الفصل الرابع والخمسون: المجد الآتي لمدينة الله

الفصل الرابع والخمسون

المجد الآتي لمدينة الله

يتوجَّه النبيّ إلى عروس الله دون أن يسمِّيها، فيكون أنَّ ما قيل في ف 52 عن عبد الربِّ سوف يقال عن "أورشليم". سلالة "العابد" الكبيرة هي سلالة أورشليم التي تستقبل أبناءها الآتين من بعيد. ومجد "العابد" هو مجد مدينة الله. وانتصار العابد بعد الذلّ والآلام يلتقي مع ذلِّ أورشليم قبل أن تتبرَّر. وهكذا نستطيع أن نقرأ ف 54 في خمس محطّات: تلك التي لا تستطيع بعد أن تلد سوف ترى نسلاً كبيرًا (آ1-3). تلك التي كانت أرملة سوف تصبح من جديد عروس الربّ (آ4-6). تلك التي أحسَّت نفسها متروكة عادت إلى عهدها مع الربِّ الذي يبقى أمينًا بالرغم من خيانات شعبه (آ7-10). تلك كانت مدمَّرة سوف يُعاد بناؤها بأجمل الحجارة الكريمة (آ11-13). تلك التي كانت عائشة في الخوف صارت في أمان لأنَّ الربَّ يحميها (آ14-17).

54: 1-3 رنِّمي يا عاقر

"رنِّمي" (ر ن ي). ثمَّ "أشيدي" (ف ص ح ي). ماذا تنتظرين لتُطلقي هتاف الفرح؟ ولكن كيف تفرح العاقر؟ هو العار الكبير أن لا يكون لها نسل. لا على المستوى البشريّ فقط، شأنها شأن كلِّ أمّ، بل على المستوى الروحيّ أيضًا: لن يكون لها نسل يرى الخلاص، وفي النهاية يرى المسيح. نتذكَّر سارة والحيلة التي عملتها ليكون لها ولد. قدَّمت جاريتها هاجر لزوجها، فدفعت الثمن غاليًا. قالت لأبرام: "ظلمي عليك! أنا دفعتُ جاريتي إلى حضنك، فلمّا رأت أنَّها حبلتْ صغرتُ في عينها" (تك 16: 5). ونتذكَّر خصوصًا راحيل ويأسها: "هبْ لي بنين وإلاَّ أنا أموت!" (تك 30: 1). أمّا إليصابات، والدة يوحنّا المعمدان فهتفت بعد حبلها: "هكذا فعل بي الربُّ يوم نظر إليَّ ليزيل عنّي العار من بين الناس" (لو 1: 24).

"مدينة الله" خسرت أولادها. ثمَّ ما عادت تلد، ولمن تلد ألكي يكونوا في العبوديَّة؟ هي لم تتوجَّع وجع الولادة، لم تتمخَّض ويُقال لها "اصهلي" (ص هـ ل ي) كما يفعل الحصان. والسبب: "المستوحشة" العائشة وحدها في البرِّيَّة لها الأبناء العديدون. وهكذا تفوَّقت على "المتزوِّجة" التي لها بعل، ومن يؤكِّد ذلك؟ "قال الربّ". فقول الربِّ خلقٌ. قال إنَّ أولادها كثيرون، وهم في الواقع كثيرون بحيث ضاقت بهم "المدينة".

"خيمتك" (آ2). نحن في البرِّيَّة مع خيمة الربِّ وسط الخيام. مدّي الحبال ومدّيها. وثبِّتيها. فأنت لن تُقتلعي من بعد. أنت "تنتشرين إلى اليمين وإلى الشمال، تمتدّين وتمتدّين. نسلك يكبر إذ يأتي إليك الأمم" (آ3).

54: 4-6 لا تخافي

كنت أرملة والأرملة تخاف. أمّا الآن فالخوف مضى بعيدًا. ومع الخوف مضى الخزي والخجل والعار. ما الذي تبدَّل؟ لن تعودي أرملة. فالربُّ هو عريسك، زوجك. وهو صنعك، خلقك، كوَّنك من جديد. فالنداء من عند الربِّ لا يكون نداء بالكلام، بل بالعمل. هو ما ترك مدينته ثكلى في ثياب الحداد ولا اكتفى بأن يبدِّل لها ثيابها. بل جدَّدها من الداخل. كانت كلا شيء فصارت تحفة الممالك. كانت في الأسر، كما يقول نشيد الأناشيد "سوداء بعد أن لوَّحتها الشمس" (نش 1: 6)، والآن افتداها الربُّ فصارت له[RK1] . ولو يعرف المنفيّون من هو الذي يستعيدهم. ليس إلهًا من الآلهة المعبودة في بابل، بل الإله الواحد. اسمه ربُّ الجنود، أو ربُّ الأكوان، ربّ السماء والأرض. وهو يرتبط بشعبه مع أنَّه "إله كلِّ الأرض" (آ5).

لا شكَّ كانت "مهجورة"، عائشة في الحزن. هكذا بدا وجه أورشليم في منفيّيها. في تلك الحالة التعيسة دعاها. كانت مرذولة ومع ذلك كلَّمها. نتذكَّر هنا الرسول في كلامه إلى أهل رومة: فالربُّ ما افتدانا حين كنّا أبرارًا، بل عندما كنّا خطأة: "ولمّا كنّا ضعفاء، مات المسيح من أجل الخاطئين في الوقت الذي حدَّده الله" (رو 5: 6[RK2] ). أجل، محبَّة الله تمضي إلينا في قلب خطايانا وضعفنا. وما قيل عن عمل الربِّ يسوع هو تحقيق لما أعلنه إشعيا عن هؤلاء المنفيّين. كانوا "زوجة الصبا" وها هم يعودون. هناك مسيرة مشتركة بين الله وشعبه. تذكَّر الربُّ ويا ليت أورشليم تتذكَّر. والمؤمن الذي خُلق "على صورة الله كشبهه" (تك 1: 26)، كمثاله خطئ. هل أزالت الخطيئة الصورة؟ كلاّ. بل شوَّهتها. ولمّا أتى المسيح أعاد إلى هذه الصورة بهاءها، لأنَّه هو صورة الله الذي لا يُرى (كو 1: 15).

54: 7-10 في لحظة قصيرة تركتك

زمن المنفى امتدَّ سحابة سبعين سنة. ولكن ماذا يشكِّل هذا الزمن في مجمل مخطَّط الله؟ ومقابل "ترك" (ع ز ب)، جاء فعل "ق ب ص". في العربيَّة قبص يعني أمسك بأطراف أصابعه. وقبض عليه أي أمسكه بيده وضمَّ عليه أصابعه "لكي لا يفلت أبدًا". وفي معنى أوسع: ضيَّق عليه. نكتشف هذه الصورة عند هوشع حيث أراد الله أن يمنع "زوجته" من المضيّ إلى "الزنا"، أي إلى الخيانة والذهاب إلى بعل وسائر الأصنام: "أسيِّج طريقك بالشوك" (هو 2: 8).

أمّا في إشعيا فالربُّ لا يستعمل "الشوك" ليجمع إليه عروسه، بل "المراحم العظيمة"، وكأنَّ لفظ "مراحم" عند الربِّ يحتاج إلى مثل هذا الوصف، فكلُّ ما هو في الربِّ عظيم، ولولا مراحمه لبتْنا أمواتًا في الخطيئة.

وتعود الفكرة في صورة أخرى: "فيضان السخط والغضب". ذاك هو العقاب الذي عرفته مدينة الربِّ في منفاها. والحرب التي حلَّت بها بدت مثل نهر يفيض عليها ويكاد يغرقها. ولكنَّ الربَّ الذي أوقف الطوفان كرامة نوح، يفعل كذلك بالنسبة إلى أورشليم. الأرض كلُّها غرقت بالدم والقتل مع وصول البابليّين ونبوخذ نصَّر. والآن، كرامةً المؤمنين تعود الحياةُ إلى هذه المنطقة التي كانت منكوبة.

حسبَ الشعبُ يومًا أنَّ الربَّ تبدَّل وتخلّى عن العهد. فجاء كلامه قاطعًا: "الجبال، الآكام تزول وعهد الربِّ لا يزول. وعهد الربِّ لا يمكن بعد اليوم أن يكون عهد "حرب"، بل عهد سلام. فهو قبل كلِّ شيء إله الرحمة والمحبَّة.

54: 11-13 يا مسكينة

كنتِ كذلك، يا مدينتي. وتأتي صورة أولى، صورة العروس، التي يعيد إليها الله جمالها: يضع الكحل على عينيها (2 مل 30. قيل ذلك عن إيزابيل، زوجة أخاب). ثمَّ صورة البناء لا بحجارة عاديَّة، بل بحجارة تصلح أيضًا لزينة العروس: الياقوت، البهرمان. داخل الأسوار يكون "السلام". والسلام لا يعني فقط نهاية الحرب بل ملء البركة، مع الصفة "كثير"، سلام عميم، بركة واسعة. وتتوَّج حين "يتتلمذ" الأبناء للربّ. لا يحتاجون بعد إلى أن يعلِّمهم أحد على ما قال إرميا: "لا يعلِّمون بعدُ كلُّ واحدٍ صاحبه، وكلُّ واحد أخاه" (إر 31: 34). وإذ يعلِّمهم الربُّ يعرفون كلُّهم الربّ" من صغيرهم إلى كبيرهم". عند ذلك، يقول الربُّ "أصفح عن إثمهم ولا أذكر بعدُ خطيئتهم".

54: 14-17 بالبرِّ تتثبَّتين

"البرّ" أو "البرارة" (ص د ق ه) يأتي من الله، لا من البشر. فالله يثبِّت مدينته، "يكوِّنها" (ت ك و ن ن ي). فمن يجسر بعدُ أن يقترب منها؟ وهي عبارة حلوة: الرعب لا يقترب من أورشليم. الظلم يبتعد عنها. كلُّ هذا عرفته المدينة المحاصرة قبل أن يمضي أهلها في طريق المنفى.

في الماضي كانت "مؤامرة" على أورشليم وهجوم. هو الربُّ "يهدِّد" بسبب خطيئة شعبه. أمّا الآن فالخطيئة أزيلت والمدينة دفعت ثمن تمرُّدها "ضعفين" (40: 2). فإذا كان من تهديد، فالمهدِّدون "يسقطون" أمامك صرعى دون تعب من لدنك. ولكنَّ السلاح ما زال حاضرًا، فمن يوقفه؟ فجاء الجواب: أنا خلقتُ من يعمل في الحديد، أنا خلقت المدمِّر الذي يحمل السلاح. فمن يجسر أن يقاوم إرادتي؟

يصنعون آلة الحرب، ولكنَّها تكون غير صالحة (ص ل ح). يتكلَّمون بالشرِّ ويتكلَّمون فيبان إثمهم (ر ش ع)، إثمهم في القضاء، في المحكمة. "عبيد الربّ" هم ميراث الربّ. اعتدنا أن نقرأ "عبد يهوه" في صيغة المفرد. وهي المرَّة الوحيدة في إشعيا الثاني (ف 40-55) يُقال "عبد يهوه" في صيغة الجمع. فهذا يعني أنَّ كلَّ مؤمن معنيّ بأن يكون "عبد الربّ": يدعوه باسمه، يكلِّفه برسالة، يُعدُّه لكي يحمل الكلمة مهما جابهته الأخطار. قال الربّ: "برُّهم من عندي". ويتواصل هذا الكلام مع الرسول: "الله برَّرهم فمن يجسر أن يتَّهم من اختارهم الربّ؟" (رو 8: 33). من يتجرّأ "أن يحكم عليهم"؟ وسبق الرسول فقال: "إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟" (آ31). من يجسر أن يقف في وجهنا "فهو ترسنا وحصن خلاصنا وملجأنا" (مز 18: 3).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM