الفصل السابع والأربعون: الحكم على بابل وسقوطها

الفصل السابع والأربعون

الحكم على بابل وسقوطها

تحدَّث ف 46 على خلاص أورشليم وردَّد اللفظ مرَّتين معلنًا أنَّ هذا الخلاص لن يتأخَّر. كيف استطاع النبيّ أن يستشفَّ هذا الخلاص؟ حين رأى بابل تتهاوى ولا تجد من يخلِّصها (47: 15). تباهت أورشليم (ف أ ر) وافتخرت بمجد الربِّ الذي يزيِّنها. وتجاهها بابل التي "نزلت وجلست على التراب" (ع ف ر). ماذا استطاع أن يفعل آلهة بابل "لزهوة المدائن؟" لا شيء. إذًا هي إلى السقوط. أمّا إله أورشليم، فحمل شعبه ورفعه. تلك التي قالت: "أنا وليس غيري" (آ8)، لم تعد موجودة الآن. تلك كانت "سيِّدة الممالك" (آ6)، والتي اعتبرت أنَّها تكون "سيِّدة إلى الأبد" (آ7)، هي الآن عبدة تكشف عن ساقيها وتعمل على الرحى (آ2).

وهكذا نقرأ في ف 47 مرثاة تشبه الأقوال على الأمم (ف 13-14): هي دينونة الله حيث الاتِّهام والحكم والعواقب، مع تنبيه أخير حول الطقوس الأصناميَّة (التي عرفها الحكم النازيّ مثلاً في القرن العشرين) التي لا تفيد شيئًا، بل تقود ممارسيها إلى الدمار والموت.

47: 1-5 اجلسي على التراب

صوَّر سفر المراثي أورشليم "جالسة" مثل أرملة. والآن جاء دورُ بابل. ارتفعت عاليًا وها هي سقطت وسقطت. "ي ر د"، نزلت كما ينزل الماء عن الجبل وينحدر. لا كرسيّ ولا عرش. "اجلسي" على التراب. اجلسي على الأرض مثل الإماء والجواري. "ابنة بابل" أو: مدينة بابل. كنت "رقيقة" (ر ك ه)، "مغناجة" (ع ن ج ه). دعَوك "ناعمة، مترفِّهة". هذا في الماضي. أمّا الآن فهي تعمل في العبوديَّة، كما فرضت على الأسرى فيها أن يعملوا. ستَّة هو رقم النقص، ممّا يعني أنَّ الأعمال التي تقوم بها لم تكتمل فهناك أعمال أخرى كثيرة.

كانت "ابنة الكلدانيّين" ترى عورة الخادمات، وها هي الآن تكشف عورتها. وهنا تهتف "ابنة أورشليم" التي رأت أولادها في المنفى: "الآن أنتقم". بحسب شريعة: سنّ بسنّ وعين بعين. كما فعلتِ يُفعَل بك. ولا تحتاج إلى "إنسان" (أ د م)، بل تسلِّم أمرها للربِّ. فالبشر لا يستطيعون شيئًا. من يقوّي شعبه؟ اسمه "ربّ الجنود"، الربّ القدير. ونعود في آ5 إلى ما قرأناه في آ1: "اجلسي". لا مكان لك إلاَّ على الأرض. كنتِ تنشدين وتهتفين، أمّا الآن فالصمت يلفُّك. كنت في النور، والآن اقبعي "في الظلام". كنتِ "سيِّدة" فصرت أمة في خدمة أسيادك[RK1] .

47: 6-11 غضبتُ على شعبي

أقام الربُّ العدالة، فسقطت بابل وعادت أورشليم إلى سابق عزِّها. هو ما أنَّبها لأنَّها احتلَّت أورشليم، وأحرقت الهيكل وأخذت الملك إلى السبي. في كلِّ هذا كانت أداةً في يد الربّ. بل تحدَّث عن شعبه الخاطئ، عن ميراثه الذي تدنَّس بالأوثان. ولكنَّ بابل نالت العقاب لأنَّها تجاوزت ما طُلب منها. لم تترك مجالاً للرحمة للشيوخ والأطفال ولا راعت الحبالى والمرضعات. واعتبرت نفسها "خالدة". هي السيِّدة وستكون السيِّدة إلى الأبد! كما أنَّ أورشليم لم تعرف معنى الأحداث كما شرح لها الأنبياء، وخصوصًا إرميا. كذلك بابل، جعلت نيرها على الشعوب فكان ثقيلاً جدًّا. ونسيَت أنَّ الأمور قد تنقلب. وها هي الآن.

"فالآن اسمعي". بعد الاتِّهام، ها هو الحكم. ستكونين ثكلى وأرملة. أفقدتِ الشعوب أولادهم وها أنت تفقدين أولادك. وأفقدتِ النساء أزواجهنَّ، وها أنت أرملة في لحظة. انظري أين كنتِ وأين صرتِ. هل تتعلَّمين السحر؟ هذا لا ينفع. والرقيَّة؟ لا تفيد شيئًا. فوسائل البشر لا تقف أمام مخطَّط الله. ولا نقول شيئًا عن "الطرق الشيطانيَّة". الكارثة آتية عليك.

اختبأت بابل وراء شرِّها. قالت: "ليس من يراني". ذاك ما يقوله الأشرار في كلِّ عصر. ولكنَّ الذي خلق العينين ألا يرى؟ واعتبرت أنَّ "الحكمة والمعرفة" تساعدانها فتنجو من العقاب. فما تكون حكمة البشر أمام الله؟ وإلى أين تصل بنا المعرفة البشريَّة؟ كم هي قصيرة النظر! مثل هذه المعرفة بدت كأنَّها لامعرفة[RK2] وإخفاء الرأس تحت الرمال. وحسبت بابل نفسها أنَّها "إله" والباقي لا شيء. هي القوَّة وغيرها لا يقدر أن يفعل شيئًا. وتأتي مجازاة الكبرياء: نظرها فوق نظر الله، قدرتها فوق قدرة الله. هل عرفت أنَّ الأصنام التي استندت إليها هي لا شيء. فما هو مصدر قوَّتها؟! مسكينة هي!

هنا يرد ثلاثة ألفاظ. الأوَّل "ر ع ه"، الشرّ. كيف تتخلَّصين منه وعنه تبتعدين؟ الثاني "هـ و ه"، نكبة. هي تهوي، تسقط عليك مثل صخرة وتسحقك. هل تستطيعين أن تصدِّيها والثالث "ش و أ ه"، تهلكة، خراب. هو أمر لا يمكن أن تتخيَّليه ولا أن تعرفي النتائج التي يترك وراءه. أنت الآن ضعيفة، متروكة. هل تدْعين السحَرَة وماذا يفعلون لك؟

47: 12-15 قفي منتصبة

ماذا ينفع بابل إن لبثت واقفة؟ ماذا تنتظر؟ سوف يخاف الناس حين يرونك وأنت تحاولين التخلُّص ممّا صرتِ إليه. السحرة؟ لا ينفعون. أصحاب المشورة؟ صاروا بلا حكمة ولا فهم. الذين يرصدون النجوم؟ يعرفون ما يصيبك. هل يقدر كلُّ هؤلاء أن يخلِّصوك؟

من يمنح السعادة؟ الله. الشقاء؟ الله والله وحده (45: 7). فهو الذي خلق القمر والكواكب ويقودها كما يشاء. فلماذا البحث عن المستقبل إلاَّ في الله؟ وفي أيِّ حال، ماذا يشكِّل هؤلاء؟ بعض القشّ. وماذا يفعل القشّ أمام النار؟ ونحن نتذكَّر أنَّ النار ترمز إلى الله وعمله. فهل يستطيع السحرة والمنجِّمون أن ينجوا من اللهيب؟ هم لا ينجَّون أنفسهم فكيف ينجّون مدينتهم؟

ماذا تنفع نار القشّ؟ هل تعطي الدفء أم تزول سريعًا؟ وهكذا هم الذين استندت إليهم بابل. يا ليتها تعرف أن لا مخلِّص إلاَّ الربّ الإله. أمّا الذين دفعت لهم الأجرة فهربوا ومضوا "كلُّ واحد على وجهه" (آ15).

هكذا تجلس بابل صامتة أمام الشرِّ الذي حلَّ بها. قبلها جلست أورشليم، ولمّا اكتشفت الإله الحقيقيّ وتركت الآلهة الكاذبة، نالت الخلاص. فيبقى على بابل أن ترى سعادة أورشليم وتكتشف هي أيضًا الإله الحقيقيّ. فهي مدعوَّة إلى الخلاص، شأنها شأن أورشليم. لأنَّ خلاص الربِّ يجب أن يصل إلى أقاصي الأرض.


[RK1]تصوير جميل للنص.

[RK2]لا space معرفة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM