الفصل الثامن والعشرون: بين سقوط السامرة والمعاهدة مع مصر

الفصل الثامن والعشرون

بين سقوط السامرة والمعاهدة مع مصر

تتضمَّن ف 28-33 أقوالاً نبويَّة على السامرة وعلى يهوذا. وهكذا وصولاً إلى ما دُعيَ الرؤيا الصغيرة في إشعيا. أمّا ف 28 فيتوزَّع كما يلي: سقوط السامرة (آ1-6)، رفض المعاهدات مع مصر (آ7-22) ممّا يدلُّ على قصر النظر عند رؤساء يهوذا، وأخيرًا، حكمة الفلاّح (آ23-29).

28: 1-6 سقوط السامرة

سنة 721 ق.م. دخل سرجون الثاني إلى السامرة، فبدا دخولُه مثل العاصفة التي لم تترك شيئًا وراءها. رأى سفر الملوك الثاني في هذا السقوط نتيجة العبادات التي حلَّت محلّ عبادة الإله الواحد. أمّا إشعيا فاعتبر أنَّ الربَّ عاقب الكبرياء. ومع ذلك بقيَتْ فسحةٌ من الرجاء.

"ويل" (آ1). قلبُ النبيّ يتوجَّع على السامرة. موقعها الرائع الذي يشرف على السهل بعد أن أسَّسها الملك عمري (1 مل 16: 24). بدت مثل "إكليل" فافتخرت بها مملكة السامرة. ولكنَّها إكليل "السكارى". نتذكَّر أنَّ "أفرايم" تدلُّ على مملكة إسرائيل، لأنَّ هذه القبيلة هي أكبر قبيلة في الشمال. ندَّد عاموس (6: 4-6) وهوشع (7: 3-7) برؤسائها الذين اعتادوا على العيش المترف والحياة الصاخبة (أسرَّة من عاج، يأكلون لحم الخروف والعجل). هكذا صوَّرهم عاموس وسمّى النساء "بقرات باشان" (4: 1) المشهورة بضخامتها وسمنها.

كانت "زهرة" (ص ي ص) والآن ذوت، ذبلت. هي على القمَّة وتحتها الوادي الخصب. الخمر صعقتهم فما عادوا يستطيعون أن يفكِّروا بشيء آخر.

وظهر عدوّ "شديد، قويّ". هو ملك أشور الذي جعل الحصار على المدينة سنة 724-723، ممَّا يعني أنَّ الحصار دام ثلاث سنوات. من يخصُّ هذا الملك؟ أدوناي فالسيِّد الربّ هو الذي أرسله. فالله هو سيِّد التاريخ وملك أشور هو أداة في يد العدالة الإلهيَّة (10: 5-19). وتأتي الصور: سيل، إعصار، برَد، دمار. مياه غزيرة جارفة (آ2).

في آ3-4 يصوَّر الهجوم على الأرض بعد أن نضجت قبل أوانها: فالتين ينضج في الصيف، لا في الربيع. وهكذا يبدو أنَّ السامرة سقطت في الربيع. حاصرها شلمنصَّر (726-722) ولكنَّها سقطت في يد سرجون.

"في ذلك اليوم" (آ5). تدخَّل الملك الأشوريّ فداس "الإكليل". وها هو الله يتدخَّل الآن، ومن البقيَّة الباقية ينسج إكليلاً أجمل. بل هو يكون الإكليل والتاج، يكون البهاء والجمال. لا حاجة بعدُ إلى مثل هؤلاء الرعاة، فهو يكون الراعي. لا حاجة بعد إلى هؤلاء الرؤساء الذين أهملوا العدالة في القضاء (11: 2-5). هو يكون "الجبّار" الذي يحافظ على أبواب المدينة ويمنع الحرب عنها (آ6).

شعب الله عاقبه الله. تلك هي الحرب. ولكنَّ إشعيا يهتمُّ دومًا "بالبقيَّة"، بالذين نجوا من العقاب. وهذه البقيَّة التي ضاعت عاصمتها وملكها فما بقيَتْ لها حماية، سوف تلتفت إلى الربِّ فتجد عنده ما لم تجده عند ملوكها الضعفاء بالنسبة إلى الخارج (الاجتياح) وبالنسبة إلى الداخل (الحاشية الملكيَّة المسيطرة على الشعب، على الفقراء).

واختلفت السامرة عن أورشليم في نظر إشعيا. فأورشليم أسَّسها الله على الجبل المقدَّس (مز 87: 1)، هي "مدينة إلهنا" (مز 48: 2). السامرة  بنتُ تأسيس بشريّ. وهي تزول لأنَّ لا شيء يميِّزها عن مدن الشرق. أمّا أورشليم فثابتة إلى الأبد. وبقيَّة السامرة سوف تمضي إلى أورشليم وتقيم في "المدينة الجديدة".

28: 7-22 ردٌّ على الرؤساء في يهوذا

هزئ الكهنة والأنبياء من إشعيا لأنَّه يدعوهم إلى الهدوء والثقة بالربّ، فجدَّد رفضه لكلِّ المعاهدات التي هي واهية. فالربُّ هو الذي يؤسِّس مدينته ولا حاجة إلى البشر. نقرأ هنا ثلاثة مقاطع. الأوَّل (آ7-13) هجوم على السكارى، الهازئين، على هؤلاء الأطفال الذين فُطموا حديثًا فأرادوا العودة إلى أمِّهم (مصر). في الثاني، أسمعَ النبيّ كلام الربِّ (آ14-20). وفي الثالث (آ21-22): "لا تكونوا متهكِّمين".

في آ7-8 يعود موضوع السكر، وهذا ما قرَّب هذا القول من الذي سبقه. ولكنَّ الاختلاف كبير. في آ1-4، الشعب كلُّه سكران ويمشي وراء رؤسائه. أمّا هنا، فالمسؤولون من كهنة وأنبياء. ثمَّ كنّا في السامرة فانتقلنا إلى أورشليم، مع الولائم الطقوسيَّة التي تمنع الرؤساء أن يقوموا بوظائفهم، وتضيِّعهم فلا يعودون يتنبَّهون إلى ما يقوله الربّ. في آ14، تُذكَر أورشليم، وفي آ16، صهيون.

هؤلاء "السكارى" رفضوا كلام النبيّ وتهكَّموا عليه، نصوِّرهم صورًا واقعيَّة: "جميع الموائد امتلأت قيئًا وقذرًا" (آ8). بماذا يتَّهمون إشعيا؟ أنَّه يريد أن يكلِّمهم وكأنَّهم أطفال، فجاء كلامُه لامفهومًا. لم يلفظوا اسمه، بل قالوا في صيغة الغائب: "ماذا يعلِّم، وماذا يريد أن يفهمنا؟"

في آ10 نقرأ: صو لصو. صو لصو. قو لقو. قو لقو. زعير شم. زعير شم. حرفيًّا نستطيع القول: وصيَّة لوصيَّة، فرض لفرض، صغير هناك. وتتكرَّر كلُّ عبارة مرَّتين. قالت الترجمة اليونانيَّة: "تقبل ضيقًا على ضيق، رجاء على رجاء، بعد قليل، بعد قليل. وجيروم، مترجم الشعبيَّة: أوصي أوصي أيضًا. أنتظر أنتظر أيضًا. أنتظر أنتظر أيضًا. قليل هنا قليل هنا. كلُّ هذه المحاولات لا تفي بالمراد. فيبدو أنَّنا أمام مقاطع صوتيَّة يردِّدها الأولاد الذين يتعلَّمون القراءة. وإشعيا يشبه، في نظر هؤلاء، معلِّمًا الأطفال.

في آ11 ردَّ النبيُّ على هؤلاء السكارى: مثل هذا الكلام يليق بكم. فأنتم لا تستطيعون أن تفهموا كلام الله. فهذا يكفيكم. إذا كان كلام النبيّ بلا معنى، فالربُّ يحدِّث السامعين بلغة تتجاوز إمكاناتهم. "وبلسان آخر". هذا يدلُّ على لغة شعب غريب (33: 19) وهنا يكون عقابهم. غير أنَّ الله يبدو مكرَهًا وهو يعاقب. فهو يدعوهم إلى الراحة والهدوء، غير أنَّهم ما أرادوا أن يسمعوا. دعاهم إلى الثقة والابتعاد عن المؤامرات مع الخارج. فالشعب "رزح"، تعب، أعيى من التحرُّر الذي يحمل معه العقاب (آ12). ولكنَّ الرؤساء لا يزالون رافضين. عندئذٍ يأتي الكلام بلسان الأشوريّين (آ13) كما في آ11، فتكون الهزيمة والذهاب إلى السبي (آ13).

في آ14-20 (المقطع الثاني) يتَّخذ النبيّ لهجة رسميَّة فيها الكثير من التحذير. ويتوجَّه إلى جميع المسؤولين، لا إلى الكهنة فقط والأنبياء كما فعل من قبل: ماذا أنتم فاعلون؟ "عهدًا مع الموت". ولماذا نسيتم كلام الربِّ الذي يؤسِّس في صهيون حجرًا "ممتحنًا" معروفًا بأنَّه لا يسقط أمام أوَّل ضربة.

لذلك (ل ك ن)، بما أنَّ موقفكم هكذا، "اسمعوا". لا كلمتي بل "كلمة الربّ". فهي كلمة فاعلة. دُعيتم إلى الثقة بالله لكي تجدوا الراحة، دُعيتم لأن تتركوا كلَّ سند كاذب (7: 14؛ 8: 6). إنَّه كلام يتوجَّه إلى الرؤساء في أورشليم. ماذا كان جوابهم؟ لا نريد عهدًا مع الله. "عقدنا عهدًا مع الموت" (آ15). أتُرى ذهبوا يسألون أرواح الموتى؟ (8: 19). أتُرى تعاقدوا مع "م و ت" إله الموت عند الكنعانيّين وحامل القحط والجفاف؟ ربَّما حلَّ الجفاف في الأرض فاعتبروا أنَّ الله تخلّى عنهم وأنَّ لا أمل بالاستناد إليه! وأخيرًا، قد تكون إشارة إلى معاهدة مع مصر، أرض الاهتمام بالموتى: أقام حزقيّا معاهدة مع مصر سنة 716-715، ثمَّ سنة 704-702. والكذب المذكور هنا كذبٌ على أشور بعد أن أعلنت يهوذا الخضوع له. ولكنَّ هذا الكذب سيكلِّفها الكثير. اجتياح مملكة يهوذا وحصار أورشليم، التي نجت بشبه معجزة من عند الربّ. إذا كانوا في عالم الموتى، فهم لا يصابون، بعد أن جعلوا ملجأهم في الكذب والزور (ن س ت ر ن و، نُستَر، نستتر).

ذاك كلام البشر، وأيُّ كلام؟ كلام سكارى. ولو كانوا مسؤولين فقط عن أنفسهم لهان الأمر، ولكنَّهم مسؤولون عن الشعب في أورشليم وفي يهوذا. وإلى أين يقود مثل هذا الكلام؟ إلى الموت. تلك هي سياستهم (آ15) التي بها يعارضون سياسة الله (آ16-17). افتخر المسؤولون بالمعاهدات التي قطعوها، فما عادوا يخافون من "السوط" (ش و ط)، من الضربة الآتية. ولكن من يحميهم؟ الموت والشيول. هنيئًا لهم هذه الحماية.

لمن تسمع أورشليم؟ يا ليتها تسمع كلام الربِّ الإله. وماذا يقول؟ هو يضع حجرًا صلبًا يكون في أساس البناء. إلى مثل هذا الحجر تستندون، ولا مجال للخوف، والعهد مع الموت يقود إلى الدمار. هو الربُّ يأتي بنفسه ويعمل: على المستوى الداخليّ، يقيم الحقَّ والعدل، وعلى المستوى الخارجيّ ينهي المعاهدة مع مصر. استند الرؤساء إلى موضع يلوذون إليه، يستترون. فيأتي فعلان مع الله الفاعل: خطف، جرف. وسلاح الربِّ هو البرَد والمياه. أين العهد والميثاق؟ صارا كلا شيء. وحين تأتي الكارثة تُداسون مثل الوحل على الطرقات.

في آ19 كلام عن سلب يتكرَّر كلَّ يوم، كلَّ ساعة، فيحرِّك الفزع. فهل يكفي ليسمع الرؤساء؟ يبدو أنَّه غير كافٍ فيأخذون كلَّ شيء بتهكُّم. وتقدِّم آ20 قولاً مأثورًا يدلُّ على أنَّ لا راحة ولا أمان. فالملجأ الذي طلبوه لا يكفيهم.

ويدعو النبيّ هؤلاء المسؤولين (آ21-22): لا تكونوا متهكِّمين. فبعد الضحك يأتي البكاء. الخطر آتٍ مع المحن. احذروا. الربُّ يقوم، وحين يقوم يفعل فمن يفلت من عقابه؟

ذكَّرهم الربُّ بنصر أوَّل لداود في بعل فراصيم، بين أورشليم وبيت لحم (2 صم 5: 20). وذكَّرهم بنصر ثانٍ في جبعون (آ25). ولكن عُرف جبل جبعون خصوصًا بنصر يشوع على القوى المتحالفة (يش 10: 1ي). هناك عمل الله مع شعبه وخصوصًا مع سلالة داود ومن أجل أورشليم التي أحبَّها. أمّا الآن فيعمل ضدَّ شعبه. هو فعل "غريب"، لم يعتادوا عليه ويعمله "الغرباء"، فدمار المدينة تقرَّر ولا رجوع عن القرار.

28: 23-29 حكمة الفلاّح

"أصغوا...". أربعة أفعال تدعو السامعين إلى التنبُّه: يراقبون أعمال الحقل، ثمَّ يأخذون العبرة. الله الذي علَّم الفلاّح النظام المتَّبع في أعماله، لا يقضي وقته في "فلاحة" شعبه: سوف يأتي وقت الزرع. نقرأ ثلاثة أفعال: حرث، شقَّ الأرض، مهَّدها. إذًا أعمال مختلفة يعلِّمه الله كيف يقوم بها وأين يضع كلَّ نوع من الحبوب.

ويتواصل التعليم من لدن الربّ (آ27-28). تُستعمَل الآلات البسيطة لدرس الحبوب، لا الطريقة القاسية. والنهاية في آ29 (شبيهة بما في آ26): كلُّ هذا فعلُ الله ونصحُه العجيب.

في معنى أوَّل، نتأمَّل في عناية الله التي علَّمت الإنسان كيف يفلح الأرض ويجمع الغلال. وفي معنى ثانٍ، نتأمَّل في الربِّ سيِّد التاريخ كيف يعامل شعبه العائد من المنفى برفق وحنان، لا بقساوة. وهكذا يلتقي إشعيا مع تعاليم الحكمة ولاسيَّما في سفر الأمثال (6: 6-8؛ 27: 23-27). فالله يريد للإنسان أن ينجح في عمله اليوميّ. وهذا النجاح صورة عن عناية الله في هداية شعبه[RK1] .


[RK1]ملاحظة جيدة جداً.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM