الفصل السادس والخمسون: خلاص الربِّ لجميع الشعوب

الفصل السادس والخمسون

خلاص الربِّ لجميع الشعوب

ها قد عاد الشعب من المنفى البابليّ، وما عاد وحده، بل عادت كلُّ الشعوب المقهورة التي سيطر عليها البابليّون منذ عشرات السنين. إذًا، لا يرتبط خلاص الربِّ بشعب من الشعوب، بل هو يقدَّم لجميع الشعوب. لم يعد من وجود لحدود مادِّيَّة حول أورشليم أو حول أرض يهوذا. صارت الأرض المقدَّسة مفتوحة لجميع شعوب الأرض، بحيث لا تُستبعَد فئة من الفئات ولا فردٌ من الأفراد. فمن أراد أن يعيش في السلام والعدالة يجد موضعًا له في مدينة الله. طرح الغرباء والخصيان سؤالاً: هل يحقُّ لهم أن يدخلوا في شعب الله، وأيَّ دور يمكن أن يلعبوا وهم الذين يُحسَبون أنجاسًا؟ وجاء الجواب: الهيكل بيت صلاة لجميع الشعوب[RK1] . كلُّ إنسان يحقُّ له أن ينتمي إلى الإيمان بالإله الحقيقيّ وأن يدخل في العهد شرط أن يحفظ الأحكام الدينيَّة والخلقيَّة. ذاك ما نقرأ في 56: 1-8. وفي آ9-12 يعرف الأشرار وعابدو الأصنام أنَّهم خارج الهيكل، لا لأنَّ الربَّ طردهم، بل لأنَّهم رفضوا الدخول إلى وليمة العرس، ففضَّلوا الظلمة على النور لأنَّ أعمالهم كانت سيِّئة (يو 3: 19).

56: 1-8 الخلاص لحافظي الحقّ

قرب خلاصُ الله، وتجلّى برُّه. فلا نشكُّ بعد اليوم بتدخُّل الله من أجل الخير. بل بدأ الخلاص ورافقته البركات. ولكن يجب أن تنفتح القلوب لتقبُّل عطايا الربِّ. جاء أمران من عند الله. الأوَّل، حفظ الحقّ أو القضاء (م ش ف ط) العادل والمستقيم. الثاني، ممارسة البرارة والأعمال الصالحة. وترد وصيَّتان: حفظ السبت والاحتفاظ من كلِّ عمل شرّ. كانت شريعة السبت قديمة. تحدَّث عنها سفر الخروج: "في ستّة أيّام تعمل عملك، وفي اليوم السابع تستريح، يستريح ثورُك وحمارُك ويتنفَّس الصعداء عبدك والغريب الذي يعمل عندك" (خر 23: 12). وجاء كلام الأنبياء صدى لهذه الوصيَّة (هو 2: 13؛ عا 8: 5). ولكن سيكون التشديد كبيرًا في حقبة المنفى وما بعد المنفى، وإلاَّ يضيع المؤمنون وسط محيط واسع من الوثنيّين. "لا تحملوا حملاً في يوم السبت وتدخلوا به أبواب أورشليم. لا تخرجوا بحمل من بيوتكم في يوم السبت، ولا تعملوا عملاً، بل قدِّسوا يوم السبت كما أمرتُ آباءكم" (إر 17: 21-22). من الذي "ينجِّس" يوم السبت؟ هو من يعمل فيه عملاً. إذا كان الله استراح في هذا اليوم المقدَّس (تك 2: 3)، فماذا ينتظر الإنسان لكي يقتدي بربِّه؟ في نبوءة إرميا، هدَّد الربّ بالعقاب من "ينجِّس" هذا اليوم. وفي خر 31: 12-13، جاء كلام الربِّ قاسيًا: "حافظوا على أيّام السبت لأنَّها علامة بيني وبينكم مدى أجيالكم، لتعلموا أنّي أنا الربّ الذي قدَّسكم. حافظوا على السبت لأنَّه مكرَّس لي، ومن دنَّسه يُقتَل قتلاً. كلُّ من عمل فيه عملاً ينقطع من شعبه".

أمَّا الاحتفاظ من عمل الشرّ فنقرأه في عدد من المزامير، التي تضع شروطًا للدخول إلى الهيكل: "يا ربّ، من يحقُّ له أن يسكن في جبلك المقدَّس؟" (مز 15: 1). وجاء الجواب: من يسلك بنزاهة، من يكون صادقًا في أعماله، من لا يسيء إلى أحد، من لا يعطى ماله بالربى. وجاء كلام مماثل في مز 24: النقيّ اليدين، الطاهر القلب... هو من يصعد إلى جبل الربّ.

وتساءل الغريب الذي سمع ما قال سفر التثنية (23: 2-9): "هل يحقُّ لي أن أدخل إلى بيت الربّ؟ قالوا له: فصلاً يفصلك الربُّ (ب د ل). مع المفعول المطلق، أي تفرَز مثل عنزة تغلغلت بين الخراف. وما يقوله الغرباء يقوله "الخصيان": "هؤلاء لا يدخلون في جماعة المؤمنين ولو في الجيل العاشر" (تث 23: 3).

الجواب الأوَّل أتى إلى الخصيان (آ4). هم لا يكتفون بأن يقولوا، بل يفعلون. أوَّلاً، يحفظون السبت: صاروا من العائلة في اجتماعها الأسبوعيّ. ثانيًا، يختارون ما يسرُّني، هذا ما يعارض كلِّيًّا "فعل الشرّ" في آ2. نتذكَّر كلام الآب لابنه الحبيب: "به سررتُ" (مت 3: 17). ويمكن الله أن يقول الكلام عينه عن الخصيان: "بهم سررتُ". عملوا إرادتي. ثالثًا، يتمسَّكون بعهدي. هذا يعني الابتعاد عن الأوثان والتعلُّق بالربِّ الإله وحده بحسب الصلاة اليوميَّة لدى المؤمن: "اسمعوا يا بني إسرائيل: الربُّ إلهنا ربٌّ واحد. فأحبّوا الربَّ إلهكم بكلِّ قلوبكم..." (تث 6: 4ي).

بماذا يتميَّز اليهوديّ عن غير اليهوديّ؟ بالختان يكون الإنسان من الشعب المقدَّس ويحقُّ له أن يشارك في عيد الفصح، مثلاً. قال الربُّ لموسى: "هذه هي فروض عيد الفصح: لا يأكل الغريب من ذبيحة الفصح، ولا يأكل منها العبد المشترى إلاَّ إذا اختتن" (خر 12: 43-44). ولكنَّ الرسول يميِّز بين ختانة اللحم وختانة القلب. قال: "إن عملت بالشريعة كان لختانتك فائدة، ولكن إذا خالفتَ الشريعة صرتَ في عداد غير المختونين. وإذا كان غير المختونين يراعون أحكام الشريعة، أفما يعتبرهم الله في عداد المختونين؟" (رو 2: 25-26). ويطبَّق هذا الكلام هنا على الغريب والقريب. فالغريب يصبح قريبًا إلى الله إن حفظ الوصايا، والقريب يصبح غريبًا، بعيدًا إذا اتَّخذ طريق المنافقين. والرسول يقول أيضًا: "ليس الذين يسمعون كلام الناس هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بأحكام الناموس هم الذين يتبرَّرون" (رو 2: 13).

وما قيل عن الخصيان يُقال عن "أبناء الغريب" (آ6). انضمُّوا. صاروا رفاقًا للربّ (هـ ن ل و ي م). صاروا من "اللاويّين"، ومن خدَّام الربّ. ثمَّ "أحبّوا" (أ هـ ب) اسم الربّ. وكيف بانت محبَّتهم؟ بحفظ السبت والتمسُّك بالعهد. كيف يعاملهم الربّ؟ هل يُبعَدون عن شعائر العبادة؟ هل يُمنَعون من الدخول إلى الهيكل كما يقول حزقيال (44: 7-9: لا يدخل هيكلي غريب)؟ هل يُستغلَّون فيشتغلون كالعبيد (تث 14: 21، الحيوان الفاطس؛ 15: 3، الغريب تطالبه)؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. ماذا قال الربُّ في هذا المقطع الإشعيائيّ؟ ثلاثة أقوال. أوَّلاً: آتي بهم إلى جبلي المقدَّس، لا خوف بأن يدنِّسوه، بعد أن أمسك الله بيدهم. ثانيًا: أدخلهم إلى بيت صلاتي فيشاركون المصلّين في الفرح والبهجة: "هنيئًا للمقيمين في بيتك، فهم على الدوام يهلِّلون لك. هنيئًا للذين عزَّتهم بك، وبقلوبهم يتوجَّهون إليك" (مز 84: 5-6). ثالثًا، تُقبَل محرقاتهم وذبائحهم، مع أنَّ الشحم والدم اللذين يقدِّمون يدنِّسان مذبح الربّ، في إطار الشرعة الكهنوتيَّة وأقوال حزقيال. لا، يقول الربّ. "بيتي بيت صلاة لجميع الشعوب"، لا لشعب واحد، لا لفئة واحدة تعتبر نفسها مختلفة عن سائر البشر. ذلك ما اكتشفناه في بداية الكنيسة مع فصل بين اليهود والأمم الوثنيَّة، كأنَّ اللامختون هو نجس فلا يحقُّ الاقتراب منه والتسليم عليه ومشاركته في الطعام. كلُّ هذا مضى إلى غير رجعة مع يسوع، حيث قال الرسول: لا يهوديّ، ولا يونانيّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة. "فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع" (غل 3: 28).

تبدَّلت الشريعة. هل يحقُّ للإنسان أن يبدِّلها؟ كلاّ. الله وحده يقول (آ8) ويفعل مع الجذر "جمع" (ق ب ص). بدأ فجمع المبعَدين (ن د ح ي) أو المنفيّين. وبالإضافة إلى الذين جمعهم (مجموعته) سوف يجمع بعد. كما قال الإنجيل: يجب أن يمتلئ بيتي. هنا: يمتلئ هيكلي، وتمتلئ مدينتي. بدَّل الربُّ الشريعة. ويسوع أيضًا الذي قال: ما جئت لأنقض بل لأكمِّل. "قيل لكم... أمّا أنا فأقول لكم". راحت الشريعة في العمق فصارت الوصايا جديدة بحيث إن لبث المؤمن على مستوى ما يقول الكتبة والفرّيسيّون، لن يدخل ملكوت السماوات (مت 5: 20).

56: 9-12 لا سلام للأشرار

كلام قاسٍ للمسؤولين الذين يتغاضون عن الأشرار حين يظلمون الصغار، أو هم لا يهتمّون لأنَّهم مأخوذون بالخمر والمسكر. يدعو النبيّ "وحوش البرّ" ليأتوا ويأكلوا النعاج المتروكة، لأنَّ الرعاة الأردياء لا يعرفون واجباتهم. ووحوش البرِّ هم الأشرار. نتذكَّر أنَّ "الوحش" يرمز دومًا إلى الشرِّ في الكتاب المقدَّس. نتذكَّر مثلاً مز 22 مع كلام عن الأسود والكلاب والبقر الوحشيّ والثيران... "مراقبوه". هم المسؤولون كما في 52: 8. يقفون على الأسوار، يراقبون العدوّ (آ10). ولكنَّهم يوصفون هنا بالصفات الرديئة: هم عميان لا يرون ولا يريدون أن يروا. لا يهتمّون للغير بل لنفوسهم ممّا يمكن أن يفيدهم. ثمَّ هم جهّال لا يعرفون ما يحدث، ولا يعرفون كيف يتصرَّفون. والصفة الثالثة: كلاب لا تنبح. فالكلب يكون حارسَ البيت فينبح عندما يأتي السارق. والصفة الرابعة: ينامون، يحلمون، يعيشون في عالم غير هذا العالم. يشبهون في ذلك الأنبياء الكذبة (إر 23: 25ي).

في آ11، يعود النبيّ إلى "الكلاب". الكلاب تشبع، أمّا هؤلاء فلا يشبعون فيجمعون المال ويكدِّسون الخيرات. وبعد ذلك يدعون أنفسهم "رعاة". فماذا يرعون؟ يسيرون في طريق السرقة ويسيرون إلى النهاية، ربَّما إلى نهايتهم. ويُنشدون (آ12): نشرب الخمر ونرتشف، وغدًا يكون مثل اليوم بل أكثر. فلماذا نهتمُّ للغد؟ كلام قاسٍ يُطلَق في هذه الفترة العصيبة بعد العودة من المنفى، حيث البلاد تحتاج إلى اهتمام كبير من أجل البناء وتشجيع الناس على الإقامة في الأرض بالرغم من المخاطر التي تحيط بالعاصمة.

 


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM