الفصل الخامس والأربعون: كورش مسيح الربّ

الفصل الخامس والأربعون

كورش مسيح الربّ

اعتاد الله على مدِّ التاريخ أن يختار من وسط شعبه أناسًا يحقِّقون مقاصده. أمّا الآن فمضى إلى خارج شعبه، إلى بلاد فارس. صار كورش "مسيح" الربّ. اختاره الله، مسحه، وطلب منه أن يقوم بمهمَّة التحرير من أجل شعبه. وهذا "الملك الوثنيّ" أتمَّ مسرَّة الله فعرف أنَّ الله أقام كورش "مسيحًا له". وفي قسم ثانٍ (آ14-25) نفهم معنى انتصارات هذا الملك الآتي من البعيد. فالنبيّ الذي دخل في سرِّ الله، اكتشف أنَّ الله يستفيد من الطبيعة، وبالأحرى من البشر، لكي يحمل الخلاص إلى شعبه كما إلى شعوب الأرض كلِّها.

45: 1-13 هكذا قال الربّ

"هكذا يقول". ها هو الربُّ يكلِّم كورش، كما كان يكلِّم داود. فالملوك جميعًا خاضعون له. أمّا "المسيح" فهو "الممسوح" أي ذاك الذي يختاره الربُّ ويمسحه بالزيت من أجل مهمَّة خلاص. ثمَّ إنَّ هذا الملك الوثنيّ صار "ابن" الله، يمسكه بيده كما الوالد يمسك ولده ويأخذه ويبعد عنه كلَّ خطر (42: 6). في المعنى الحرفيّ، لا نستطيع القول إنَّ كورش "مُسح بالزيت" شأنه شأن شاول وداود. ولكنَّ الله، وهو الربُّ القدير، جعله في خدمته. وما نلاحظ هو أنَّ الربَّ يفعل، لا كورش. يقال إنَّ الربَّ: داس (الأمم)، فتح، فتح. وإن هو فتح بابًا فمن يجسر أن يغلقه (س ج ر، سكَّر في العاميَّة).

أمامه يسقط "الأمم" و"الملوك"، ويسقط عن "أحقّائهم" السيف بحيث لا يستطيعون أن يقاوموا بعد. أبواب المدن تفتح على "مصراعيها"، فلا حاجة إلى القتال. وتأتي الأفعال (آ2): سار (قدّامه). مهَّد (الهضاب). كسَّر، قصَّف. وهكذا صار كورش غنيًّا جدًّا. هنا نتذكَّر أنَّه استولى على كنوز ملك ليدية (تركيّا) كريسوس. كلُّ هذه القدرة تظهر لكي "يعرف" كورش. ولكنَّ كورش لن يعرف أنَّ الربَّ "دعاه باسمه". فالإنسان يحسب أنَّه يفعل بقوَّته ما يفعل وأنَّ الله لا يدخل في حياته، إلاَّ إذا أصابه مرض أو مصيبة. عندئذٍ يحسُّ "بيد الربّ".

وما هي المهمَّة الملقاة على عاتق كورش؟ الاهتمام بيعقوب، بإسرائيل[RK1] . فالربُّ هو الذي يحمل التاريخ بيده، كما الأشخاص. ويتكرَّر الكلام "دعوتك باسمك" (آ4)، "وكنيتك". وحين دعوتك "كوَّنتك".

وتتردَّد العبارة: أنا الربّ. في هذا التأكيد "تُلغى" الآلهة المعبودة. حرفيًّا: "ليس بعدُ سواي، ليس إله" (آ5). ثمَّ في آ6: "لا غيري، أنا يهوه، وليس بعد". هذا ما يجب أن يهتف له المؤمن كلَّ يوم وسط الأصنام التي تملأ بابل. الربُّ هو الإله الحقيقيّ. هو الإله الوحيد وهذا الإله هو  من القدرة بحيث يجعل أناسًا مثل كورش يخضعون له دون أن يعرفوه. هكذا تعرفه البشريَّة كلُّها "من مشرق الشمس إلى مغربها". عظمة الله أنَّه الخالق. ويتردَّد فعل "ب ر ا" (برأ في العربيَّة)، ثمَّ "ع ش ا" صنع. وهكذا نعود إلى البدايات مع خلق الكون والإنسان. أي "إله كاذب" يستطيع أن يفعل هذا. لا شيء يحصل بدون الربّ: النور والظلمة، السلام (والخير والسعادة) والخير والشقاء (والتعاسة والألم). ولماذا التفصيل: الله خلق، صنع "كلَّ هذه". إذًا لا خالق سواه. والإله مردوخ؟ لا وجود له إلاَّ في الأخبار القديمة والأساطير، مهما قال فيه الناس وعيَّدته بابل.

والله ليس الخالق في الماضي فقط، فهو يخلق اليوم. يدعو السماء من فوق فترسل الندى. يدعو الأرض، تحت، فتفتح أثلامها لتتقبَّل المطر وتعطي الخير للبشر. هذا على المستوى المادّيّ. فالبشر يحتاجون "البرّ" (ص د ق) والصدق، كما يحتاجون "الخلاص" (ي ش ع) والبرارة (ص د ق ه). وهكذا تجتمع الأرض والسماء، البشريَّة والله، كما العروس والعريس، من أجل افتداء البشر. تحدَّث الكتاب المقدَّس عن عودة من المنفى. أمّا آباء الكنيسة فرأوا في هذا الكلام دعاء إلى الربِّ لكي يرسل مسيحه: لا الخلاص فقط، بل المخلِّص. لا البرّ فقط، بل البارّ، لا التحرير فقط من العبوديَّة، بل ذاك الذي يحرِّرنا من الشرّ والموت.

ولكنَّ البارّ الآن هو إنسان يعيد الحقَّ إلى نصابه، ويُرجع المنفيّين إلى ديارهم. إنَّما هذا "المخلِّص" يعمل في وقت محدَّد! عندئذٍ احتجَّ بنو إسرائيل الذين اعتادوا أن يروا "مخلِّصًا" من عندهم، لا من عند الوثنيّين. فكرَّر النبيّ ما سبق وقاله: أنا الربُّ خلقته، فمن يجرؤ أن يجادل؟ وفي أيِّ حال، إلى أين قاد يهوذا ملوكها؟ إلى الدمار والخراب والانقلاع عن الأرض. أمّا كورش فهو مدعوٌّ للبناء. هنا نتذكَّر كلام بولس الرسول حيث رُذل الشعب اليهوديّ وحلَّ محلَّه الوثنيّون: بنو إسرائيل فشلوا. ما وصلوا إلى البرِّ في يسوع المسيح (رو 9: 31). ويمكن أن يحصل لنا مثل هذا، نحن المؤمنين، فيسبقنا الآخرون إلى الخلاص، على ما قال الربُّ: "يأتون من المشرق والمغرب ويجلسون إلى المائدة مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات. وأمّا من كان لهم الملكوت، فيطرحون خارجًا في الظلمة..." (مت 8: 11-12). الجميع مدعوّون، ولكنَّ المختارين قليلون. الله يدعونا وهنيئًا لنا إن تجاوبنا مع ندائه. رفض صدقيّا كلام النبيّ فكان السببَ في دمار أورشليم. أمّا كورش فدعاه الربُّ فلبّى النداء.

ويأتي الحكم على هؤلاء "المخاصمين". يرد الاسم "جابله" مرَّتين. هو الله. ومن يقف أمامه؟ "الخزف" مع "أخزاف" آخرين! يا للتعاسة! أيَّ عقاب يستحقّون؟ وفي أيِّ حال، ماذا يستطيعون أن يفعلوا وهم ضعفاء ضعفاء؟ من يخاصم "جابله"؟ الطين! هذه المادَّة التي تُداس بالأرجل تقف تجاه الله! ويرفع الله الإنسان. لا شكَّ في أنَّه من طين الأرض. ولكنَّه أيضًا "ابن تجاه أبيه". غير أنَّ هذا الابن "يتَّهم" أباه، بل يلومه لأنَّه خلْقَه ليس بكامل. الطين يشير إلى الربِّ ويريد أن يصحِّح له عمله! والابن يسأل: ماذا خلقتَ؟ فهو غير راضٍ عمّا فعله أبوه. وبنو إسرائيل غير راضين عمّا فعله الربّ! يريدون أن يفرضوا مشيئتهم على الله، ولا يريدون أن يعملوا مشيئته! ولكنَّ الله يبقى الأب الحنون الذي لا يعاملنا بحسب جهلنا، بل يطيل روحه. وإذ لزم الأمر يعاقب، لا ليعاقب بل ليؤدِّب. ولهذا كان التهديد مرَّتين: ويل (آ9)، ويل (آ10). يا للتعاسة! ومن رفض السعادة من الربِّ كان له الشقاء. ومن خرج من النور أقام في الظلمة. فالإنسان يختار.

وتحدَّث الربُّ (آ11). هو "القدّوس" وبالتالي المختلف كلَّ الاختلاف عن البشر. ثمَّ هو "جابل" إسرائيل. ومع ذلك، أراد أن يقف مع شعبه من أجل "النقاش". لا تسألوني عن الماضي الذي فعلتُ "من جهة بني". النتيجة أمامكم. اسألوني عن الأمور الآتية، عمّا سوف أفعل. ما هي توصياتكم، أوامركم؟! أمّا تستحون وأنتم ترون الخلاص الذي تمّ؟

ويأتي ضمير المتكلِّم المفرد "أ ن ي" (أنا) فيدلُّ على قدرة الله التي لا تجاريها قدرة، وعلى حكمته التي تتجاوز حكمة البشر. أنا صنعتُ، خلقتُ... وأنا أنهضتُ... الربُّ خلق الأرض والبشر. الربُّ نشر السماوات كما يُنشر الثوب. الربُّ "أوصى" (ص و ي ت ي)، أمرَ "جند" السماوات وهي تطيعه. ويحتاج إلى "إنسان" (أ د م) لكي يوصيه ويأمره!

ثمَّ كرَّر الربُّ ما فعل حين اختار كورش وسهَّل له الطريق وحدَّد له أمرين يقوم بهما: يبني أورشليم، ويعيد المسبيّين إليها. هذا ما قال الربُّ القدير، وهو يفعل لأجل شعبه. فماذا يريد هذا الشعب بعد هذا؟

45: 4-25 هكذا قال الربّ

في الفصل الأوَّل من سفر التكوين نقرأ فعل "قال" عشر مرّات، للدلالة على عمل الله في خلق السماوات والأرض. وهنا يرد فعل "قال" أكثر من مرَّة. فالذي فعل في البدء يفعل الآن. وهو لا يفعل فقط من أجل شعبه، بل من أجل جميع الشعوب الذين كانوا أسرى في بابل "من مصر، من كوش، من سبأ". يمرُّون قرب أسوار أورشليم التي اعتُبرت مبنيَّة: يسجدون لأورشليم ومعها ويعترفون بالإله الواحد. أمّا سائر الآلهة فليستْ شيئًا (آ14).

ولماذا لم يعرفوا الله إلى الآن؟ لأنَّه "مستتر" (م س ت ت ر)، محتجب، لا تراه العيون (آ15). لا شكَّ في أنَّه كذلك للذين لا يؤمنون. ولكنَّه يجيب هؤلاء الشعوب: "ما تكلَّمت في "الستر" (س ت ر)، في السرّ، في الخفاء (آ19). لا لست الإله المحتجب كما تقولون، فأنا حاضر بالخليقة التي صنعت، وبالوحي الذي أرسلتُ. فالربُّ أرسل وحيَه إلى شعبه بواسطة الأنبياء. وسائر الشعوب يكتشفونه من خلال السماوات والأرض التي خلق[RK2] .

لا وجود بعدُ "للخلاء والفراغ" (ت هـ و، رج تك 1: 2): الله خلق، جبل (ي ص ر، ربَّما صوَّر)، صنع، ثبَّت. وعاد الفعلان: خلق الأرض وصوَّرها من أجل سكن البشر. "أ ن ي. ي هـ و ه"، أنا الربّ وما من ربٍّ آخر. لا إله قبلي ولا إله بعدي. فلماذا الذهاب إلى الأصنام؟ فمثل هؤلاء ينالهم الخزي والخجل. والحكم لا يطال الشعوب فقط، بل شعب الله أيضًا: هل ينسبون خلاصهم إلى مردوخ؟ هو "القدير" الذي جاء بهم إلى السبي، وهو من يعيدهم إلى ديارهم! هكذا تشبَّه الآلهة الكاذبة بالإله الحيّ! قال الرسول: إبليس يتزيّا بزيّ ملاك (2 كو 11: 14). وهل ينسب شعب الله خلاصه إلى "كورش"، كما سبق ونسب شقاءه إلى نبوخذ نصَّر؟ ومتى كان البشر مخلِّصين وهم لا يخلِّصون أنفسهم؟ وهذه التجربة يعيشها الناس اليوم حين يحسبون البشر "آلهة"، فيجعلون ثقتهم في "اللحم والدم"، كما كان الأقدمون يتوكَّلون على الخشب والحجر.

الشعوب تطلب الربَّ كما الشعب العبرانيّ[RK3] . لا شيء محجوب عنده. كلُّ شيء جليّ. وكيف نريده أن يكون في الظلمة وهو من دُعيَ "نور العالم بحيث أنَّ من يتبعه لا يمشي في الظلام" (يو 8: 12)؟ إذا كان الله خلق النور وأحلَّه محلَّ الظلمة، فكيف نريده أن يفضِّل الظلمة على النور، ويقيم فيها. وفي أيِّ حال قال يسوع لتلاميذه: "ما أقوله لكم في الظلمة، قولوه في النور. وما تسمعونه همسًا، نادوا به على السطوح" (مت 10: 27).

ويوجِّه الربُّ كلامه بشكل خاصّ إلى "نسل يعقوب": اطلبوني في "ت هـ و"، في الخواء والباطل. أتُرى الطفل يمضي إلى أمِّه وأمُّه غير موجودة؟ يسمع صوتها، يرى وجهها فيمضي إليها. ويتكرَّر "أ ن ي. ي هـ و ه". أنا الربّ، أنا هنا، ألا تسمعون صوتي؟ أما تأكَّدتم بعد؟ إن تكلَّمت تكلَّمت بالصدق (ص د ق). فأنا لا أخدعكم. وإن أخبرت أخبرت بما هو مستقيم. فالالتواء (والاعوجاج) الذي يعرفه العالم بعيد عنّي.

وتأتي الدعوة الآن، لا إلى الناجين "من يعقوب"، بل إلى "الناجين من الأمم" (آ20). هناك فئتان: فئة أولى ما زالت متعلِّقة بالصنم الخشبيّ الذي لا يخلِّص" (ل ا. ي و ش ي ع). هؤلاء جهّال. والفئة الثانية التي يدعوها الربّ: "التفتوا إليَّ واخلصوا" (آ22). قابِلوا بين إله "بارّ ومخلِّص" وآلهة "لا تخلِّص". واختاروا الطريق التي تقود إلى النور أو تلك التي تقود إلى الظلمة، الطريق التي تعود بكم إلى "الفراغ والخواء" أو تلك التي تمنحكم الخلاص والحياة الجديدة.

الدعوة تصل إلى "كلِّ أقاصي الأرض". نلاحظ هنا الشموليَّة في دعوة الله إلى البشر جميعًا[RK4] . أقسم الله هنا، كما اعتاد أن يقسم في كلامه إلى شعبه (14: 24). لا مجال للتراجع، والخلاص يُقدَّم للجميع. الله أقسم والشعوب أقسموا، وهكذا كان عهدٌ لا بين الله وشعب من الشعوب، لكن بين الله وجميع الشعوب. الصغير يسجد أمام الكبير ويحلف له. ثمَّ يعلن ما نسيَ أن يعلنه نسل يعقوب: لدى الربّ "البرارات والعزّ". فالربُّ صادق، وبما أنَّه القدير فهو لا يخاف من أحد. إنَّه يقول الحقَّ ويفعل. ولهذا يأتي إليه الجميع. "افتروا" عليه، جادلوه، وها هم يستحون من نفوسهم وممّا قالوا عليه. ومن يأتي؟ شعب إسرائيل وسائر الشعوب. وهكذا يصبح "زرع إسرائيل" كبيرًا جدًّا. غابت كلُّ الحواجز وفتحت أورشليم أبوابها بعد أن "تبرَّر" (ي ص ر ق و) الآتون عليها: يأتون وهم يهلِّلون لله وهم يفتخرون بما نالوه من "مجد" بعد الهوان الذي عرفوه في المنفى.

تبدَّلت الأمور تبدُّلاً كلِّيًّا: لم يعد نسل يعقوب وحده "أحبّاء الله"،، بل الشعوب كلُّها. وكما اختار الله داود وسليمان، ها هو يختار كورش من أجل مهمَّة خلاص. وهذا الخلاص لا يكون لفئة صغيرة، بل لجميع الأمم في أقاصي الأرض. كلُّهم مدعوّون إلى الخلاص، وهكذا يتمُّ ما قيل لإبراهيم: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك 12: 3). كما لن يعود شعبُ الله "عددًا محدودًا على مستوى اللحم والدم"، بل يكون كثيرًا "كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر" (تك 22: 17[RK5] ).

 


[RK1]ببني إسرائيل.

[RK2]فكرة لاهوتية جيدة عن إعلان الله العام والخاص.

[RK3]اشارة جيدة للشمولية.

[RK4]رائع!

[RK5]هل من تطبيق مناسب لعصرنا وواقع الشرق الأوسط الحالي؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM