الفصل السادس والأربعون:آلهة بابل الكاذبة

الفصل السادس والأربعون

آلهة بابل الكاذبة

بدا الله "محتجبًا" فما استطاع الشعوب أن يروه ويلمسوه كما يلمسوا تماثيلهم وأنصابهم. ولكنَّ انتصارات كورش كشفت للعالم أنَّه الإله الحقيقيّ، الذي خلق السماوات والأرض وهيَّأ السكن للبشر. وأنَّه يخلِّص جميع الشعوب بعد أن حرَّرهم من عبوديَّة بابل. ظنَّ الناس في وقت من الأوقات أنَّ أصنام بابل أقوى من الربِّ القدير، فخضعوا لها واعتادوا الخضوع بشكل خاصّ في عيد رأس السنة: قوَّة مسيطرة تفرض نفسها على "المسبيّين" الضعفاء. خشعوا لها وما بحثوا عن شيء آخر. "إلهنا" أقوى من "آلهتكم". ذاك هو كلام الأكثريَّة تجاه الأقلِّيَّة: فالأكثريَّة تمتلك المال والسلطة والقوَّة، فلماذا لا تسير الأقلِّيَّة في ركابها؟ ولماذا لا تكون الأقلِّيَّة جزءًا من الأكثريَّة؟ هي تجربة رافقت المؤمن على مدِّ العصور.

وجاء النبيّ فبيَّن للمؤمنين أنَّ هذه "الآلهة الكاذبة" سوف تسقط سريعًا، وتجثو أمام الربِّ القدير. هذه الأصنام التي تُرفَع عاليًا، هي أعجز من أن تفعل شيئًا. تُحمَل في التطواف، كما تُحمَل إذا جاء العدوّ لئلاَّ تؤخذ مع السبايا. ما هذه الآلهة الصامتة تجاه الإله الذي يتكلَّم ويفعل؟ دعا كورش (آ11) وفعل بيده. فذاك الذي خلَّص في الماضي، يخلِّص اليوم وغدًا. فلماذا الذهاب إلى مردوخ ورفاقه؟ لهذا جاء كلام النبيّ تنبيهًا إلى بني إسرائيل وتشجيعًا: "اسمعوا لي" (آ12).

46: 1-5 جثا بيل، انحنى نبو

كما البشر جميعًا "يجثون" أمام الربّ (45: 23)، كذلك تجثو آلهة بابل. "بيل" (ب ل) الذي يقابل "بعل"، السيِّد، هو مردوخ المحامي عن بابل. "نبو" (ن ب و) هو ابن المعلِّم (مردوخ) الكبير ومفسِّر ما يتَّخذه والده من قرارات. منذ الآن يراهما إشعيا محمولَين على دابَّة أو جمل ومأخوذين ذهبًا للاستعمال اليوميّ.

والعبرة: رُفع الصنم والآن انزُل. أمّا شعب الله فيرفعهم الله ولا يزال يرفعهم. الدابَّة تؤمِّن الخلاص لمردوخ، أمّا شعب الربِّ فخلاصه يؤمِّنه له الربّ. وهذه المطيَّة تتعب بسبب الثقل الذي على ظهرها (44: 12). أمّا الله فلا يتعب، أمّا الله فيعيد الهمَّة إلى شعبه حين يتعب. هنا تأتي المقابلة بين "ع ي ف" (تعب) وبين "ي ع ف" (ضعف).

"البقيَّة". هي بقيَّة قليلة. ولكنَّ الربَّ أخذها بيده، كما يؤخذ الطفل منذ خروجه من بطن أمِّه، وكما يُسنَد الشيخ في أواخر حياته. هذا يدلُّ على اهتمام الله الذي يتواصل ويتواصل. يتكرَّر في آ4 الضمير "أ ن ي"، أنا، خمس مرّات (رقم مقدَّس). أنا هو. أي أنا حاضر ولا يمكن أن أغيب. أنا "أحملكم"، وأنتم لا تحملوني، كما تُحمَل الأصنام. أنا صنعت أو فعلتُ وأفعل حتّى النهاية. فالأمُّ التي ولدت ابنها، أما تدعوه حتّى ينمو، أما تربِّيه؟ والرابع: أنا أرفع. والخامس: أنا أحمل أيضًا. ليس الشعب هو من "يعمل" للربّ، بل الربُّ هو من يعمل لشعبه ويعامله كما الأب أبناءه في خطِّ نبوءة هوشع (11: 3) وسفر التثنية (1: 31): "رأيتَ كيف حملك الربُّ إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كلِّ الطريق التي سلكتموها حتّى جئتم إلى هذا المكان". شبَّه الربُّ نفسه بالنسر "الذي يبسط جناحيه ويأخذ فراخه ويحملها على مناكبه" (تث 32: 11). ويذكِّر الربُّ شعبه في مسيرة البرِّيَّة: "حملتكم على أجنحة النسور وجئتُ بكم إليَّ" (خر 19: 4).

46: 6-13 بمن تشبِّهونني؟

بعد هذا، تجرأون فتشبِّهونني بهذه الآلهة الميتة. كم أنتم عميان! كم أنتم قساة الرقاب! أين هو إيمانكم؟ الربُّ الإله يحملكم، أمّا الصنم فأنتم تحملونه. وحين تضعونه في الكوَّة، يبقى هناك ولا يعود يتحرَّك. يناديه عابدوه فلا يردُّ عليهم. يطلبونه فلا يجيبهم. أمّا الله فيردُّ على صلاة محبِّيه (41: 17: أستجيب لهم) ويحمل إليهم الخلاص، ويحمله سريعًا (46: 13). والمؤسف هذا الذهب الذي يُتلَف، والفضَّة التي تضيع. أمّا الصائغ فينال أجره. هل يفكِّرون أمام من "يخرّون ويسجدون"؟ أمام بعض الخشب والذهب والفضَّة!

في آ8، يدعو النبيّ المؤمنين لكي يفكِّروا ويتأمَّلوا. "ز ك ر و". تذكَّروا. هل نسيتم؟ يبدو أنَّهم يرفضون أن يتذكَّروا. "عودوا" إلى ذواتكم. ويتكرَّر الفعل "تذكَّروا" الأحداث الأولى، الخروج من مصر، الإقامة في البرِّيَّة وصولاً إلى أرض الموعد: ثار المنفيّون على الربّ، ماذا ينتظر؟ صرنا مثل الموتى. ولكن حين يتذكَّرون تشتعل فيهم جذوة الرجاء. تذكّروا لا لتبقوا في الذكريات وتعيشوا على الأمجاد، بل لتعرفوا أنَّ الله يستعدُّ لأن يعمل جديدًا لم تسمعوا عنه من قبل. فهل أنتم بعدُ غير واثقين؟ أنا الله. لا إله سواي. الآلهة عدم. أمّا الربُّ فمخطَّطه قديم وهو يستعدُّ لكي ينفِّذه. فليس لكم إلاَّ أن تنتظروا.

وما هو المخطَّط؟ عودة المنفيّين بواسطة كورش الذي دعاه ويأتي به من الشرق: هو كالطير الكاسر، وقد شبَّه نفسه بالنسر، كما روى المؤرِّخون اليونان.

"اسمعوا" (آ12). ثلاثة نداءات. الأوَّل (آ3): اسمعوا، يا بيت يعقوب. وبيَّن لهم كم يهتمُّ بهم منذ طفولتهم إلى شيخوختهم. الثاني (آ8-9): اذكروا، اذكروا. هم الثائرون، الرافضون الذين لا يريدون أن يسمعوا بعد أن ثقلت آذانهم بأقوال الأنبياء الكذبة، وضاع قلبهم بسبب ما يرون حولهم من عظمة لمردوخ واتِّضاع للربِّ الإله. تلك كانت خبرة المسيحيّين الأوَّلين الذين اعتادوا على الصلاة في الدياميس، ساعة أصحاب الديانات يمارسون احتفالاتهم بكلِّ أبَّهة وجلال. والنداء الثالث "اسمعوا". قلوبكم قويَّة لا للخير، بل للشرّ. هم أقوياء في رفض "البرّ" والاستماع إلى ما يطلبه الربّ.

وتأتي المواعيد (آ13) مع ثلاثة أفعال: البرارة صارت قريبة. لم تعد بعيدة. الخلاص لا يتأخَّر (ت أ ح ر). والعطاء: أعطي صهيونَ الخلاص، فماذا يمكن بعدُ أن تنتظر؟ وأعطي شعب إسرائيل "جلالي"، بهائي، فخري. ما به أتمجَّد أقدِّمه لشعبي.

مشروع الله حاضر، والمنفى لم يُلغِه، بل أخَّره بعض الشيء. وهذا المشروع يدخل في حقبة جديدة. من تخيَّل أنَّ بابل تسقط؟ من تخيَّل أن يلجأ الربُّ إلى ملك وثنيّ؟ من تخيَّل عمل الله بالرغم من القلوب اليائسة، الثائرة التي ما عادت تنتظر شيئًا؟ كلُّ هذا غير معقول بالنسبة إلى البشر. ولكنَّ الله لا ييأس ولا يتبدَّل. عملَ في الماضي وهو يعمل اليوم وغدًا لأنَّه سيِّد المستحيلات[RK1] .


[RK1]فكرة مشجعة ومناسبة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM