الفصل الثالث والخمسون: عبد الربّ يتألَّم ويتمجَّد

الفصل الثالث والخمسون

عبد الربّ يتألَّم ويتمجَّد

بدأ هذا النشيد في 52: 13 وامتدَّ إلى 53: 12. بل هو يمتدُّ إلى 54: 1-3 حيث الجموع تكوِّن نسل عبد الربِّ. فهذا العابد يضطهده البشر ولكنَّ الربَّ يرفعه بحيث يكون ينبوع سلام للذين رفضوا ما يقدِّم الله لهم من خلاص. في 52: 13-53: 12، نسمع عدَّة أصوات. أوَّلاً صوت الله (52: 13-15) الذي يعلن رفعة "عبده" بعد أن أهين. ثمَّ صوت الشعوب (53: 1-6) الذين يُبدون دهشتهم أمام هذا "الرفيع"، وبالتالي يستنتجون أنَّه البارّ. وأنَّ ما احتمله لم يكن بسبب خطاياه الخاصَّة، بل بسبب خطايا شعبه. في آ7-10، يتكلَّم النبيّ على براءة "العبد" وينتظر له المجازاة الخيِّرة تجاه ما تحمَّله من عذاب. وأخيرًا نسمع صوت الله في آ11-12 الذي يؤكِّد ما قيل في البداية: ينال عبده ملء البركات ويجتذب إليه الكثيرين، فنسمع في البعيد كلام الربِّ يسوع: "وأنا إذا ما ارتفعت جذبتُ إليَّ الكثيرين" (يو 12: 32).

53: 1-6 من آمن لسماعنا

اندهش الشعوب وصمتوا، وفي النهاية تكلَّموا. أسمعوا (ش م ع ت ن و) الحاضرين ما رأوا وما عرفوا. أترى يؤمنون (هـ أ م ي ن)، يصدِّقون؟ ومن يجسر أن يصدِّق ما فعله الربُّ من أجل عابده؟ "تجلَّت" (ت ج ل ت ه) ذراع الربِّ وقدرته، فمن يراها الآن لا تصدِّق عيناه بالنسبة إلى ما كان في الماضي. ما أعظم هذه الذراع، وما أحناها بالنسبة إلى مثل هذا الإنسان المشوَّه!

كان "فرخًا". لا شجرة ولا شجيرة. بل ما ينبت بجانب الشجرة. لا أحد يحسب له حسابًا. أين "صعد" (ي ع ل) هذا الفرخ؟ "أمامه" أي أمام الربِّ. تحت نظر الربّ. لا تحت نظر البشر الذين كانوا داسوه وما انتبهوا. ثمَّ "ش ر ش"، الأصل (الشلوش). هو تحت الأرض. لم يظهر بعد. وكيف له أن يطلع في أرض يابسة لا ماء فيها؟ وبعد التشبيه النباتيّ، نتطلَّع إلى هذا الإنسان الذي لا يُذكر إلاَّ في صيغة الغائب: هو، مع "له" أو الضمير في "نراه". لا يستحقّ أن ننظر إليه. ثلاثة ألفاظ مع لا النافية: لا صورة، لا بهاء (أو: جمال)، لا مرأى (أو: منظر). لا شيء يشدُّنا إليه.

وتأتي الأوصاف التي تسوِّغ موقف الناس منه: مزدرى أو محتقر. منبوذ أو مخذول بين الناس. وتتكرَّر الصفة "مزدرى". هو رجل الأوجاع والآلام بحيث نخبِّئ وجوهنا لئلاَّ نراه. هو لا يستحقُّ أن ننظر إليه، بل نبتعد عنه وكأنَّه مريض يحمل إلينا العدوى. ولكنَّنا سوف نعرف أنَّه يحمل إلينا العافية.

ويطرحون السؤال: من أين جاء المرض؟ والجواب: المرض هو مرضنا الذي يحمله، والوجع وجعنا بعد أن أخذه عنّا. كانوا يعتبرون أنَّ المرض هو جزاء الخطيئة. وبما أنَّ "عبد الربّ" مريض، فهذا يعني أنَّ الله ضربه. وبالتالي هو مستحقّ. ولكنَّنا سوف نعرف أنَّ هذا "العابد" بريء، بارّ، ممَّا يعني أنَّه لا يستحقُّ هذا المرض. هكذا اتُّهم أيّوب من قبل الحكماء في عصره فرفض اتِّهامهم. وفي النهاية بيَّن الله برارة عبده.

ذاك هو وضع عبد الربّ. وأكثر من ذلك. نحن الخطأة وهو يُعاقَب، نحن المتمرِّدون وهو ينال الجراح، نحن الضالّون الذين تركوا طريق الربّ ووصاياه، وهو يعتبر "مذنبًا" ويعاقب. هو "مجروح" (م ح ل ل)، "مسحوق" (م د ك ا). والسبب: تعدِّياتنا (ف ش ع) أو معاصينا. ثمَّ ذنوبنا (ع و ن) أو آثامنا.

بآلامه نال لنا السلام. ذاك ما فعله يسوع: هدم الحاجز، أي العداوة. أصلح بين الجميع بصليبه. قضى على العداوة (أف 2: 14ي). بجراحه نال لنا الشفاء. وفي النهاية، أعادنا إلى حظيرة الآب بعد أن كنّا ضالّين. قال لنا بطرس الرسول: "حمل خطايانا بجسده على الخشبة... وهو الذي بجراحه شفيتم. كنتم خرافًا ضالّين، فاهتديتم الآن إلى راعي نفوسكم وحارسها" (1 بط 2: 24-25).

53: 7-10 ظُلم ولم يفتح فاه

بعد صوت الشعب ها هو صوت النبيّ. توحَّشوا في معاملته فقبل الذلّ. ولبث صامتًا: لم يحتجّ ولم يصرخ. قال عنه مز 38: بدا مثل أبكم لا يفتح فاه. وانطبق هذا على يسوع في آلامه حين توالى شهود الزور. "فظلَّ ساكتًا، لا يقول كلمة" (مر 14: 61). شُبِّه بشاة (ش ه) تُنحَر (ط ب ح). بنعجة (ر ح ل، رخلة) تُجزّ. وتكرَّرت العبارة: "لم يفتح فاه".

بانتظار الله، حُمل عبد الربِّ في عاصفة سقطت على عصره وجرَّته. هو أمين وصديق الله، مع الأشرار بسبب شرِّهم وبالإكراه أُخذ وحكم عليه وما اهتمَّ به أحد. صار بين الأموات بعد أن "قطع من أرض الأحياء". ويعود النبيّ فيقول: ليس الذنب ذنبه بل ذنب شعبه.

وهكذا "مات" وصار جثَّة هامدة ووُضع في القبر. أين قُبر؟ مع الأشرار. فذاك الذي مات بين لصَّين، كما يقول الإنجيل، ضاع قبره، ولولا قليل ما كان عرف أحدٌ أين دُفن. موته في العار ودفنه أيضًا. ومن هو "الغنيّ" أو "الأغنياء" الذين مات في وسطهم؟ قيل: هم البابليّون. أمّا الإنجيل فرأى في اهتمام يوسف الرامي، ذاك الغنيّ والوجيه، تحقيقًا لهذا الكلام في شخص يسوع. وعاد الكلام على أنَّ هذا العابد بريء لم يقترف ظلمًا، صادق لم يعرف فمه الغشّ. في هذا الإطار نتذكَّر أنَّ الإنجيل شدَّد المرَّة بعد المرَّة على براءة يسوع. قال بيلاطس: "فحصته أمامكم، فما وجدتُ أنَّه ارتكب شيئًا ممّا تتَّهمونه به، ولا هيرودس وجد أيضًا" (لو 23: 14-15). ومع ذلك أرسل يسوع إلى الصلب.

وترتفع صلاة النبيّ طالبًا أن يرضى الله عن هذه الذبيحة لعبده الذي كان أمينًا، وصبر في وسط محنه وآلامه (آ10). هكذا يرى نسله وتدوم أيّامه. هذا النسل هو نسل إبراهيم، خليل الله، ويعقوب، مختار الله.

53: 11-12 عبدي البارّ

وفي النهاية نسمع صوت الله. عبَّر النبيّ عن الرجاء الذي يعمر في قلبه، فشجَّعه الربُّ واستعاد التمنِّيات التي عبَّر عنها. صور عبد الله "الذبيحة" بدل الذبائح الحيوانيَّة التي تقدَّم في الهيكل. في هذا نتذكَّر كلام الرسالة إلى العبرانيّين حيث أورد يسوع، عظيمُ الكهنة، مز 40: 7-9: "ما أردتَ ذبيحة ولا قربانًا، لكنَّك هيَّأت لي جسدًا، لا بالمحرقات سررتَ ولا بالذبائح كفّارة للخطايا، فقلتُ: ها أنا أجيء يا الله لأعمل بمشيتئك" (عب 10: 5-7). وفي ترجوم سفر التكوين يفرح إسحق بأنَّ الله قبله ذبيحة بدل الكباش والعجول.

نسل "العابد" لا ينطفئ بل يكثر. والذين ينقل إليهم الحياة يكونون عديدين. وبما أنَّه بارّ، ينقل برارته إلى الجموع. هو يحمل إثم الجماعة ولا يُحبَط ولا يردُّ على الشرِّ بالشرّ. فالبرُّ الذي فيه، يحوِّل الشرَّ إلى خير بفضل بركة الله، كما كان الأمر مع يوسف بن يعقوب وإخوته: "أنتم قصدتم الشرَّ والربُّ قصد الخير" (تك 50: 20).

في النهاية نستطيع المقابلة بين هذا النشيد الرابع من أناشيد يهوه وبين نصوص العهد الجديد. فالأناجيل بشكل خاصّ حدَّثتنا عن شخص وُلد وكبر وفعل الخير، وتألَّم ومات بسبب الخطايا ومن أجل خطايا الكثيرين، ودُفن وتمجَّد. ضعفٌ وقوّة، هو البريء المضطهد، والمتألِّم والصابر على الآلام، الساكتُ الذي لا يفتح فاه. انحدار وارتفاع، موت وقيامة. ما يمكن القول هو أنَّ كتّاب العهد الجديد قرأوا أناشيد "عبد يهوه" وهضموها. وحين أرادوا أن يكتبوا "إنجيلاً" وخبرًا طيِّبًا، انطلقوا من حياة يسوع، واستعملوا الصور التي وجدوها عند إشعيا، ولا عند إشعيا وحده، بل عند إرميا وفي المزامير. ولهذا تكون اليوم قراءتان لهذه النصوص: القراءة اليهوديَّة ترى في عبد يهوه شخصًا جماعيًّا، شخصًا يحمل في نفسه الجماعة. بل إنَّ الجماعة صارت "عبد الربّ" فلا مجال للكلام عن شخص فرد. أمّا القراءة المسيحيَّة فوجدت كمال النصوص الإشعيائيَّة في شخص يسوع المسيح ولاسيَّما في آلامه الخلاصيَّة[RK2] .

فيسوع هو "العابد[RK3] " المرفوع على الصليب وفي المجد، ساعة شوِّه في آلامه. عُومل بقساوة ما بعدها قساوة، فلبث صامتًا مثل حمل يُقاد إلى الذبح. والحكم عليه بالموت كان ظلمًا بظلم. تألَّم فنال بآلامه أن يرى فيه ملايين البشر ذاك البارّ (لو 23: 47) وابن الله (مر 15: 39).


[RK1]فاصل مع نهاية الفصل 52

[RK2]مقابلة هامة وممتازة!

[RK3]تعبير جميل! هو العبد والعابد!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM