الفصل الحادي والخمسون: خلاص الله على وجه العالم

الفصل الحادي والخمسون

خلاص الله على وجه العالم

في 50: 4-11، بدا عبد الربِّ واثقًا بالله بالرغم من الاضطهادات. ونقل هذه الثقة إلى المؤمنين، إلى الذين دعوناهم في 50: 10: السامعين وخائفي الله. غير أنَّ الذين تبعوا عبد الربِّ نالوا الاضطهاد بدورهم ولكنَّ الربَّ وضع حدًّا للذين يضايقون مؤمنيه وأعلن لهم أنَّ مُلك الله يقوم مهما كان رفضُ الرافضين معاندًا. أمّا ف 51 فبدا كما يلي. في قسم أوَّل (51: 1-8) قيل للمؤمنين: خلاص الله قريب وأكيد: "ارفعوا إلى السماوات عيونكم" (آ6). في قسم ثانٍ (آ9-16)، انطلق النداء باتِّجاه الله لكي يبيِّن قوَّته ويمدَّ ذراعه. في قسم ثالث (آ17-23) يُعلَن الفداء الذي ينتظره المنفيّون.

51: 1-8 اسمعوا لي

يدعو الله المنفيّين "السامعين" أن يوجِّهوا إليه قلوبهم، فيضع أمامهم شخص إبراهيم. فما يمنحه لهم من خلاص سوف تراه الأمم. صفتان لهؤلاء السامعين: يتابعون (ر د ف)، يلاحقون البرّ باهتمام. يطلبون الربّ. ومن طلب وجد. هم لا يتبعون الأصنام ولا يطلبون شيئًا آخر سوى مرضاة الله، سوى البرّ (ص د ق). موضوع يتردَّد في هذا المقطع (آ1، 5، 6، 7، 8). لا مجال للضعف، فأنتم من "صخر" لا من رمال الصحراء. والصخر هو اسم الربّ. ينشده مز 18: 3: "الربُّ صخرتي وحصني ومنقذي، إلهي صخرتي وبه أحتمي". ويعود في آ47: "حيٌّ (يعيش) هو الربّ، مبارك صخرتي". حفرة البئر (ب و ر) التي منها نُقرتم (ن ق ر) تعود بنا إلى صورة الصلابة، لأنَّ البئر تُحفَر في الصخر أيضًا.

انظروا. ويتكرَّر: انظروا. تطلَّعوا إلى البعيد. إبراهيم آمن بالله فحسب له ذلك برًّا. أما تريدون أن تكونوا أبناء إبراهيم الحقيقيّين؟ والجواب بلى. وسارة أمّ المؤمنين. تقولون: نحن قلَّة قليلة في هذه المدينة الواسعة. لا شكّ. وإبراهيم كان "واحدًا" (أ ح د). لم يكن عددًا كبيرًا. دعَوْتُه فلبّى النداء. وها أنا أدعوكم فما يكون جوابكم؟ أتريدون البركة مثله فتكثروا؟ اتبعوا خطاه. الربُّ وعد إبراهيم وحقَّق وعده. وها هو يدعو المؤمنين. هل يجعلون ثقتهم فيه أم ينظرون إلى "الكثرة البشريَّة"؟ فمن أجل شهادة الإيمان، لا يحتاج الربُّ إلى العدد الكبير. يسوع كان وحده شاهدًا على الصليب. والرسل كانوا اثني عشر فقط، وها هو الإنجيل يملأ العالم[RK1] .

وجاءت المواعيد إلى أورشليم بدءًا بالعزاء. وتتبدَّل الأمور في صُوَر اعتدنا عليها: البرِّيَّة تصبح جنَّة عدن، والبادية "جنَّة الربّ". لا مكان بعد للحزن والكآبة. حلَّ محلَّهما السرور (ش ش و ن) والفرح. وهؤلاء الذين رفضوا أن يُنشدوا حين تذكَّروا صهيون وعلَّقوا الآلات الموسيقيَّة في الصفصاف (مز 137: 1-2) يعلنون الآن: "عندما ردَّ الربُّ سبي صهيون... صرنا فرحين" (مز 126: 1ي). تلك كانت القطعة الأولى (آ1-3).

في آ4-5 نقرأ القطعة الثانية التي بدأت أيضًا بالنداء المتكرِّر في صيغة الجمع. "ق ش ب"، أصغى. "ا ز ن"، أمال بأذنه. يدعو الربّ "الشعب"، "أمَّة"، أي تلك التي ترتبط بأمٍّ هي سارة. هو يقدِّم "الشريعة" أي التعليم، فلا شريعة خارج تلك التي يقدِّمها الربّ. شرائع عديدة كانت في بابل (ليفيت عشتار، حمورابي). وحدها شريعة الربِّ صادقة وهي تصلح للشعوب كلِّها، لا لشعب واحد ومدينة واحدة، بحيث يفرض القويّ سلطته على الضعيف. الربُّ وحده يقضي (م ش ف ط)، وقضاؤه ثابت. يزجر (ج ع ر) القويّ، يؤنِّبه، يوقفه عند حدِّه. وما هي نتيجة عمل الربّ؟ بما أنَّه يقضي (ش ف ط)، فهو يولِّد البرّ والخلاص، بحيث إنَّ الأماكن البعيدة (الجزر) والقريبة "ترجو، تنتظر". هل يعي بنو إسرائيل هذا الواقع، أم يلبثون بعيدًا لأنَّهم يخافون أن يُخزَوا!

والقطعة الثالثة (آ6): ارفعوا عيونكم... وانظروا. فعلى الشعب أن لا يلبث متعلِّقًا بالأرض والأمور اليوميَّة، شأنه شأن آبائه في البرِّيَّة. ما تطلَّعوا إلى جبل سيناء حيث اللقاء مع الربّ، بل اهتمّوا بالماء الذي يشربون، بالطعام الذي يأكلون. ولمّا تعبوا من المنِّ الذي هو منَّة من الله وعطيَّة، طلبوا لحمًا. ولمّا أطلَّ العدوّ ارتاعوا وارتعدوا. أتُرى المنفيّون ينظرون إلى السماء؟ فلو فعلوا لكان كلامهم مختلفًا وموقفهم ثابتًا وهم الذين أُخذوا من الصخر. السماء دخان، الأرض ثوب بالٍ، البشر بعوض. كلُّ هذا يزول بسرعة. كلُّ هذا عابر ولا يقابَل بالخلاص الذي يقدِّمه الربّ: ل ع ل م. هو أبديّ، لا يزول. وفي هذا قال الربُّ للذين كثَّر لهم الخبز فأكلوا وشبعوا (يو 6: 12): "أنتم تطلبوني لا لأنَّكم رأيتم الآيات، بل لأنَّكم أكلتم وشبعتم. لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديَّة" (آ26-27). ويأتي فعل "ت ح ت": نزل، سقط، صرع، نقض. لا شيء يقدر أن يقف في وجه برِّ الله وبرارته.

والقطعة الرابعة (آ7-8) تعود إلى آ1: اسمعوا. لو كنتم ملتصقين بالأرض لن تستطيعوا أن تسمعوا. ولكنَّ الرؤوس مرتفعة إلى العلاء. هم عرفوا "برَّ" الله، فلماذا يطلبون برًّا آخر؟ هم جعلوا الشريعة "في قلبهم"، وما لبثت على الحجر، فممَّ يخافون؟ قال الربُّ للتلاميذ على الجبل: "طوبى للمضطهدين من أجل البرّ... طوبى لكم إذا عيَّروكم واضطهدوكم" (مت 5: 10-11). إلى أين يصل كلامهم؟ إلى لا شيء. هم عابرون يأكلهم العثّ والسوس. أتريدون حشرة أصغر من هاتين الحشرتين؟ ويعود في آ8 ما قيل في آ6 مع "ع و ل م" (الأبد) و"د و ر" (جيل الأجيال). لا إلى جيل واحد ينتهي عادة بعد أربعين سنة.

51: 9-16 استيقظي، استيقظي

بدت يد الربِّ نائمة. فماذا تنتظر لكي تستيقظ؟ أين هو الخلاص؟ حينئذٍ رُفع إلى الربِّ الدعاء: ماذا ينتظر لكي يجعل هذا الخلاص حاضرًا؟ الربُّ أنجز خروجًا أوَّل، ماذا ينتظر لينجز خروجًا جديدًا؟ وكان جواب الربّ: "أنا، أنا هو". وهكذا تبرز آ9-16 في قطعتين. في الأولى (آ9-11) تذكَّرالمؤمنون الماضي وتطلَّعوا إلى الحاضر، فرفعوا أنظارهم إلى الربّ، فسمع الربُّ نداءهم. هؤلاء المنفيّون هم شعب الله (آ16)، "شعبي" أنا، فمن يجسر أن يمسَّهم. فإن فعل كان كمن يمسُّ حدقة عيني (مز 17: 8).

"أيّام القدم"؟ ذراع الربِّ القديرة، في الماضي "رهب" ذاك الوحش المرهوب. شقَّه (ح ص ب) الربّ، قطَّعه. ثمَّ "ت ن ي ن"، تلك الحيَّة التي عُرفت في البدايات. والعدوّ الثالث "ي م"، واليمّ إله البحر والمياه الكثيرة. "ت هـ و م"، الغمر يقابل "تيامات" إله المياه المالحة في الروايات البابليَّة القديمة. المعنى الأوَّل يجعلنا في عالم "الآلهة" المرتبطة بالماء الذي هو الشرّ الكبير الذي يهدِّد الأرض كما هدَّدها في الطوفان. والمعنى الثاني الذي نعرفه في الخروج مع موسى، هو مصر (30: 7) والفرعون (حز 29: 3) وبحر سوف (خر 14: 2) أو بحر القصب (إش 63: 3). فالله يفتدي شعبه بعد أن يتغلَّب على قوى الشرِّ في أيِّ موضع كانت.

ويأتي فعل الإيمان: المفديّون يرجعون وهم ينشدون. مضوا وهم يبكون، ويعودون وهم يرنِّمون. رافقهم الحزن والنواح حين مضوا، وفي العودة يغمرهم الفرح. أنشد مز 126: 6: يذهبون وهم يبكون، يجيئون وهم يرنِّمون. زرعوا بالدموع وحصدوا بالابتهاج. كلُّ هذه الآيات التي نقرأ هنا مليئة بالفرح والبهجة والسرور. لهذا ينشد المؤمنون وهم يستعدّون للانطلاق بعد أن عادت إليهم الهمم. تلك كانت القطعة الأولى (آ9-11).

وها هي القطعة الثانية (آ12-16) التي تبدأ بإعلان الربِّ: "أنا، أنا هو معزِّيكم". توجَّه الله أوَّلاً إلى شعبه (المخاطب الجمع)، ثمّ إلى عروسه (المؤنَّث المفرد): لماذا تخافين؟ الإنسان المائت يخيفك! هو كالعشب الذي يكون اليوم ويذبل غدًا (40: 6). وأخيرًا يتحدَّث إلى شعبه (المخاطب المفرد): تنسى الربّ، ترتعب من المضايق. هل يقابَل "المضايق" (م ص ي ق) الذي يكاد يقف على رجليه مع الذي صنع الإنسان وبسط السماء وأسَّس الأرض؟

ولكن كيف يصدِّق المنفيّ هذه المواعيد وهو "منحني" الظهر بسبب العمل المضنيّ؟ هو في السجن، تحت الأرض. وأبشع من ذلك "في الهوَّة" (ش ح ت) ينتظر الموت. لا يكاد يصل إليه الخبز وكأنَّه سوف يموت جوعًا. تلك هي الحالة التي كان فيها إرميا. كم يحتاج الإنسان إلى فعل إيمان حين يقال له: ستفتح (ف ت ح) أبوابُ السجن وأنت تتحرَّر. لن تموت بل تحيا. ويصل إليك الخبز.

تكلَّم الربّ. بل عمل. أعلن اسمه وكشف أعماله. نقرأ فعل "ر ج ع": زجر، انتهر البحر فلا تستطيع أمواجه أن تفعل سوى أن تعجّ مثل بقرة تتألَّم. هذا الإله غرس السماء كما تُغرَس شجرة، وأسَّس الأرض كما يؤسَّس بيت. علَّم نبيَّه كيف يتكلَّم، جعل أقواله في فمه كما كان الأمر بالنسبة إلى إرميا (إر 1: 9). فلا عليه أن يخاف، لأنَّه في حمى الربّ: في ظلِّ يده "كساه، (ك س و ت ك)، خبَّأه. ومن يعرف ما تفعله يد الله القديرة، لا يتساءل عن مصير نبيّ الربّ.

في آ15 قال الربُّ: "إلهك أنا" (أ ن ك ي). وفي آ16: "شعبي أنت" (أ ت ه). هي علاقة حبّ بين الله وشعبه. فماذا يطلب المنفيّون بعد ذلك؟ أم لا سمح الله يتصرَّفون مثل شعب السامرة الذي وبَّخه هوشع. هي عروس الربِّ تقول: "أذهب وراء محبِّيَّ (هي تحبُّهم: أي الأصنام) الذين يعطونني الخبز والماء والصوف والكتّان والزيت والشراب" (هو 2: 7).

51: 17-23 انهضي، انهضي

في آ9 قرأنا "استيقظي" (ع و ر ي). في آ17، "انهضي" (ت ع و ر ري). ونعود في 52: 1 إلى "عوري" استيقظي. الجذر هو هو. فتلك القاعدة على التراب يجب أن تقف على قدميها. وجَّه إليها النبيّ نداءه. وتلك المائتة التي شربت كأس الربِّ تقوم (ق و م ي) من الموت. فهمت أنَّ العقاب أتاها من عند الربّ. سكرت، ترنَّحت ولا من يمسكها بيدها، لا البنون الذين ولدتهم ولا الذين ربَّتهم. أحاطها الشرُّ من كلِّ جهة: الشدَّة (ش د) والكسير (ش ب ر) من جهة، ومن جهة ثانية الجوع والسيف. إذا كان الربُّ لا يعزّيها، فمن يعزّيها؟ والجواب: لا أحد، كما قال سفر المراثي: "ليس لها معزٍّ من كلِّ محبِّيها" (1: 2).

هي يائسة. وأبناؤها أيضًا أصابهم غضب الربّ. يشبهون الوعل في شرك الصيّاد. وتحدَّث سفر المراثي أيضًا فقال: "أطفالك المغشّى عليهم من الجوع في رأس كلِّ زاوية" (2: 19). أورشليم تعيش في عمق الشقاء، ومن هذا العمق يريد الله أن ينتشلها، مع أنَّه كان السبب في بؤسها.

"لذلك اسمعي" (آ21). مع الأداة "لذلك" يتبدَّل الوضع. فيبقى على المدينة أن تصغي. كان في يدها كأس غضب الربّ، فانتقل إلى يد مضايقيها. صار الربُّ بجانبها، فما عادت تلك الذليلة التي تدوسها الأرجل كما اعتاد المنتصر أن يفعل بأسراه.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM