الفصل التاسع والخمسون:الاعتراف بالخطايا والوعد بالنداء

الفصل التاسع والخمسون

الاعتراف بالخطايا والوعد بالنداء

دعا الله شعبه إلى السعادة، ولكنَّ خيانات الشعب تقف عائقًا بين المؤمنين والربّ. لهذا ها هو يوبِّخهم ويلومهم، لأنَّهم يحسبون أنَّه عاجز عن تخليصهم. ولكن حين فهموا شرّ خطاياهم لجأوا إلى التوبة، واعترفوا بخطاياهم: كيف يجرؤون على القول إنَّ دينونة الربّ غائبة وعدالته تتأخَّر ولا تظهر. قالوا: "ابتعد الحقّ (القضاء العادل) عنّا" (آ9). وقالوا: "لبث الخلاص بعيدًا عنّا" (آ11). وقالوا: "العدل يقف بعيدًا" (آ14). هو لا يتحرَّك وكأنَّه سقط وما استعدَّ أن يقوم. تلك كانت عاطفة المؤمنين بعد العودة من المنفى. ذكَّرهم النبيّ بخطاياهم ووعدهم بأنَّ الله يتدخَّل فيفرح أصدقاؤه ويرتعب معادوه الذين يظلمون أبناءه وبناته.

وهكذا ينطلق الاتِّهام (59: 1-8) مع قطعتين. الأولى، آثامكم أنتم (آ1-3). هو كلام مباشر يتوجَّه إلى المؤمنين ويدعوهم إلى وعي حالهم قبل إلقاء المسؤوليَّة على الله. وفي القطعة الثانية (آ4-8)، يدلُّ الربُّ على الخاطئين بإصبعه: "أعمالهم أعمال إثم" (آ6). في آ9-15أ، يبدأ البكاء والاعتراف بالخطايا، في صيغة المتكلِّم الجمع: "ابتعد الحقّ عنّا" (آ9). والقسم الأخير (آ15ب-21) يتحدَّث عن تدخُّل الله من أجل مختاريه، فينقذهم من الذين يسيئون إليهم: هو يرى ويفعل. لا، يده ليست بقصيرة بل هي ممدودة، كما كان الأمر في عبور البحر والبرِّيَّة. لا، أذنه ليست بثقيلة، بل هي سمعت صراخ العبيد في مصر وأرسلت موسى لكي يخلِّصهم. فيد الربِّ لا تزال حاضرة، وأذنه سامعة. فيكفي أن نلجأ إليه ونصرخ كما أولئك التائهين في البرِّيَّة (مز 107: 4): "فصرخوا إلى الربِّ في ضيقهم، فأنقذهم من شدائدهم" (آ6).

59: 1-8 يد الربّ، أذنه

نفذ صبرُ أحبّاء الله وتردَّدوا بعض الشيء. قيل لهم: العودة من المنفى راحة وسعادة، ولكن لا شيء سوى مضايقات الذين لبثوا في الأرض وتجاوزات الغرباء. لم يروا شيئًا حتّى الآن، فاعتبروا أنَّ الله لا يقدر، أو هو لا يسمع ولا يريد أن يسمع بعد أن يئس من شعبه. المناخ هو هو في إشعيا الثالث. في 58: 3 قالوا إنَّ الله لا يرى. وهنا: إنَّ الله لا يسمع. أتراه صار شبيهًا بالأصنام؟ فردَّ النبيّ: العائق ليس الله، بل خطاياهم. قالوا: الربُّ باعنا. فأجيبوا: بل أنتم بعتم أنفسكم للشرّ (50: 1)، على مثال أخاب ملك إسرائيل (1 مل 18: 17ي).

قال لهم إرميا: أراد الربُّ أن يغمر أبناءه بعطاياه، فأغلقوا قلوبهم، ومالوا بهذه العطايا عن طريقها: "آثامكم عكست هذه، وخطاياكم منعت الخير عنكم" (إر 5: 25). وقالت النبوءة الإشعيائيَّة الشيء عينه: آثامكم فعلت، وضعت حاجزًا بينكم وبين إلهكم. نقرأ اسم الفاعل: فاصلة (م ب د ل ي م). هو عمل يدوم. كان في الماضي وما زال إلى الآن. فمتى تعودون عن شرِّكم؟ وتواصل الآية: ليس هو من ستر وجهه، بل خطاياكم، فضاع صوتكم فما عاد الربُّ يقدر أن يسمعه. أما كان هذا يحصل حين يُذبَح الأطفال؟ يصرخون لئلاَّ يسمع الله نداء البراءة. جاءت الخطايا بشكل حجاب أخفى وجه الربِّ فما عادوا يرونه، مع أنَّه لبث يراهم ويهتمُّ بأمورهم. كأنّي بهم لا يريدون أن يسمعهم الله بحسب المتطلِّبات التي يفرضها.

يرفعون أيديهم للصلاة. وهل هي أيدٍ نقيَّة لكي ينظر الله إليها؟ كلاّ. بل "تنجَّست بالدم"، وذلك ما قيل منذ بداية نبوءة إشعيا: "فحين تبسطون أيديكم أستر عينيّ عنكم، وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع لأنَّ أيديكم ملآنة دمًا" (1: 15). مع الأيدي تسير الأصابع، ومع الشفاه اللسان: هي معطاة لتعلن كلمة الحقّ، لترسل المديح إلى الله. في مز 1: 2 نقرأ عن المرتِّل الذي يلهج بشريعة الربّ (وكلامه) نهارًا وليلاً". أمّا هنا، فلسان المؤمن يلهج بالظلم ويتكلَّم الكذب. فهل يستعدُّ الله أن يسمع؟ وهل تتقبَّل أذناه اتِّهام الصدِّيق وسوقه إلى العدالة ولو بريئًا؟

وها هي الأمثلة مع انتقال من صيغة المخاطب إلى صيغة المفرد (آ4): غاب العدل والحقّ. نحن هنا أمام القضاء حيث القوَّة تلعب لعبتها، والرشوة والهدايا التي منعها الربّ: "الرشوة تعمي أبصار القضاة" (خر 23: 8). وماذا حلَّ محلّ العدالة؟ الخواء (ت هـ و، كما في البدايات) والفراغ (ش و ا) أو السوء بشكل عامّ. في الماضي حبلوا فولدوا الريح (26: 18). وحبلوا بالحشيش فولدوا التبن (33: 11)، واليوم يحبلون ويتعبون ليلدوا الإثم. يا لها من ثمرة! من الحيَّة يخرج الأفعوان وثمرة الأفعوان الثعبان (14: 29).

ذاك ما نقرأ هنا في آ5. بما أنَّهم أشرار فهم لا يلدون سوى الشرّ، وبيض الحيَّة يكون حيَّة تحمل السمّ، وهنا يكمن الخطر. وفي أقصى الحالات، ما يصنعون يشبه خيط العنكبوت الذي لا يغطّي العريان. فهو غير ثابت وتنفخه الريح. هي الصور تتكدَّس لتدلَّ على نوعيَّة هؤلاء الأشخاص. لهذا نراهم يركضون نحو الشرِّ وسفك الدماء، وكلُّ هذا يترافق مع الأفكار الشرّيرة التي تدبِّر في الليل ما تنفِّذه في النهار.

ما الذي يطلبه الإنسان؟ السلام. أمّا هم فلا يعرفون طريق السلام (آ8) بل "الشدَّة والكسر"، الخراب والقتل. فلو ساروا في طريق السلام لالتقوا بالحقِّ والعدل. ولكنَّهم يرسمون طريقهم بأيديهم. طريق معوجَّة لا يمكن أن تصل بالإنسان إلى السلام. يُذكر السلام مرَّة ثانية ويترافق مع القضاء العادل، ومع البرِّ والصدق. بسبب هؤلاء الأشرار، لا تصل هذه الخيرات إلى المؤمنين.

59: 9-15أ ابتعد الحقّ والعدل

ويبتدئ "البكاء" والاعتراف بالخطايا مع "م ش ف ط" الذي يعني القضاء والدينونة. قرأنا هذا الموضوع في آ4 (ن ش ف ط، اسم مفعول: مُحاكَم، مدان) وفي آ8 فترافق مع "مسار" حيث نفهم أنَّ الناس يتهرَّبون من القضاء العادل. فلا يبقى لهم سوى دينونة الله. تأوَّهوا: الدينونة بعيدة عنّا. ثمَّ: العدل لم يدركنا، لم يصل إلينا (آ10). فماذا ينتظر الربُّ لكي يفعل؟ اعتبر المنفيّون أنَّ الحقَّ صار قريبًا (51: 4-5) ومعه الخلاص. ولكن لمّا وصلوا إلى الأرض خابت آمالهم، فطلبوا وطلبوا.

اعتبروا أنَّهم سائرون نحو النور، فإذا هم في الظلام. تأمَّلنا السعادة فإذا هو الشقاء والمحنة التي لا تنتهي. بدا المؤمنون مثل عميان (آ11) مع فعل جسَّ (ج ش ش)، تلمَّس، الذي يتكرَّر. وأوضح النصّ: بلا عينين. فلا فرق إن سرنا في الليل أو في النهار. فالعتمة في كلِّ وقت وفي كلِّ مكان. لا وجود بعدُ للنور والنهار. هذا ما يعارض كلِّيًا أورشليم التي افتداها الربُّ فهتف لها الربّ: "قومي استنيري، لأنَّه قد جاء نورك، ومجدُ الربِّ أشرق عليك" (60: 1). الظلمة في كلِّ مكان، وأمّا على أورشليم فالنور. أمّا هنا، فالظلمة غطَّت أيضًا المدينة المقدَّسة بسبب شرِّ القائمين عليها. قال فيهم إشعيا: "جعلوا النور ظلامًا" (5: 20).

وتأتي صور أخرى: الغسق (ج ش ف) أو ظلمة أوَّل الليل. كان هناك نهار وانتهى. كانت مسيرة المنفيّين في النور، وانتهت في الظلمة حين وصلوا إلى أرض الموعد. نلاحظ هنا مناخ الخيبة. هل نعجب إن عثرنا؟ وصورة ثانية: نحن في العافية ونبدو كالموتى. لهذا كان البكاء والتأوُّه مع صورة الدبّ الذي "يهمهم" (ن هـ م ه) والحمامة التي "تلهج"، تردِّد الصوت الواحد.

ونعود في آ11ب إلى ما قرأناه في آ9أ: الدينونة والبرّ، الدينونة والخلاص. كلُّ هذا صار بعيدًا عنّا، مع أنَّنا حسبناه قريبًا. ولمّاذا يتأخَّر الخلاص الذي انتظرناه وانتظرناه؟ بسببنا لا بسبب الله: التعدِّيات (أو المعاصي)، الخطايا، التعدِّيات، الذنوب (أو: الآثام). وعى المؤمنون حالهم التعيسة وما أخفوا معاصيهم: هي أمامنا، نعرفها (آ12). ويتواصل الاعتراف بالخطايا في آ13: التعدّي، الكذب، ممّا يعني التمرُّد على الله والتنكُّر له. نعده ولا نفي بما وعدنا. ثمَّ الارتداد والانحراف والشهادة بالزور. ونعود إلى الردَّة التي تتكرَّر: ارتدَّ الحقُّ والعدلُ وقف بعيدًا (آ14أ). لا مكان للصدق بل هو زال من الجماعة. مُنعت الاستقامة من الدخول فلبثتْ خارج المدينة.

59: 15ب-21 فرأى الربُّ واستاء

"رأى" الله هذا الوضع التعيس، وما اكتفى بالحكم بل استعدَّ للعقاب. استاء ممّا رأى فانطلق إلى "الحرب" على الشرّ والجور والظلم. أين الرجال؟ هم غائبون. أما من أحد يذهب لملاقاة (م ف ج ي ع) هؤلاء المساكين؟ إذًا، الربُّ نفسه يذهب. ذُكرت ذراعه التي ترمز إلى القدرة. ثمَّ "برُّه". اعتبروا أنَّ "برَّ الله" صار مخدَّرًا! كم أخطأوا. فهو حاضر ويأتي إليه طالبو العدل.

في آ17 يُذكر سلاح الربّ: الدرع، الخوذة. هذه تحمي رأسه، وتلك تغطّي بدنه. مضى للانتقام وإحقاق العدالة. غار غيرة من أجل خلاص المؤمنين. في هذه "الحرب" يُجازى كلُّ واحد بحسب أعماله. معادو الله (أعداؤه) ينتظرهم الغضب والعقاب. ولا تنحصر الدينونة في أرض محدَّدة، بل تصل إلى الجزر البعيدة، إلى أقطار الأرض الأربعة فلا يفلت أحد.

أعداء الله ليسوا فقط في الداخل، بل هم في الخارج. الأمم، ملوك الأرض. الجميع "يخافونه" من المغرب إلى المشرق. أمّا سلاحه فالمياه (سواء في الطوفان، أو في عبور بحر سوف) التي تحرِّكها الريح الآتية من عند الربّ. هو يأتي لدينونة الأمم، ولكنَّه يأتي ليفتدي صهيون، مدينته المصونة، شرط أن يتوب أبناؤها عن شرِّهم. وفي أيِّ حال، يأتي الربُّ ليقتلع الشرَّ من بيت يعقوب، كما تقول اليونانيَّة. وهكذا يدخلون من جديد في العهد الذي خانوه مرارًا وتكرارًا.

لهذا جعلت آ21 في نهاية ف 59 لتعلن العهد الذي هو من القديم ويتجدَّد اليوم: فالروح وكلام الله لا يبتعدان أبدًا عن بني إسرائيل، الآن وفيما بعد. فيمرُّ من نسل (أو: زرع) إلى نسل ويمتدّ إلى الأبد. وهكذا في مرحلة أولى لن يبقى أحد من بيت يعقوب في الخارج. ونحن ننتظر العهد الجديد لكي يُدعى الجميع إلى وليمة العرس بحيث لا تبقى مقاعد فارغة (لو 4: 22).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM