الفصل السابع والخمسون: العائدون من المنفى في مواجهة الأصنام

الفصل السابع والخمسون

العائدون من المنفى في مواجهة الأصنام

عاد المنفيّون إلى الأرض بعد أن تنقَّوا في المحنة، فماذا وجدوا في أرض الربّ؟ أناسًا يعتبرون نفوسهم أبرارًا لأنَّهم لبثوا في أورشليم ويهوذا وما راحوا مع المسبيّين. ووجدوا أيضًا الأصنام وعبّادها في كلِّ مكان. أتراها تستطيع أن تفعل شيئًا في هذا الضيق؟ مستحيل. ومع ذلك يتعلَّقون بها لأنَّهم يرونها ويلمسونها ويقبِّلونها طالبين بركتها. في هذا الإطار جاء كلام التشجيع.

57: 1-2 بادَ الصدّيق

جاءت آ1-2 في امتداد الفصل السابق. "الوحوش" أو الرجال الأشرار يظلمون. من؟ أوَّلاً، الصدّيق (ص د ي ق). هو الإنسان الصادق في تعامله، والبارّ البريء الذي لا ينتبه إلى الحيلة التي تُحاك حوله. ثانيًا، الرجل اللطيف (ح س د)، الذي يرفض أن يردَّ على العنف بالعنف، وعلى الشرِّ بالشرّ، بل على الشرِّ بالخير. ونقرأ فعلين. الأوَّل، باد (ا ب د)، هلك. أزيل من الوجود. وإذا غاب الصدّيقون من المدينة، فمن يتشفَّع لها؟ لو وجد إبراهيم عشرة صدِّيقين، لما هلكت سدوم. والفعل الثاني، أزيل (أ س ف). كان عقبة في وجه الأقوياء. هكذا مثلاً أزيل نابوت من وجه أخاب الذي احتاج إلى كرمه ليوسِّع ساحات قصره. فالشرّ (ر ع ه) لا يقبل بوجود الصدّيق. لهذا يقول مز 11: 3: "إذا انهدمت جميع الأسس، ماذا يعمل الصدّيق؟" وأين الرعاة؟ لا يهتمّون بالقطيع. العبارة الأولى: وضع على قلبه. اهتمَّ، انشغل. قلب الراعي ليس هنا، لأنَّه حيث يكون الكنز هناك يكون القلب. إذا اهتممنا للربح هناك يكون قلبنا. وإذا اهتممنا للشرّ، للخطف، للسلب... والعبارة الثانية، تبيَّن، فطن، تميَّز.

ولكن إذا كان البشر لا يهتمّون بالصدّيقين وأهل اللطف (او: الإحسان)، فالله يهتمُّ بهم. يمنحهم "السلام" وملء البركة، يمنحهم الراحة بعد كلِّ هذا التعب. وما نلاحظ هو أنَّه مهما أصابهم من ظلم، لبثوا سالكين بالاستقامة. لم يكن اعوجاج في حياتهم. لذا ينشدون: "افرحوا بالربِّ أيُّها الصدّيقون، ورنِّموا يا جميع مستقيمي القلوب" (مز 32: 11). ويقال لهم: "رنِّموا للربِّ أيُّها الصدّيقون، فالتهليل يليق بأهل الاستقامة (مز 33: 1).

57: 3-13 أمّا أنتم

هو تعارض تامّ. في آ3 هم "بنو الساحرة". هو أمر محرَّم يقول فيه سفر الخروج: "لا يجوز لساحرة أن تحيا" (22: 17). ثمَّ "نسل الفسق والزنى". أي الخيانة لله في ممارسات إصناميَّة. لا نحتاج إلى قدرة الله، فنلجأ إلى وسائل تعارض وصاياه. مثل هؤلاء وجب عليهم أن يستحوا من نفوسهم. فإذا هم يهزأون، يفغرون أفواههم، يمدّون لسانهم، لأنَّهم يحسبون نفوسهم أفضل من الآخرين: من الصدّيق، من اللطيف، من النبيّ (يرفضون أن يسمعوه)، من العائدين من المنفى والمتشكِّكين من هؤلاء الذين لم يفهموا بعد أنَّ ذهاب أورشليم إلى المنفى عائد إلى مثل هذه الخطايا. وفي النهاية، هم "يسخرون" من الله (37: 23، على مثال سنحاريب الأشوريّ). في آ4، هم "أولاد المعصية والتعدّي"، "نسل الكذب". انتظر الربُّ من هذا الشعب الذي أراده "جديدًا"، الطاعةَ البنويَّة، فإذا هم عصاة. انتظر موقف الصدق الأمانة، فإذا الكذب مزروعٌ في أرض الربّ. وتكون الثمار الكذب.

أين نرى هؤلاء "الأشرار"؟ هم "مولعون" (هـ ن ح م ي م) بالآلهة، بأشجار البطم (ا ي ل ي م) بكلِّ شجرة خضراء. هناك كانت تتمُّ عبادة الأصنام. وهناك انحراف آخر: ذبح الأطفال في وادي بن هنّوم إلى الجنوب الغربيّ من أورشليم. وهناك أيضًا عبادة حجارة منتصبة إكرامًا للإله الذكر (آ6)، له تسكب سكائب الخمر (2 مل 17: 10-11: أوتاد مكرَّسة).

في آ7، هي المرتفعات المختصَّة للبعل مع البغاء المكرَّس، الذي يمثِّل اتِّحاد السماء بالأرض طلبًا للمطر. لهذا ذُكر "المضجع" هنا، وسيذكر في آ8 مع "اليد" (ي د) التي تدلُّ على الموضع الذي تتمُّ فيه طقوس العربدة.

في آ9، هو "م ل ك" أو "مولك" (لا 18: 21) الذي يُعطى له النسلُ محرقة تطيب رائحتها للوثن. إلى هذا "الإله" كانوا يقدِّمون الزيت والعطور. هل تعبت يدُ المدينة المقدَّسة من هذه الذبائح؟ نعم. ولكنَّها ما يئست (آ10). فهي تحاول وتحاول وتجد قوَّة جديدة من أجل القتل.

كلُّ هذا يدلُّ أنَّها لا تخاف أحدًا، ولا الربّ. فهي لا تزال كذّابة (ت ك ز ب ي). ويأتي فعلان: ذكر. نسيت أورشليم الربَّ كلِّيًّا. ثمَّ، هي ما اهتمَّت لما يمكن أن يقول لها بواسطة أنبيائه، كما بواسطة الأحداث. "قلبها" بعيد عن الربّ، نحو "عشّاقها" كما قال هوشع، نحو الآلهة التي تجد لديها ما يرضي نزواتها وشهواتها. واستفادت من سكوت الربّ: هو لا يقول شيئًا. أهو لا يرى؟ أهو لا يعرف؟ أهو لا يهتمُّ لأنَّه مشغول بأمور أخرى؟ في أيِّ حال، لا تسمع صوته من زمان بعيد (42: 14). فلماذا تسمعه اليوم؟ ولماذا الخوف؟ (آ11).

هي ضالَّة وتعتبر نفسها "بارَّة"، صادقة. هي قامت بأعمال عديدة، ولكن ماذا نفعتها هذه الأعمال؟ (آ12). وهنا نتذكَّر مشهد جبل الكرمل حيث إيليّا النبيّ يقف تجاه كهنة البعل. صرخوا إلى هذا "الإله"، هشَّموا أجسادهم بالسيوف والرماح حتّى سالت دماؤهم (1مل 18: 28)، فما استفادوا شيئًا. أمّا إيليّا فاكتفى بالقول: "استجب لي يا ربّ، استجب لي" (آ37). فاستجاب له الربّ" ونزلت نار الربِّ والتهمت المحرقة" (آ38). وما عتَّم أن نزل المطر (آ45). ذاك هو وضع أورشليم: عابدو الأصنام يصرخون، ولا من ينقذهم. هذه الأصنام "جمعوها" (ق ب ص) من هنا وهناك، لتقف في وجه الذين جمعهم الربُّ من كلِّ مكان (56: 8). فلا نفع منها سواء كانت كثيرة أم قليلة. وفي أيِّ حال، سوف تزول فتأخذها الريح. أمّا الربُّ فهو وحده من يمنح الملتجئين إليه أن يعيشوا ثابتين في أرض الموعد ويرثوا الجبل المقدَّس حيث يقوم الهيكل، هذا يعني زوال المنافقين عقابًا لهم.

57: 14-21 مهِّدوا، مهِّدوا

الحمد لله أنَّنا نجد في المدينة عددًا من المؤمنين الذين يواصل الربُّ معهم مخطَّطه ويعيد بناء شعبه. وهذا الشعب الذي كان خاطئًا ونال الغفران، ها هو يشجَّع وينال مواعيد سعادة، كتلك التي عرفناها في إشعيا الثاني.

"مهِّدوا" (آ14) في العبريَّة: س ل و (40: 3، 6). ثمَّ "وجِّهوا" (ف ن و). أي أعطوا وجهًا للطريق لكي تصبح سالكة. في 40: 3، أُعدَّت الطريق للربِّ العائد من المنفى على رأس شعبه: هنا تُعدّ الطريق للشعب الآتي من الشتات ليلتقي بالله في أورشليم. يجب أن لا يبقى عائقٌ في طريق شعب الله.

هذا الإله هو الرفيع جدًّا والقدّوس (آ15). ومع ذلك فهو لا يبتعد عن شعبه، بل يهتمُّ به لأنَّه "منسحق، متواضع، ملتصق بالأرض. لماذا يسكن معه؟ ليمنحه الحياة. يتردَّد فعل "أحيا" مع قلب ومع روح. نقرأ مثلاً مز 138: 6: "الربُّ عالٍ وينظر إلى المتواضعين".

اعتبر الله ذاك الذي "يخاصم" وذاك الذي "يسخط" أو يغضب. وينتج عن ذلك الموت (48: 9). ولماذا؟ لأنَّ الشعب خاطئ. ولكنَّ الله لا يريد موت الخاطئ، بل أن يعود عن ضلاله ويحيا. هل يستحقُّ الشعب مثل هذا الاهتمام؟ كلاّ، فهو خاطئ ويظلُّ خاطئًا. ولكنَّ الربَّ هو الرحيم والقدير، ويعرف عطوبة البشر: هم روح وريح. هم نسمة تمضي ولا تعود.

في مرحلة أولى، "غضب" الله، ضرب ابنه. سترَ وجهه وكأنَّه لا يريد أن يراه "مجروحًا". ومع "الضربة" لبث هذا الابن "عاصيًا"، رافضًا العودة. ما أخذ طريق الربّ، بل طريق قلبه العنيد. رآه الربُّ ماضيًا، كما رأى الأب ابنه الأصغر ماضيًا إلى البعيد (لو 15: 13). رأى الربُّ طريق أبنائه وإلى أين تقودهم، فتركهم ليعرفوا الهاوية التي يسقطون فيها لكي يقوموا منها ويعودوا إلى البيت الوالديّ.

في مرحلة ثانية، ترك الربُّ غضبه وأعمل رحمته وحنانه: أشفيه (من جرحه)، أقوده (في طريق غير الطريق التي سار فيها)، أعزِّيه (بعد أن سيطر عليه الحزن والكآبة، وكاد يمضي إلى اليأس). قد يكون ناح على أهلٍ فقدَهم، وبكى على بيت وجده مدمَّرًا وأرض وُضعت اليدُ عليها. كان الفم مغلقًا، رافضًا الكلام. وها هو ينفتح فينطلق المديح ملء الأفواه. فالسلام وصل إلى المقيمين في أرض الربّ، كما وصل إلى العائشين في الشتات. جميعهم سوف يأتون "يصعدون إلى جبل الربّ، إلى بيت إله يعقوب، فيعلِّمنا أن نسلك طرقه" (2: 3).

هذا ما يكون للأبرار الذين يلجأون إلى الربِّ. أمّا الأشرار فلا سلام لهم (آ21)، لأنَّهم يعاندون ويرفضون طريق الله. لا ثبات لهم ولا هدوء فيكونون مثل البحر المضطرب الذي يترك وراءه "الحمأة والطين" (آ20).

مهما كان الوضع في الأرض المقدَّسة بعد عودة المنفيّين وامتزاجهم بالذين لم يبارحوا الأرض، فالله يبقى هو هو. هو السامي، الرفيع، القدّوس. ومع ذلك هو القريب من البشر والساكن معهم، هو يصبر ويصبر، ويستعدُّ في كلِّ وقت ليشفي الجروح ويعيد "المائتين" إلى الحياة. طلب لدى المؤمنين العزاء فما وجد. ومع ذلك دعاهم ويدعوهم دومًا لكي يجدوا لديه العزاء الذي لا ينضب. فيسمعون كلام المرتِّل: "ألقِ على الربِّ همَّك، وهو يعولك، يعزِّيك، ولا يدع الصدِّيق يضطرب إلى الأبد" (مز 55: 23).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM