الفصل الرابع والثلاثون: دينونة الكون

الفصل الرابع والثلاثون

دينونة الكون

يُدعى ف 34-35 الرؤيا الصغيرة تجاه ف 24-27 الرؤيا الكبيرة. هو "قتال" الربّ الأخير ضدّ الأمم، ولاسيَّما أدوم، وانتصاره الأخير في أورشليم. فيه الدينونة والخلاص. أمّا ف 34 فيأتي في ثلاثة مقاطع. الأوَّل (آ1-4)، غضب الله على كلِّ الأمم. الثاني (آ5-15) السيف في أدوم. الثالث (آ16-17) سِفر الربّ وكتابُه[RK1] . إنَّ دمار آدوم رمز إلى دمار الشرّ بفعل الله الخلاصيّ.

34: 1-4 اقتربوا أيُّها الأمم

لماذا يقتربون؟ ليسمعوا الحكم. هذا ما يفعله "القاضي" (الديّان) من على المنصَّة بشكل احتفاليّ وهذا ما اعتاد الأنبياء عليه. أمّا هنا فهو حكمٌ بالموت لا استئناف فيه. وهذه الدينونة هي عامَّة: الأمم، الشعوب، الأرض، المسكونة (آ1). ما من مكان يُفلت من حكم الله لأنَّه سيِّد الكون.

ويعود الكلام في آ2: سخط الربّ على الأمم والجيوش. كلُّهم يحبّون الحرب. وما داموا متعلِّقين بالحرب فالموت ينتظرهم. "حرَّمهم" (ح ر م). والتحريم عادة قديمة لأنَّهم يعتبرون الحرب حربًا مقدَّسة يشارك فيها "الإله". ذاك ما فعلته أشورية (37: 11). وذاك ما يُروى في يش 6: 17. وتصوِّر آ3 النتيجة المروّعة لتلك الحرب. نتذكَّر أنَّ الموت هو من صنع البشر لا من صنع الله. ولكنَّ الكاتب اعتاد أن يُرجع كلِّ شيء إلى الله، مَلك الأرض كلِّها[RK2] . فهو من يوجِّه التاريخ ويحوِّل الشرَّ خيرًا.

ونقرأ آ4 في النصِّ الماسوريّ حيث "يفنى جندُ السماء". كانوا يعتبرون أنَّ السماء تشارك الأرض في الحرب، وكلُّ إله يمشي في مقدِّمة شعبه. لهذا يُحمَل "تمثاله" أو ما يرمز إليه. أمّا هنا فالربُّ ينتصر على السماء كما انتصر على الأرض. صارت السماوات مثل "درج" مثل ورقة يلفُّها الربُّ كما تُلَفُّ قطعة قماش (مز 102: 26-27). ماذا يبقى من هذا الجيش؟ ما يبقى من أوراق التين في الخريف، أي لا شيء. غاب القسم الأوَّل من الآية (ويفنى... كدرج)، في النصّ اليونانيّ، وأحلَّ محلَّه مخطوط قمران العبارة التالية: "تنشقُّ الوديان وكلُّ جند السماء ينتثر...". أو: يبلى، يذوي.

34: 5-15 سيف الربّ

"روى"، ارتوى، سكر سيف الربّ الذي صار "جنديًّا" يضرب أدوم، ذاك الشعب العائش إلى الجنوب الشرقيّ من البحر الميت. في التقاليد القديمة، أدوم شعب شقيق، ولكنَّه صار العدوَّ الأوَّل، وهنا نموذج الأمم المعادية. فكما "حرَّمت" الشعوب، كذلك "حرّم" أدوم. والسيف (ح ر ب) ينتظره بعاصمته "بصرة" (اليوم هي "بُصيرة" التي تبعد 20 ميلاً تقريبًا عن البحر الميت). وما نلاحظ أنَّ هذا "القتل" هو بمثابة ذبيحة للربّ: ذُكر الشحم والدم (ح ل ب. د م) اللذان يقدَّمان لله. نلاحظ اللفظين: "ز ب ح" ثمَّ "ط ب ح" ذبح ونحر. أو "ذبيحة وذبح". ولا تتوقَّف الذبائح عند بعض الحيوانات، بل حتّى البقر الوحشيّ. ولماذا كلُّ هذا "الذبح" وهذا "الانتقام"؟ (ن ق م). بسبب الخصومة مع صهيون، المدينة المصونة التي يُقيم فيها الربّ. أجل، جاء وقت الحساب.

"وتحوَّل" (ن هـ ف ك و). صيغة المجهول، للدلالة على الله الذي لا يُذكر اسمه (آ9). هو عقاب جذريّ يشبه ما حلَّ بسدوم وعمورة (1: 9-10؛ رج تك 19: 23-29). بل يتجاوز ما حلَّ بهذه المنطقة، لأنَّ النار توقَّفت هناك، ولكنَّها لن تتوقَّف في أدوم، فكأنَّنا أمام عقاب "أبديّ": من جيل إلى جيل (آ10). وما كان للبناء (من خيط ومطمار) صار للهدم بحيث تعود أدوم إلى ما قبل الخلق مع "ت هـ و. ب هـ و" (تك 1: 2). أتُرى الله يعيد خلقها؟ هذا ما لا يقوله النصّ. ومن يسكن فيها حينئذٍ؟ القنفذ، الغراب... وكلُّ ما اعتاد أن يعيش في الخراب.

الخواء والخلاء كانا في البداية. أمّا في أدوم، فالخطيئة هي السبب. ويكون العقاب كما بعد خطيئة أدوم: الشوك والقرَّيص والعوسج. هناك كانت القصور والحصون. لم يبقَ منها شيء. فصارت موطن الذئاب وبنات آوى... في آ14 يُذكر "ش ع ي ر" (أصحاب الشعر). ثمَّ "ل ي ل ي ت" (نسبة إلى الليل). كلُّ هذا يرتبط بالخراب وعالم الشياطين الذين يقيمون في الليل ويهربون في النهار. وبما أنَّنا في عالم الشياطين تُذكَر "الحيَّة" (ق ف و ز) التي تقفز وتبيض لتبقى هناك، وتفرخ سمَّها. وبوجود الجثث تأتي "الشواهين"، هذه الطيور الكاسرة. ما قرأناه هنا سبق وقرأناه عن دمار بابل (13: 20-22). هذه الصور تدلُّ على دينونة الله للخطأة، وهي ترمز إلى دينونة أخرى أكثر جذريَّة حين يقول الربُّ للذين "عن اليسار": "اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديَّة" (مت 25: 41).

34: 16-17 في سفر الربّ

أخذ هذا الشرح عن "الشواهين" من "سفر الربّ" الذي قد يكون مجموعة أقوال نبويَّة ارتبطت بإشعيا. فهو الدمار الذي لا يتبعه بناء، وهو عمل الربِّ الذي يقلب الوضع رأسًا على عقب: في الماضي قُسمت الأرض بين القبائل والشعوب، واليوم توزَّعت على وحوش البرّ.

في آ1، دعاها الربّ: اقتربوا، اسمعوا، أصغوا. كلُّهم أتوا. ومن يجرؤ على العصيان؟ يُذكر "فم الربّ" ثمَّ "روح الربّ". وها هي القرعة تُلقى (عد 33: 54)، وكلُّ وحش أو طير كاسر ينال نصيبه. فلا وجود بعد اليوم لأحد من البشر. إذا كان الربُّ هو من يميت ويحيي، فهو في الوقت عينه من يخلق، ويعيد ما خلق إلى "تهو وبهو" أي إلى الخراب والخلاء.


 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM