الفصل الثامن والأربعون: الشعب المعاند والنداء إلى التوبة

الفصل الثامن والأربعون

الشعب المعاند والنداء إلى التوبة

بما أنَّ بابل تتهاوى، فيهوذا تستطيع أن ترفع رأسها. والربُّ يثبِّت مسيرتها بفم نبيِّه. ولكن قد يحسب بنو إسرائيل أنَّهم نالوا هذه العطيَّة بقواهم الخاصَّة. أو ممّا هو أسوأ بواسطة الأصنام. لهذا نرى الله يمزج مواعيد الخلاص باللوم والتوبيخ. قلبهم قاسٍ وإلى الآن لا يفهمون. لا يعرفون أن ينظروا إلى الماضي وما فيه من أعمال الله العظيمة، فكيف يتطلَّعون بثقة إلى الحاضر والمستقبل؟ ولكن مع اللوم يواصل الله مشروعه الخلاصيّ من أجل شعبه. فلا مجال لليأس لاسيَّما وأن الله يعدُّ لشعبه خروجًا جديدًا يشبه الخروج الأوَّل مع موسى. أمّا هذا الخروج فيكون بقيادة كورش الذي دعاه الربُّ (آ15) وأنجحَ له طريقه.

48: 1-11 اسمعوا هذا

يوجّه النبيّ كلامه إلى شعب الله. يذكر له الامتيازات التي نالها لكي يبرز بعد ذلك نكران الجميل. هو نداء احتفاليّ مع تسميات عديدة. "بيت يعقوب" (آ1) أي القبائل الاثنتا عشرة، اللتان شكَّلتا في الماضي مملكتَي إسرائيل ويهوذا: كلتاهما مضيا إلى السبي بسبب الخطيئة، وكلتاهما تعودان إذا شاءتا. ثمَّ "اسم إسرائيل". ما هو اسم محدود. ليسوا شعبًا بين الشعوب، بل هم من يقول لهم أنتم شعبي ويقولون له: أنت إلهنا. ثمَّ "مياه يهوذا". شربوا من مياه يهوذا. قال الترجوم: من نسل يهوذا الذين سمعوا النداء: "هوذا إلهك... يأتي بقوَّة" (40: 9-10). والتسمية الثالثة: "الحالفين باسم الربّ". سمعوا كلام سفر التثنية: "الربُّ إلهك تتَّقي، وإيّاه تعبد، وباسمه تحلف" (تث 6: 13). وتضيف تث 10: 20: "به تلتصق". إذًا لا علاقة له بآلهة الأمم، مهما عظم شأن الشعوب المتعبِّدين لها.

وأخيرًا يأتي فعل "ذكر". فبيت يعقوب يحتفظون بكلِّ كلمات الربّ "ولا يذكرون اسم آلهة (أو: إله آخر) أخرى، ولا يُسمَع من فمك" (خر 23: 13). أقام بنو إسرائيل وسط القبائل الكنعانيَّة فقيل لهم: "لا تدخلوا إلى هؤلاء الشعوب، أولئك الباقين معكم، ولا تذكروا اسم آلهتهم، ولا تحلفوا بها، ولا تعبدوها، ولا تسجدوا لها، ولكن التصقوا بالربِّ إلهكم كما فعلتم إلى هذا اليوم" (يش 23: 7-8). هذا اليوم هو أيّام المنفى وما بعدها. هذا يعني أنَّ المسبيّين في بابل لا يذكرون سوى الربِّ الإله. ولكنَّ هذا "الذكر" لبث على مستوى الشفاه ولم يعبِّر عمّا في القلب. لهذا جاء النفي (لا) مع "ا م ت" (الحقّ، الأمانة) و" ص د ق ه" (البرارة، الصدق). أهكذا يدعو المؤمنون ربَّهم؟ توبيخ قاسٍ. ومع ذلك يتَّخذون تسمية أخرى: هم من المدينة المقدَّسة. هكذا دَعوا نفوسهم، ولكنَّهم ليسوا بالحقيقة من مدينة الله. ثمَّ اعتبروا أنَّهم يقدرون أن يستندوا إلى الله. مثل هذا الإله هو "صنم" أو "حرز" يلجأون إليه وقت الشدَّة. أمّا الإله الحقيقيّ فاسمه: ربُّ الجنود. هل هذا هو إلههم؟ أمّا إلهنا فهو في السماء "كلَّ ما شاء صنع" (مز 115: 3).

بعد هذه المقدِّمة الاحتفاليَّة، يأتي البرهان الأوَّل (آ3): الأحداث السابقة. أخبر الله عنها وهي تمَّت. ثلاثة أفعال: أخبر، أسمع، خرجت من فمي. ثمَّ لا مسافة بين قول الله وفعله: قال فكان كلُّ شيء وأمرَ فصار كلُّ موجود. هل استعدَّ بيت يعقوب لكي يقتنع؟ هو القساوة بالذات ويشبَّه بالحديد والنحاس، لا شيء يلويه. أخبره الله، ومع ذلك لبث يتطلَّع "بالصنم والمنحوت والمسبوك" (آ5).

"سمعتَ" (آ6). هل صدَّقت؟ وإذا صدَّقت فماذا تنتظر لكي تخبر عن أعمال الربِّ المجيدة؟ ربَّما يخاف وهو في بابل. فالجميع ينسبون الأمور العظيمة إلى مردوخ. فمن يجسر أن يقول غير ذلك؟ نجد صدى لهذا الوضع في سفر دانيال حيث يُمنَع المؤمن أن يجاهر بإيمانه. ولكنَّ الربَّ يقول: "من يعترف بي قدَّام الناس أعترف به قدَّام أبي الذي في السماوات، ومن ينكرني قدَّام الناس، أنكره قدَّام أبي الذي في السموات" (مت 10: 32-33). ثمَّ إنَّ السير مع "السلطان" يمنح عددًا من المنافع. فلماذا نعارضه؟ ولكن ماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟ (مت 16: 26).

إذا كنتَ لم تقتنع بما حصل في الماضي، فأنا "أسمعك" الجديد منذ الآن. ما هو الجديد؟ سقوط بابل والخروج الجديد. الجديد طريق مرسومة في البرِّيَّة من أجل العودة إلى أورشليم. هذا الجديد خبَّأه الربُّ إلى الآن، "صرَّه" (وضعه في صرَّة) بحيث لا يعرفه أحد إلاَّ حين يتمّ. كلُّ هذا حصل "اليوم". فالربُّ ليس إله الماضي فقط. فهو أيضًا إله الحاضر، والعيون تستطيع أن ترى أفعاله (آ7).

ويأتي اللوم: أنت لا تسمع ولا تريد أن تسمع. أنت لا تعرف وترفض أن تعرف. إلى الآن لم تفتح أذنك (آ8). هل هذا ضعف؟ كلاّ. بل إرادة سيِّئة: هو الغدر والعصيان. الله هو الأمين وبيت يعقوب هو الغادر. فهل تتواصل المسيرة معه؟ الله هو الأب المحبّ والشعب يعادي، يعصي الأوامر، يثور، يتمرَّد مثل طفل أو مراهق. هو لم يصل بعدُ إلى مرحلة النضوج.

ومع ذلك، هل يتوقَّف الله عن مسيرة الخلاص؟ كلاّ. من يدفعه إلى ذلك؟ اسمه. فاسم الربِّ معروف في الأمم. ثمَّ يقال: هذا الذي خلَّص في الماضي، ألا يستطيع بعد أن يخلِّص؟ ثمَّ يقول: "لأجلي" (ل م ع ن ي) ويكرِّر (آ11). لأنَّ الله هو الله. ويعيد: "لاسمي"، وأخيرًا يعتبر الربُّ أنَّه يتمجَّد حين يخلِّص. فهل يترك أحدًا يأخذ مجده؟ فمجد الله يُرى في الخلق وفي الخلاص. وإن كان هناك من "تأديب"، فمن أجل التنقية. فلا مجال لبقاء الزغل في معدن اختاره الله.

وهكذا بدا الله صبورًا. وأكثر من ذلك، محسنًا تجاه أولاده الغادرين. فخرجوا من هذه المحنة أفضل من قبل. فالربُّ هو السخيّ الذي يعطي ويفتخر بأنَّه أعطى. هو الحبُّ الذي به يتجاوز كلَّ تصرُّفات البشر على ما قيل في نبوءة هوشع: "ماذا أعمل لك؟ اضطربت مراحمي في قلبي" (هو 11: 8). فأنا أمّ والأمّ لا يمكن أن تتخلّى عن أبنائها.

48: 12-22 اسمع لي، يا يعقوب

نداء ثانٍ إلى السماع. الربُّ القدير دعا كورش، بل "صنعه" من أجل مهمَّة ورسالة. فالنبيّ شاهد على ذلك وهو يدعو شعبه إلى الأمانة لتعرف حياتُه الطمأنينة. ويدعوه إلى الإيمان: هل تعرفون من هو الله؟ "أنا هو". أي يهوه، الربّ. أنا أوَّل، لا بداية قبلي. أنا آخر. لا أحد بعدي. فالخليقة كلُّها في المكان والزمان هي بين يدي الربّ. السماوات والأرض تطيعه، فيكفي أن يناديها. وشعبه ألا يعرف أن يسمع، أن يطيع؟ "يدي"، "يميني". هي قدرة الله تسود الكون وما فيه. "للربِّ الأرض وملؤها، المسكونة وكلُّ الساكنين فيها. لأنَّه على البحار أسَّسها، وعلى الأنهار ثبَّتها" (مز 24: 1).

ذاك الذي هو من الأزل ويدوم إلى الأبد. ذاك الذي هو البداية والنهاية. هو يتحدَّث عن نفسه ويدعو شعبه الذي دعاه، إلى السماع والإصغاء. الكون يطيعه. وكورش يطيعه. لهذا له السلطان أن يدعو بني إسرائيل لكي يجتمعوا ويصغوا. ماذا سوف يعمل الآن؟ يزيل استبداد بابل. لهذا دعا الملك الفارسيّ وعمل كلَّ شيء ليؤمِّن له النجاح (آ15).

"تقدَّموا إليَّ واسمعوا" (آ16). تنبيه هامّ: "لم أتكلَّم من البدء في الخفاء"، في الستر (ب س ت ر). كلامًا مستورًا، مخفيًّا لا يفهمه أحد. لماذا يخاف النبيّ أن يتكلَّم إذا كان كلامه صادقًا، وإذا كان امتدادًا لأقوال الربّ؟ ثمَّ إنَّه يحمل "إنجيل" الخلاص بما فيه من نداء إلى الرجاء والفرح. إذًا، هو يفتخر بأن ينادي عاليًا بما يقول، على مثال ما نقرأ عند النبيّ ميخا: "بفضل روح الربّ، امتلأت قوَّة وحقًّا وبأسًا لأخبر يعقوب..." (مي 3: 8).

"هكذا يقول الربّ" (آ17). اختفى النبيّ وراء كلام الربّ. هو الفادي، والقدّوس، والمعلِّم، والمسيِّر... يعلِّمنا، يمشّينا كما الأمّ تساعد ابنها على المشي، فماذا ننتظر لكي ننفتع، نستفيد من كلِّ هذه النعم؟ فإذا أراد أبناؤه أن يخلصوا، يكفيهم أن يصغوا، أن يسمعوا ويطيعوا: فيكون لهم السلام وافرًا (مثل نهر، مثل بحر)، والبرُّ يعلِّمهم كيف يسيرون في وصايا الله. فالبركة ترافقهم وتُبارك نسلهم ساعة تزول "جماعة الكلدانيّين" (آ14). عندئذٍ لن يزول اسمهم عن الأرض.

ولكن إذا أراد "زرع يعقوب" أن ينمو، عليه أن يخرج من بابل. يبدو أنَّ الكثير من المنفيّين رفضوا العودة إلى أورشليم وفضَّلوا البقاء في بابل بعد أن أثروا واغتنوا فأسَّسوا المصارف وفتحوا المتاجر. لماذا الهرب؟ بسبب الأصنام وبسبب التقيُّد بالمال على حساب الله: "لا تقدرون أن تعبدوا ربَّين ". نداءان يصلان إلى المؤمنين: أن يكونوا مع الربِّ في طريق البرِّيَّة على مثال آبائهم برفقة موسى، أو أن يعايشوا "بابل وأصنامها". الخراب يستعدُّ لأن يضرب بابل، أمّا الصحراء فسوف تتحوَّل بحيث تخرج المياه من الصخرة. هو "حلم" يعيشه "الخارجون" من المدينة الأثيمة: انتقلوا من العبوديَّة إلى الحرِّيَّة بعد أن افتداهم الله. كانوا يبكون وها هم يرنِّمون: "عندما ردَّ الربُّ سبي صهيون، صرنا مثل الحالمين. حينئذٍ امتلأت أفواهنا ضحكًا، وألسنتُنا ترنُّمًا" (مز 126: 1-2). هؤلاء هم الأبرار الذين جعلوا ثقتهم بالربّ: فهو يخلِّص ويخلِّص دومًا، هو أحبَّ ولا شيء يقف في وجه حبِّه حتّى الغدر والخيانة من قبل شعبه. هو أحسنَ إلى "المساكين" وما زال يحسن. فلا مجال لليأس. ولكنَّ "الأشرار" (ر ش ع ي م) لن يستفيدوا من كلِّ هذا، لا لأنَّ الربَّ يرفضهم، بل لأنَّهم يرفضون الربَّ ويلبثون متعلِّقين بأصنامهم التي يعتبرون أنَّهم يجدون فيها الحياة. ونحن، في أيِّ فريق نكون ؟


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM