الفصل الثاني والأربعون: عبد الربِّ ونشيد الخلاص

الفصل الثاني والأربعون

عبد الربِّ ونشيد الخلاص

بعد إشارة من "عبد الربّ"، المحارب، الذي استشففنا فيه شخص كورش، ها هو كلام عن "عبد الربّ"، ذاك الشخص السرّيّ الذي يملأه الربُّ بروحه، فيكون لنا صورة بعيدة عن يسوع المسيح الذي يحمل إلى البشريَّة الحقَّ والحياة والحرِّيَّة. ثلاثة أقسام في هذا الفصل. الأوَّل (42: 1-9): عبد الربّ. الثاني (آ10-17): نشيد للربِّ محرِّر شعبه. الثالث (آ18-25): الشعب الأعمى والأصمّ.

42: 1-9 هوذا عبدي

"عبدي". ذاك المقترب منّي، الملتصق بي، الذي يعمل إرادتي. "مختاري". نظرتُ إليه، أحببته، وضعتُ يدي عليه لكي يكون لي. قوَّة "عبد الربّ" من عند الربِّ الذي يمسكه. يعضده. اختاره فكان على قدر الاختيار. لهذا "رضي" عنه، سُرَّ به. هذا الكلام سوف يقال عن يسوع المسيح حين اعتماده في الأردنّ: "هذا هو ابني الحبيب، عنه رضيت" (مت 3: 17). والشطر الثالث: جعلتُ (ن ت ت ي، وهبتُ) روحي عليه. كوَّنه من جديد، خلقه. نتذكَّر أنَّ الروح يحلُّ على القضاة فيمنحهم قوَّة خاصَّة من أجل خلاص القبائل. وكذلك حلَّ الروح على شاول وعلى داود. بهذا الروح يتحوَّل الإنسان.

فيُخرج القضاء (م ش ف ط) أو الدينونة للأمم، وأوَّلها بابل، وذلك دون اللجوء إلى العنف والقوَّة: لا صياح ولا صراخ، كما كان يُفعَل مع الأسرى المقادين في السبي. كما يكون اهتمام بالضعيف والبائس: "قصبة مرضوضة (ر ص و ص) تسقط تحت الأحمال التي توضع عليها في أعمال السخرة. "فتيلة خامدة" (ك هـ ه) صارت إلى النهاية وهي قريبًا سوف تنطفئ. وتنتهي آ3 في عودة إلى "القضاء". هكذا يجب على عبد الربِّ (كورش أو غيره) أن يعامل شعبه. وهذا يتمُّ فقط في يسوع المسيح (مت 12: 20) والذين يتبعونه فيعلِّمهم أنَّ الودعاء يرثون الأرض.

هل يتراجع عبد الربّ؟ كلاّ. تجاه "الفتيلة" هو "لا يخمد" (ي ك هـ ه). لو بقي فيه بعض الزيت، لا ينطفئ، بل يبقى النور وإن يكن ضعيفًا لكي يدلَّ إخوته وأخواته على الطريق. وتجاه "القصبة" هو لا "يرضّ" (ي ر و ص)، لا ينسحق. يبقى ثابتًا بحيث لا ينكسر. ولا يلتوي، وإن التوى عاد وانتصب فيراه الجميع من بعيد مثل راية في رأس المعسكر. هكذا يكون من تسلَّم مهمَّة من الربِّ ونال روحه. والهدف: وضع "القضاء" ودينونة الله في الأرض موضع العمل هكذا يكون شاهدًا لشريعة الله إلى الأمم، إلى الجزر والأماكن السحيقة.

من أين أتت هذه القوَّة لعبد الربّ؟ من الله (آ5). هو الربُّ القدير الذي خلق السماء والأرض والبشر: خلق من لا شيء وما كان أمام "مادَّة أزليَّة" كما قال القدماء، فجاء ورتَّب كلَّ غرض في مكانه. السماء صارت قطعة من قماش ينشرها الربّ. والأرض هي "البسيطة" كما نقول في اللغة العربيَّة: يبسطها الله، يمدُّها مثل حصيرة ليسكن عليها البشر. ونعود إلى خبر الخليقة في سفر التكوين: الله جعل "نسمة" (ن ش م ة، تك 2: 7) في الإنسان، أعطاه من روحه روحًا.

هذا يعني أنَّ الربَّ قادر وأنَّ الربَّ يهتمُّ بالكون وبالإنسان. لهذا دعا "عبده" من أجل مهمَّة رفيعة مع أربعة أفعال، لأنَّ عمله يصل إلى المسكونة: دعا (ق ر ا)، أمسك (ح ز ق) أو شدَّ بيده ليحسَّ بالأمان. صرَّ (ا ص ر ك)، أي وضع كما في صرَّة لكي يحافظ عليه، لكي يصونه. وأخيرًا، "جعل" (ن ت ن): أعددتك لأنّي اتَّكلتُ عليك. وماذا يكون ذاك "العابد"؟ أوَّلاً، عهدًا للشعب، لا عهدًا مع شعب واحد كما كان الأمر مع موسى، بل مع كلِّ شعوب الأرض، مثل إبراهيم. ومع يسوع صار العهد الجديد الأبديّ. ثانيًا: نورًا للأمم. فهو يعيش في وسطهم. يُوضَع على منارة فيرى الداخلون نوره. يسوع هو نور العالم ومن يتبعه لا يمشي في الظلام. وعابدُ الربِّ يكون، لا وسط المنفيّين فقط، بل وسط كلِّ المذلولين الموجودين في الأسر البابليّ، القريبين من الموت. ثالثًا: يفتح عيون العمي. عاشوا في الظلام فما عادوا يرون شيئًا، أو لم ينتظروا أن يروا سوى العتمة. صاروا مثل عميان. من يفتح لهم عيونهم إلاَّ "عبد الربّ". ويسوع فتح عيون العميان ونبَّه الفرّيسيّين إلى الخروج من عماهم (يو 9: 39-40). رابعًا: يخرج الأسرى. هم في سجن مظلم. ذاك وضع المنفيّين في بابل، وما كانوا فقط من أورشليم ويهوذا، بل من المدن والممالك الصغيرة في المنطقة. كلُّهم في السجن، فمن يحرِّرهم؟ عبد الربّ. ذاك كان برنامج يسوع في فم زكريّا، والد يوحنّا المعمدان: "يضيء للقاعدين في الظلام وفي ظلال الموت ويهدي خطانا في طريق السلام" (لو 1: 79).

وتتكرَّر في آ8 عبارة "ا ن ي. ي هـ و ه"، أنا الربّ. كما في آ6. أنا حاضر، أنا فاعل. فإلهنا لا يوسن ولا ينام، مثل الأصنام. ذُكر الاسم والمجد والتهليل (أو: التسبيح). هي أمور خاصَّة بالربِّ الإله، فكيف تقدِّمونها للأصنام؟ هل من إله "آخر" (ا ح ر) تريدون أن تتعبَّدوا له وما هو بإله؟ أنا فعلتُ في الماضي وسوف أفعل ما هو جديد، جديد. ويأتي أيضًا فعل "أخبر" ثمَّ "أسمع". متى؟ قبل أن تطلع النبتة، قبل أن تخرج البراعم. فهو من غرس وهو من يسقي وهو من يُنمي. كلُّ هذا لكي تعود الثقة إلى قلب الشعب الضائع في المنفى.

42: 10-17 أنشدوا للربّ

لا يقبل الربُّ أن يُرفَع المجد لسواه، أن يكون تهليل "لإله آخر". هذا إذا وُجد. لهذا دعا النبيّ الشعب إلى النشيد وكأنَّ الخلاص تمَّ. ولكن ثقته الكبيرة زرعت الثقة في قلب هؤلاء البؤساء لكي ينشدوا، يغنّوا، فيدلّوا على فرحهم. ومن ينشد؟ لا شعب واحد، بل شعوب المسكونة كلِّها: أقصى الأرض، البحر، الجزر. كلُّهم مدعوّون لأنَّ الخلاص يصل إليهم كلِّهم. هذا هو معنى "جديدًا". فالجديد لا يعمله سوى الله. أمّا الإنسان فأعماله تتكرَّر كما يقول سفر الجامعة. فعل في الماضي حين خرج مع موسى "خليط من الناس". وهو يفعل الآن بطريقة لا يتخيَّلها بشر. وما نقوله على مستوى الجماعة، نقوله على مستوى الفرد: الله يفعل في حياة كلِّ واحد منّا، كما يفعل في التاريخ.

هي الشموليَّة في "إشعيا الثاني[RK2] ". لا وجود بعد "لأعداء" يهوذا. كلُّهم يشاركون في التسبيح: قبائل البرِّيَّة، العائشون في الصحراء (قيدار، 21: 16-17)، سكّان سالع أي الأدوميّون، جيران يهوذا. لماذا يُدعى كلُّ هؤلاء؟ من أجل المجد والتهليل (أو: التسبيح) فتصل أصواتهم إلى الجزر البعيدة (آ12).

ولماذا كلُّ هذا النشيد؟ لأنَّ الربَّ "خرج" للحرب. هو "الجبّار". الشجاع القويّ. هذا ما قيل عن الله في مز 24: 8 وعن المسيح الداوديّ في إش 9: 5. هو رجل "حرب"، لا على البشر، بل على الظلم والقهر. لأنَّ آخر أعدائه، كما قال الرسول، هو الموت.

مدَّة طويلة بدا الله "صامتًا"، "ساكتًا" (آ14) وكأنَّه عاجز لا يقدر أن يفعل شيئًا. لبث "أخرس" (ا ح ر ي س)، تجلَّد، ضبط نفسه. عادة الشعب يصرخ والربُّ يسمع. أمّا الآن، فالربُّ "يئنّ" من الوجع، "يلهث" من التعب، "يتنهَّد" من الحزن. بدا "كالوالدة" التي ابتعد أولادها عنها فصارت ثكلى. وهي تريد أن تلد أولادًا ولا تقدر. نتخيَّل هذا الإله الذي "حمل أمراضنا وأخذ أوجاعنا".

ولكنَّه وقت مضى، وها هو يستعدُّ ليعمل، فيدمِّر قبل أن يبني. الجبال، الآكام، لن تبقى واقفة، تصبح خرابًا (ا ح ر ي ب). عشبها يصبح يابسًا (ا و ب ي ش). النهر يصبح جزيرة، أرضًا يابسة، بانتظار البحر، والآكام وبرك المياه تتيبَّس. وهكذا يتردَّد الفعل مرَّتين (آ15).

وكيف يكون البناء؟ فالشعب جماعة من العميان، لا يرون أمامهم ولا يعرفون الطريق (آ16). الله يعرِّفهم على "الطريق" (د ر ك)، ويسيِّرهم في الطريق (أ د ر ي ك م). ومع الطريق يرد لفظ "مسالك" مرَّتين وفعل "عرف" مع النافية. هم لا يعرفون ولكنَّ الربَّ يعرِّفهم. هناك الظلمة فتتحوَّل إلى نور، هناك الطريق المعوجّ، فيصبح مستقيمًا. ما نلاحظ هو أنَّ الفعل التالي في صيغة الماضي: صنعتُها (لا سوف أصنعها) وانتهيت. ثمَّ: ما تركتهم. هذا مستحيل، وفي المستقبل لن أتركهم (آ16). هذا يعني أنَّهم يتوكَّلون عليَّ. أمّا المتَّكلون على التمثال (ا س ف ل) المسبوك، فيُرَدُّون إلى الوراء. هي صيغة المجهول، بمعنى أنَّ الربَّ يفعل.

42: 18-25 أيُّها الصمّ اسمعوا

في الآيات السابقة، كان كلام عن العميان الذين حوَّل الربُّ ظلمتهم إلى النور. فيا ليتهم ينظرون عمل الربِّ ولا يتعلَّقون بالأصنام ويدعونها "آلهتنا"! تلك هي الخطيئة الكبيرة التي ينغمس فيها الشعب في منفاه. الله لا يُرى! أمّا الصنم، صنم مردوك، فهو كبير جدًّا والناس يرونه من بعيد مكلَّلاً بالذهب، تُرَش عليه الزهور، وكهنته لابسون أجمل الحلل. فلماذا التعلُّق بالربِّ الذي هو بعيد "في هيكله". وأيُّ هيكل! هو مهدوم، محروق. فلا نعرف أين يُقيم إلهنا. تلك كانت خبرة العبرانيّين حين كانوا في البرِّيَّة: طلبوا من هرون إلهًا يمشي أمامهم، فصنع لهم ذلك العجل: تخلَّوا عن أقراط الذهب في آذان نسائهم (خر 32: 2)، فصنع لهم هرون "عجلاً مسبوكًا" (آ4). أمّا في بابل، فالإله الوثنيّ أمام المنفيّين، والمملكة تدعوهم للسجود له: أنظروا هذه المدينة الجميلة، مدينته. أمّا أورشليم فطرقها نائحة، وأبوابها خربة، وعذاراها مذلَّلة" (مرا 1: 4). فلماذا نتعلَّق بإله ضعيف لم يقدر أن يدافع عن مدينته وهيكله؟

من أجل هذا جاء الربُّ يحدِّث شعبه، كما في المحكمة، ويقدِّم حججه مبيِّنًا خطأهم. هم صمّ لا يسمعون، هم عميان لا يرون ولا يبصرون. لماذا؟ لأنَّ الحرب كوَتْهم والعبوديَّة أوجعتهم. وها هو الربُّ يحاول أن يخرجهم من هذا الضيق.

"عبدي" (آ19) هو أعمى. فكيف يقود الشعب؟ إذا الأعمى اقتاد الأعمى، وقع الاثنان في حفرة. "ملاكي" (م ل ا ك ي). الملاك هو الرسول، الموفَد الذي يرسله (ش ل ح) سيِّده. هذا "الموفد" هو أصمّ، لم يسمع التعليمات، ولا هو يسمع الآن، فكيف يوصل إرادة الله إلى الشعب؟ فالنبيّ يحمل كلام الربِّ بشكل بلاغ، ويبدأ فيقول: هذا ما قال الربّ. فإن كان أصمّ، هل يستطيع أن يؤدّي رسالته؟ مستحيل. "ملاكي" تسلَّم (م ش ل م) رسالته، ولكنَّه أعمى لا يعرف الطريق، فكيف يوصل الرسالة. ونعود إلى العابد الذي هو "أصمّ" (كما قال سيماك ومخطوطان)، لا "أعمى" كما قال الماسوريّون. هكذا يبقى التوازن الشعريّ في النصّ، وهو الأصحّ.

وها هو الحكم: رأيتَ الأمور الكثيرة، فما سهرتَ لتتأمَّل فيها، ولا حفظتها في الذاكرة لتردِّدها في قلبك وتخبر بها أولادك. اتِّهام أوَّل. والاتِّهام الثاني: فتحت أذنيك ولكنَّ شيئًا لم يدخل، لأنَّك رفضت أن تسمع ما لا يرضي مشاريعك البشريَّة. فالمثل يقول: الأعمى الأعمى هو الذي لا يريد أن يرى. والأصمّ الأصمّ هو الذي لا يريد أن يسمع. نستطيع أن ندعو هذه الخطيئة التجديف على الروح القدس، فنفضِّل الظلمة على النور لأنَّ أعمالنا سيِّئة.

أين هو النور الذي يمكن أن يضيء لهذا الشعب البائس على جميع المستويات؟ منهوب، مسلوب، مسجون... إنَّه الشريعة التي تحدَّث عنها مز 119 وأنشدها فيما أنشدها "كالسراج والنور" (آ5، 10)، ويعود لفظ "ص د ق"، البرّ، صدق الله، أمانته ورحمته من أجل تحقيق مقاصد خلاصه. إلى مثل هذا النور ينبغي على المؤمنين أن ينظروا إذا أرادوا أن لا يضلّوا الطريق، وأن لا يصابوا بالإحباط. اعتبروا أنَّ "المنقذ" غائب ولا يهتمُّ بهم. أخطأوا. ظنُّوا أنَّ الله لا يتكلَّم بعدُ ويأمر الظالم بأن يردَّ المسبيّين. هم في ضلال.

أرادوا هكذا أن "يحاكموا" الربّ، الذي نسيَ واجب الإنقاذ والدفاع عن "مساكينه". ربَّما قالوا كما قال العبرانيّون في البرِّيَّة: هل الله معنا أم لا؟ وأسوأ من ذلك: قد يكونون قالوا: أيقدر الله؟ وها هو الربُّ يردُّ عليهم: ذاك الذي دفع شعبه إلى السبي يستطيع أن يردَّه، ووحده يستطيع. ولماذا فعل ما فعل؟ بسبب خطايانا. تركنا طريق الربِّ وسرنا في طريقنا، فكان لنا الموت، لا الحياة. رفضنا السماع لشريعة الربّ، فكان لنا غضبه وعقابه، في حرب وصلت إلينا. والمؤسف أنَّ الشعب لم يعرف ولم يفهم من أين جاءت النار التي التهمته وأحرقته. فالنار هي رمز إلى حضور الربّ. وهي حين تحرق تكتفي بالزغل الذي في الإنسان، لأنَّ الله لا يعاقب لكي ينتقم ويحطِّم، بل يعاقب لأنَّه يدعو إلى التوبة. وها هي محبَّته سوف تظهر حين يعرف الشعب أنَّ الربَّ هو مخلِّصه الوحيد.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM