الفصل الثامن والخمسون: الصوم الحقيقيّ

الفصل الثامن والخمسون

الصوم الحقيقيّ

في أحد الاجتماعات الليتورجيَّة، سمع النبيّ صوت الله يدعوه إلى الكلام: "نادِ بصوت عالٍ، بملء حنجرتك (ج ر و ن). هناك انحرافات دينيَّة وخلقيَّة عند أناس يقومون بممارسات طقوسيَّة (مثل الصوم) دقيقة وينتظرون مقابل ذلك البركات الإلهيَّة. وإذ يرون أنَّ هذه البركات تأخَّرت، يشتكون إلى الله الذي يردُّ عليهم بأن لا قيمة لهذه الممارسات، لأنَّها لا تترافق مع العدالة والمحبَّة الأخويَّة. ودلَّهم النبيّ كيف يكون الصوم الحقيقيّ الذي يجعلنا ننعم بحضور الله.

58: 1-5 صوم لا يريده الربّ

في البداية، يُفهم النبيّ الشعب أنَّ الصوم الذي يقومون به، ليس الصوم الذي يريده الربّ. ربَّما كان الشعب يقوم بصوم خاصٍّ بمناسبة الوباء أو انقطاع المطر... دعا الربُّ نبيَّه: ناد (ق ر ا)، لا تمتنع (ح س ك)، ارفع صوتك، أخبر. أربعة أفعال. والنداء لا  يكون بصوت منخفض، وكأنَّ النبيّ يخاف أن يوصل الحقيقة إلى المؤمنين. ذكرت "الحنجرة"، ثمَّ "البوق". فالتنبيه خطير فالشعب يعتبر نفسه بارًّا لأنَّه يقوم ببعض الممارسات التي بها يحاول أن يغطّي "معصيته" أو تقوّيه على الوصايا، وخطاياه.

ويبدأ الله كلامه: لا شكَّ يأتون إليَّ. يطلبونني، بمعنى يأتون ويسألون ماذا يجب أن يعملوا. بل يسرّون أن يعرفوا طرقي. يشبهون ذاك الشابّ الغنيّ الذي جاء يسأل يسوع حول الحياة الأبديَّة. ولما طلب منه أن يبيع ما له ويعطيه للفقراء (مر 10: 21) مضى حزينًا. أمّا معاصرو النبيّ فيسألون ويبدون كأنَّهم لا يريدون أن يسمعوا متطلِّبات الله.

يعلنون أنَّهم عملوا "البرّ" ومارسوا العدل (56: 1). ومقابل هذا "يفرضون" على الله أن يكون بارًّا معهم، عادلاً، فيتدخَّل من أجلهم. يريدون الله قريبًا منهم ولهذا يأتون إلى الهيكل أو إلى المجمع. ويعود فعل "يسرّون"، كأنَّ المهم أن نسرُّ نفوسنا بدلاً من أن نسرّ الله.

أورد النبيّ كلامهم، وها هم يتكلَّمون: نحن "صمنا"، نحن "ذللنا أنفسنا". وماذا كانت النتيجة؟ بدا الله غائبًا. أو هو ما أراد أن ينظر ماذا نعمل لأجله. لصقنا أوجهنا بالأرض، لبسنا المسح، والله ما عرف (ي د ع) ذلك ولا لاحظ. كالطفل الذي يريد أن تراه أمّه ماذا يفعل. ولكنَّها لا تهتمّ له!

ولماذا لا يهتمُّ الربَّ؟ لأنَّه غير مسرور، غير راضٍ. وها هو يجيبهم: لا تطلبون مسرَّة الله، بل مسرَّتكم أنتم من أجل الربح السريع: تسخِّرون "الكادحين" الذين يعملون عندكم. أوَّل خطيئة هي الظلم. والخطيئة الثانية هي العنف في الخصومة والخلافات. كأنَّكم تصومون لكي تنالوا الغلبة على الخصم. إذ تحسبون أنَّكم تكرِّمون الله، تسيئون معاملة القريب المخلوق على صورة الله.

ويصوِّر النبيّ الوجه الخارجيّ للصوم: "يُذلِّل نفسه". أمام من؟ أمام نفسه. يا ليته تواضع أمام أخيه (أو: أخته) وقبِلَ أن يكون الآخر لا الأوَّل. "يُحني رأسه". يا ليته يركع مثل يسوع عند أقدام الفقراء ويكون عادلاً معهم، لا أن يجعلهم يركعون أمامه ويتذلَّلون طالبين لقمة العيش. "يفترش المسح". ماذا يعني هذا حين يأخذ رهنًا ثوب الفقير الذي ينام فيه، فيجبره أن يفترش الأرض، مع أنَّ الربَّ قال: "ردَّ إليه الرهن عند غروب الشمس، لكي ينام في ثوبه" (تث 24: 13).

58: 6-12 الصوم الذي يريده الربّ

رفض الربُّ صومًا "اختاره" (ب ح ر) الإنسان لنفسه وعلى قياسه. ونستطيع أن نقول القول عينه بالنسبة إلى سائر الممارسات. هذا ما يُدعى "هرطقة": نختار نحن ما نريد ونترك الباقي الذي لا يسرُّنا ولا يتوافق مع أفكارنا.

وأعلن الربُّ الصوم الذي "يختار"، الذي يسرُّه، الذي يرضى به (ر ص و ن، آ5): إبعاد الظلم وممارسة الرحمة. ما رفض الله الصوم كصوم، ولكن رفض الصوم الذي يغطّي إهمالاً لا يرضى عنه الربّ. فالفرّيسيّ الذي أعلن أنَّه يصوم، احتقر أخاه العشّار ودانه الدينونة القاسية (لو 18: 9ي). لهذا كانت النتيجة: خرج العشّار مبرَّرًا، لا الفرّيسيّ.

في آ6، نقرأ أربعة أفعال بها يتوب الإنسان عن خطاياه: "حلَّ" قيود الشرّ. من ربط هذه القيود. من كبَّل الإنسان ووضعه في السجن لأنَّه فقير لم يستطع أن يدفع ديونه. حرفيًّا: فتح (ف ت ح). كأنّي به أغلق أمامه سبل العيش. الفعل الثاني، "فكّ". ونلاحظ الاسم: النير. هو يوضع على البقرة وقت الفلاحة. وهو رمز العبوديَّة، مع أنَّ الله أمر بتحرير العبيد في السنة السابعة. والفعل الثالث، أطلق. يعيد القويّ إلى المسحوق حرِّيَّته. ويعود النير مرَّة ثانية مع فعل "قطع". هكذا يدلُّ المؤمن أنَّه تائب ويعبِّر عن توبته بالصوم. فهناك تعبير آخر أكثر عمقًا.

بمثل هذه الأعمال يُدمَّر الظلم والجور. فيبقى أن نعمل "البرّ"، أي ما يريده الله في إطار المحبَّة الأخويَّة (آ7): أربعة أعمال تلخِّص كلّ أعمال "الرحمة": الخبز للجائع، البيت للتائه، الكساء للعريان، الاهتمام بالقريب في ضيقه. مثل هذه الأعمال استعادها يسوع وأضاف عليها، ولكنَّه تركها مفتوحة لأنَّ عمل الخير للقريب لا حدود له. والمحبَّة تخترع كلَّ يوم جديدًا.

عندئذٍ يتبدَّل كلَّ شيء: هو انتقال من العتمة إلى النور، ومن الليل إلى الفجر والسحر. ويعود النبيّ ويكرز في آ10 ما قاله في آ8 في مقابلة بين الظلمة والنور، بين الديجور والعتمة القاسية وبين الظهيرة ساعة تكون الشمس في قبَّة السماء.

حسب الشعب نفسه معافى، فإذا هو مريض. أمّا الآن فهو في الصحَّة. اعتبر نفسه بارًّا، فلم يكن. أمّا الآن "فالبرّ يسير أمامك" والمجد وراءك. هكذا يكون المؤمن محاطًا ببركة الربّ، كما كان الوضع معه حين عاد من المنفى: أمامه يمشي الرب ووراءه إله إسرائيل. فالشرّ لا يلاقيه والخطر لا يلاحقه. عندئذٍ لن يعود من مجال للتشكّي. يدعو المؤمن فيجيبه حالاً. يراه في ضيقه، يسمعه حين يستغيث: هـ ن ن ي: ها أنا، ها أنا هنا وأستعدُّ أن أساعد.

ويعود النبيّ إلى وصيَّة المحبَّة والرحمة: ثلاث خطايا يبتعد عنها عملان يقوم بهما: الظلم أيضًا وأيضًا مع "النير"، اتِّهام القريب في المحكمة والدلالة عليه بالإصبع، كلام السوء وقد يكون شهادة زور، وهكذا تسقط الضحيَّة أرضًا إن لم تُرسَل إلى الموت. وبدل هذه الأعمال الدنيئة، الاهتمام بالجائع وإعطاؤه اللقمة التي في فمك، تعزية الذليل ومساندته في الضيق: فهذا الذي ذُلَّ في المنفى، وأراد أن يذلِّل نفسه بالصوم، ألا يعرف أن يلتفت إلى أصحاب العناء (ن ع ن ه) والضيق؟ خلال صومه كان في العتمة، لأنَّ الصوم لا يعني فقط أن نحرم نفوسنا من بعض الطعام، بل أن نطعم الجائع. نشارك المسكين، لأنَّ ما يُعطى لنا إن لم نشارك فيه الآخرين، يصبح لدينونتنا وهلاكنا. أما هذا الذي حصل للغنيّ في مثل لعازر والغنيّ؟ (لو 16: 19ي). وحين يجتمع الامتناع عن الأكل والعطاء للجائع، نكون في النور.

عندئذٍ يأتيك الجزاء من الله، الذي يرى ويعرف ولا ينتظر منك أن تقول له ماذا فعلت. أنت لا تضلّ، لأنَّ الربَّ يقودك، ولو كنتَ في البرِّيَّة القفر. لن تعرف العطش في "الصحو" حيث لا مطر ولا ندى. وإن أحسست بالضعف والقرب من الموت، تحسُّ بالنشاط لأنَّه يحييك من جديد. والصورة التي تتكرَّر: الجنَّة الريّا ونبع المياه (آ11). وحين يقوم الإنسان من الصعوبات، يستطيع أن يقيم الخرائب ويُعيد عمل البناء. فنحن نعرف كيف كانت أورشليم والهيكل حين عاد المنفيّون سنة 538 ق.م. وما بعد. وما يقال للفرد يقال للشعب كلِّه، الذي لا يبكي حين يرى ما يرى، بل يشمِّر عن ساعده ويبدأ بالعمل. هناك "ثغرة" في الأسوار، تُصلَح. والمعنى الأرفع، ثغرة في القلوب، إحباط ويأس. "والمسالك" أو "شوارع المدينة". هي مملوءة بالحجارة والأتربة. فكيف السير في قلب المدينة؟ هكذا تكون الجماعة التي يريد الله أن يكوِّنها بعد محنة المنفى: الاهتمام بالقريب، بناء المدينة بحيث تصبح أهلاً للسكن.

58: 13-14 وصيَّة السبت

كان بالإمكان أن ينتهي ف 58 على مواعيد السعادة هذه مع صوم حقيقيّ يرضى عنه الله، ولكن كانت قراءة لاحقة فأعادتنا إلى ممارسة أخرى هي إكرام السبت. جاء كلام عن السبت في 56: 1-8 ودعوة الغريب والخصيّ للمشاركة فيه. وسنعود إلى هذا الموضوع في 66: 23 (رأس الشهر والسبت) كتذكير بواجبات المؤمن تجاه الله. ففي الشتات تضيع هويَّة المؤمن. لهذا يكون الاحتماع الأسبوعيّ مهمًّا جدًّا. يستند الإنسان إلى أخيه، يسمع كلام الله، يصلّي مع الآخرين، يشعر بالتضامن. هذا الواجب شدَّدت عليه الرسالة إلى العبرانيّين ونبَّهت: "لا تنقطعوا عن الاجتماع كما اعتاد بعضكم أن يفعل، بل شجَّعوا بعضكم بعضًا" (عب 10: 25).

يمتنع المؤمن أوَّلاً عن "المشي" يوم السبت. هناك شريعة مادِّيَّة تمنع المؤمن أن تصل خطواته إلى ألفين. وأهمّ من ذلك أن تقود الخطى إلى الشرّ أو إلى تجارة فيها الكذب والاحتيال. ويمتنع المؤمن ثانيًا عن العمل في الحقل وغيره وعن المجادلات التافهة التي تقود مرارًا إلى الخلاف. مقابل هذا، يعتبر الإنسان السبت يومًا مجيدًا، مكرَّمًا، يلتذّ بأن يراه يأتي، فيفرح فيه وسط الجماعة، وينتظره انتظار العريس لعروسه. عندئذٍ ينال الفرح الحقيقيّ من الربّ الذي يكرِّمه إكرامًا. هنا نقرأ فعل "ركب". أما هكذا أركب الفرعون يوسف وطلب أن ينادوا أمامه بالركوع لأنَّه تسلَّم كلَّ شيء في مصر؟ (تك 41: 43). والملك داود أركب سليمان على بغلته ودعا الشعب ليهتفوا: ليحيَ الملك سليمان (1 مل 1: 33-34). وهكذا يكرَّم حافظو السبت. من أين يأتي الشعب؟ من أرض الذلّ والمنفى. فيصل إلى الجبل المقدَّس، إلى أورشليم. أُبعد عن الميراث وها هو يعود. قال الربّ وفعل، وها هم المشتَّتون يقيمون في أورشليم ويستعدّون لبناء الهيكل. فيبقى عليهم أن يكونوا جماعة الله في ممارسة الحقّ والعدل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM