الفصل الخمسون: الثقة بالله المحرِّر

الفصل الخمسون

الثقة بالله المحرِّر

الشعب يائس. أترى الله يحمل إليه النجاة؟ فذكَّرهم النبيّ بالثقة بالله وبيَّن لهم كيف أنَّ عبد الربِّ لبث واثقًا بالربِّ بالرغم من الاضطهاد الذي لاقاه، ودعاهم إلى الاقتداء به: من يخاف الربَّ ينبغي عليه أن يتَّكل عليه (آ10). نستطيع أن نقرأ هنا دعوى أولى بين الله وبني إسرائيل الذين فقدوا إيمانهم وما عادوا يصدِّقون المواعيد (50: 1-3). والدعوى الثانية بين بني إسرائيل المعاندين وعبد الربّ (آ4-11).

50: 1-3 خطيئة الشعب

احتجَّ المنفيّون على الله، لأنَّه طلَّقهم، باعهم، ولهذا هم يعيشون في الشقاء. فأجاب الربُّ: ما يحصل لهم هو نتيجة خطاياهم. في خطوة ثانية، ارتابوا بقدرة الله: ماذا يستطيع أن يفعل في بابل، مدينة مردوخ "العظيم"؟ فقدَّم لهم ما عمله في الخروج الأوَّل: نشَّف البحر. أما يستطيع أن يفعل شيئًا مماثلاً في الخروج الثاني؟ ولكن يبدو أنَّ هؤلاء الرافضين قساة الرقاب، فاكتفى بجوابين سريعين وما أرسل وعدًا بالخلاص.

الله طلَّق صهيون (49: 14). ذاك ما قيل من قبل ويتكرَّر الآن. فردَّ الله: أروني كتاب الطلاق المفروض حين يترك رجلٌ امرأته ويتزوَّج غيرها (تث 24: 1). بما أنَّ لا كتاب، فلا طلاق. وإذا كان من بيع، فأين الثمن؟ عمليًّا، أنتم تركتموني حين خطئتم وابتعدتم عني.

"جئتُ، ناديتُ" (آ2). هو الربُّ يتكلَّم. جاء إلى أبنائه يدعوهم ولكن لا من يجيب. حدَّثهم عن الخلاص، فقدَّموا اعتراضًا آخر بعد الأوَّل. كأنّي بهم يقولون: يد الربِّ قصيرة، عاجزة (59: 1). هل يستطيع الربُّ أن يفتدي شعبه، أن ينقذه؟ الفعل الأوَّل "ف د ه". نقرأه في تث 7: 8: "أخرجكم الربُّ بيد شديدة وفداكم من بيت العبوديَّة، من يد فرعون ملك مصر" (رج تث 13: 6). والفعل الثاني الرباعيّ (هـ ص ي ل) من "ن ص ل". نقرأه في خر 5: 23 في احتجاج موسى على الربّ: "أنت لم تنقذ شعبك". وفي خر 12: 27: عبر الربُّ عن بيوت بني إسرائيل... وأنقذ بيوتنا".

ذاك ما فعله الربُّ حين أخرج شعبه من مصر، وبانت قوَّته خصوصًا حين سار الشعب كما على أرض يابسة (خر 14: 22). فقدرة الله تفرض نفسها على المياه. نقرأ فعل "زجر" (ع ج ر). فالربُّ يصيح بالبحر كما يصيح بإنسان ويمنعه من الاقتراب (51: 20). هنا نقرأ مز 106: "زجر (انتهر، ع ج ر) في بحر سوف وسيَّرهم في الغمار كالبرِّيَّة، وخلَّصهم..." (آ9-10).

50: 4-11 مسيرة عبد الربّ

نقرأ هنا النشيد الثالث من أناشيد عبد يهوه. حدَّث المؤمنين عن الخلاص الآتي، فرفضوا كلامه واضطهدوه. هو الواثق بالربّ فلا يلاقي إلاّ الشكّ. يدعو الشعب للعودة إلى الله فيهزأون منه. ولكنَّه لم يتبدَّل. تقبَّل كلام الله مثل "تلميذ" (ل م د ي م)، وأوصل هذا الكلام بأمانة بالرغم من كلِّ الصعوبات. اضطُهد مع أنَّه بريء فلبث واثقًا بالربِّ ولم يتغيَّر.

إلى ماذا يستند عبد الربِّ هذا؟ إلى السيِّد الربّ (أ د و ن ا ي. ي هـ و ه). أربع مرّات تتكرَّر العبارة (آ4، 5، 7، 9). في 48: 16 أعلن أنَّ الربَّ أرسله ومنحه روحه. وهنا يتلمذه، يعلِّمه لكي يعرف كيف يعلِّم. مرَّتين يعود اللفظ "ل م د". نال عبد الربِّ "لسان التلاميذ" (آ4أ). ثمَّ يسمع "كالتلاميذ" (آ4ب). وهذا التعليم لا يكون عابرًا، بل "كلَّ صباح". أمّا واجب هذا "التلميذ" فهو مساندة "المعيى"، الضعيف، الذي لا قوَّة له لمتابعة الطريق. وجاء تصرُّفه مغايرًا كلَّ المغايرة للمحيطين به. هو ما "تمرَّد" (م ر ي ت ي) ولا عاند. هو ما عاد إلى الوراء، ولم يرتدَّ على مثال الخارجين من مصر، الذين تمنّوا مرارًا الرجوع إلى مصر وخيراتها. فما هذه البرِّيَّة التي يعيشون فيها؟ والمنفيّون لبثوا متعلِّقين ببابل وبغناها. ما هذه المسيرة في المجهول؟ في هذا الإطار قرأ الكاتب الملهم مسيرة إبراهيم: اترك أرضك. وفي الوقت المناسب أريك إلى أين تذهب. إيمان كامل، ثقة لا تردُّد فيها عند أبي الآباء. ومثله عبد الربّ. أمّا بنو إسرائيل فرفضوا واضطهدوا "هذا النبيّ" الذي كان صورة بعيدة عن يسوع المسيح في آلامه (مت 26: 67: بصقوا في وجهه، لطموه... لكموه؛ 27: 30: يضربونه على رأسه... يبصقون عليه).

هل تراجع عابد الربّ؟ كلاّ. استند فقط إلى السيِّد الربِّ فوجد السند والمعونة (آ7). هو فعل "ع ز ر" (أعان). فمع أنَّه نال اللطم والبصاق، إلاّ أنَّه لبث ثابتًا. مثل "الصوّان". وهل أقسى من هذا الحجر؟ هكذا كان إرميا (إر 1: 18). وحزقيال قال له الربّ: "جعلتُ جبهتك كالماس أصلب من الصوّان، فلا تخفْهم ولا ترتعب من وجوههم" (حز 3: 9). ونقرأ أيضًا عن يسوع في صعوده إلى أورشليم. قال عنه لوقا: "جعل وجهه صلبًا وتوجَّه إلى أورشليم" (لو 9: 51).

ووقف عبد الربِّ في المحكمة الإلهيَّة. من يجسر أن يخاصمه؟ (آ8). إذا كان الله "برَّره"، أعلنه صادقًا وأمينًا، فمن يجسر أن يتَّهمه؟ ذاك كان كلام الربِّ أمام اليهود في إنجيل يوحنّا: "من منكم يبكِّتني على خطيئة؟" (8: 46). فالربُّ يقول الحقَّ، ومع ذلك لم يؤمنوا به. وسبقه "عبد الربّ" الذي اتَّهموه بأنَّه يخدعهم. هم الأشرار الذين تكون آخرتهم البلاء مع صورة الثوب وصورة العثّ. هم لا يدومون.

في آ10-11 ينقسم السامعون قسمين: السامعون والرافضون. الفئة الأولى تتميَّز بأربع صفات: تخاف الربّ، ومخافته رأس الحكمة. تسمع والسماع هو الطاعة لكلام الربِّ كما يحمله "عابده". مثل هؤلاء لا يمكن أن يسلكوا في الظلمة، بل إنَّ نور الربِّ ينير دربهم. قال الربُّ في سفر الخروج: "إذا سمعتَ لصوت (الملاك) وفعلتَ كلَّ ما أتكلَّم به... فإنَّ ملاكي يسير أمامك..." (خر 23: 21). وقال الربُّ يسوع: "النور يبقى معكم وقتًا قليلاً، فامشوا ما دام لكم النور، لئلاَّ يباغتكم الظلام. والذي يمشي في الظلام لا يعرف إلى أين يتَّجه" (يو 12: 35). الصفة الثالثة لدى السامعين: يتَّكلون على اسم الربّ، يثقون به. يكفي أن يدعوا باسمه ليكون لهم الخلاص. وأخيرًا، يستندون إلى الله، لا إلى الأصنام. سندهم رحمة الربِّ وحنانه ورحمته وأمانته.

والرافضون. يستطيعون أن يسكتوا ولا يتدخَّلوا، أن يتركوا الأبرار وشأنهم. ولكن لا. بل هم يشعلون النار لكي "يحرقوا" الأبرار. ولكنَّهم يحترقون بالنار التي أشعلوا، وفي النهاية يموتون (ش ك ب، رقد، نام) وهم مضايَقون، موجعون. هذا ما حصل للذين أشعلوا النار على الفتية الثلاثة (دا 3: 22).

هكذا بدا "عبد الربّ". تتلمذ، حمل الكلمة، دعا إخوته إلى الثقة بخلاص الربّ. رفضوا السماع له، واضطهدوه، كما أرادوا أن يضطهدوا خائفي الله مثله. ولكنَّهم احترقوا بالنار التي أشعلوها. ويسوع المسيح جاء يبشِّر بالملكوت. رفضوه. ومن رفضه؟ خاصَّته (يو 1: 11). وفي النهاية قتلوه. والنتيجة دُمِّرت أورشليم وتشتَّت الشعب. واختار الله له شعبًا جديدًا على ما قال الربُّ في المثل الإنجيليّ: "يَقتل هؤلاء الأشرار ويسلِّم الكرم إلى كرّامين آخرين يعطونه الثمر في حينه" (مت 21: 41).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM