان هذا عهدًا وانتهى، فالملوك هم في خدمة أورشليم.

إذا كانت أورشليم في النور، فهي لا تعرف الليل. وبالتالي لا تحتاج إلى أن تغلق أبوابها. ولا خطر عليها والربُّ حاميها. بالإضافة إلى ذلك، تبقى أبوابها مفتوحة لكي تستقبل الحشود الآتية إليها: الأمم، الملوك. وتأتي حاشية (آ12) تهدِّد الأمَّة والمملكة اللتين لا تأتيان إلى خدمة المدينة المقدَّسة.

بعد الذهب واللبان، ها هو الخشب وأجمل الخشب: الأرز (مجد لبنان)، السرو... كلُّ هذا من أجل الهيكل مقدسي.

60: 14-17 ويسيرون إليك

هي الفئة الأخيرة الآتية إلى أورشليم. "إليك" كما في حجّ، لا "عليك" على سبيل العداوة. يسيرون إليك بانحناء وخشوع تكريمًا لك، كما الانحناء أمام الملوك. من هم هؤلاء؟ الذين "عنّوك" (م ع ن ي ك)، قهروك. أذلّوك. ثمَّ الذين "أهانوك". كيف يتصرَّفون الآن؟ يخضعون لك، يسجدون لموطئ قدميك، كما اعتاد الأسرى أن يسجدوا لملك بابل. في الماضي هزئوا بك. والآن يعطونك الاسم المجيد: مدينة يهوه. لا مدينة الفرعون أو نبوخذ نصَّر. مدينة الربّ. هو وحده ملكها وربُّها، ولا تعبد إلاَّه. والاسم الثاني "صيّون" أي تلك التي يصونها (يحميها) قدّوس إسرائيل. دعاها مز 87: 3: مدينة الله، مدينة الأخبار المجيدة.

الاسم القديم: متروكة، مهجورة، مبغضة، مكروهة. وأخيرًا: فارغة من السكّان، لا يعبر فيها أحد. أمّا الآن، فهي الجاه (ج ا و ن) الأبديّ، فهي سرور الأجيال (آ15). غنى الأمم والملوك يكون لها. هو فعل "ي ن ق" رضع الذي يتكرَّر. عندئذٍ تعرف أنَّ كلَّ هذا إنَّما هو عطيَّة من عند الربّ. "أ ن ي. ي هـ و ه" (أنا يهوه) مع ثلاثة ألقاب: المخلِّص، الولي (ج أ ل) والمفتدي، العزيز (أ ب ي ر) والجبّار. كلُّ شيء يتحوَّل. أخذوا منك النحاس، أردُّ لك الذهب. أخذوا منك الحديد أردُّ لك الفضَّة... ولا تكون الأبواب خشبًا بل نحاسًا. ولا تكون الأسوار حجارة بل حديدًا. ذاك ما كان عليه إرميا فاستطاع أن يواجه الملوك والرؤساء والكهنة والشعب كلُّه (إر 1: 18). والتحوُّل الكبير يكون على مستوى الأشخاص، مع تذكُّر عبوديَّة مصر وسبي بابل: كان على الشعب وكلاء يقسون عليهم. مضوا إلى غير رجعة. وكان ولاة يزجرونهم. الآن، تعيش المدينة في السلام والبرِّ، في الصدق والبركة بقيادة الربِّ راعي شعبه.

60: 18-22 لا ظلم ولا خراب

عاش الشعب في الظلم في بابل. وقبل ذلك في زمن الملوك الذين كانوا يسخِّرون الناس من أجل بناء القلاع والحصون. غاب الظلم. ترك المنفيّون مدينة خربة، فجاء أبناؤهم فما وجدوا خرابًا. كما تبدَّل اسم الوكلاء والولاة، كذلك تبدَّلت المدينة: الأسوار تسمّى "الخلاص". الأبواب تسمّى "التهليل" (ت هـ ل ه) أو: التسبيح. الشمس تشرق وتغيب. والقمر ينير وينخسف. وهكذا تخضع مدينة الله لتقلُّبات الليل والنهار. لهذا فهي تستغني عن الشمس والقمر (اللذين عُبدا في القديم). نور أورشليم هو الربّ. فهو لا يغيب ولا يختفي. ثمَّ جمال أورشليم وزينتها هو الله نفسه، لا الحجارة الكريمة فقط والفضَّة والذهب.

"بعدُ"، بعد الآن، لا عودة إلى الوراء. فمدينة الله تزهو يومًا وتذبل بعده. تُبنى اليوم وتُهدَم غدًا. امتلكت الآنية المقدَّسة في زمن سليمان، ثمَّ غابت هذه الآنية: صعود ونزول، تكريم وإهانة. فرح ونواح، نشيد وبكاء. كلُّ هذا مضى إلى غير رجعة. أورشليم هي شمس لا تغيب وقمر لا ينقص، لا يختفي. فالربُّ هو شمسها وقمرها وفرحها الدائم الأبديّ.

وأخيرًا، صار شعب أورشليم قلَّة قليلة فطلب منهم نحميا أن يقيموا في المدينة ويحموها. وهذا الشعب نسيَ أنَّه ظُلم فأخذ الكبير يظلم الصغير والغنيُّ الفقير. الآن، الله حاضر في مدينته وهو يبرِّر شعبه كلَّه، ويغرسه أغراسًا يفتخر بها. وأخيرًا، يتكاثرون وينمون بسرعة هائلة، ويكونون أمَّة عظيمة (ع ص و م). يا للعيد الذي لا ينتهي!

لأنَّ الله القدّوس يقيم فيها، المجيدة لأنَّها تجلّي مجد الله. وأخيرًا الواسعة وسع الكون لكي تستقبل لا أبناءها وبناتها فقط، بل الغرباء الآتين من كلِّ مكان، والملوك والأمم الذين قهروها. فنينوى تابت إلى الربّ، وبابل تتبعها، والجميع يأتون إلى مدينة الملك العظيم. كلُّهم يقولون: "نحن ذاهبون لاستعطاف الربِّ القدير والتماس وجهه، فتعالوا معنا" (زك 8: 21).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM