الفصل الرابع والعشرون:دينونة الله في الكون

الفصل الرابع والعشرون

دينونة الله في الكون

منذ نهاية القرن التاسع عشر اعتاد الشرّاح أن يسمّوا ف 24-27 رؤيا إشعيا. وجيروم، مترجم الكتاب المقدَّس إلى اللاتينيَّة، عنونها: "ما الذي يحصل في نهاية الأرض كلِّها". فيها المقاطع الإخباريَّة والأناشيد أو الصلوات. والفصل بين الاثنين واضح. "ويُقال في ذلك اليوم" (25: 9). أمّا ف 24 فهو إعلان نبويّ لخراب الأرض ودينونة الكون. فيه العناصر الليتورجيَّة أو صلاة الجماعة: البكاء في آ7-13، والهتاف في آ14-16آ. وهكذا نستطيع أن نقسم هذا الفصل ثلاثة أقسام: وصف لتدمير الأرض وإفراغها من السكّان (24: 1-6). في آ7-16أ: البكاء والهتاف. أمّا القسم الثالث (آ16ب-23) فيعلن إعلانًا نبويًّا عن الكارثة الأخيرة، سنة يكون الربُّ جالسًا على جبل صهيون، كما كان جالسًا على الطوفان (مز 29: 10) لأنَّه سيِّد الأرض والمياه.

24: 1-6 تدمير الأرض

"الأرض" هي أوَّلاً أرض يهوذا وإسرائيل. ولكن في معنى ثانٍ، هي الأرض كلُّها. فيرد اللفظ سبع مرَّات (علامة التمام والملء) في هذه الآيات الستّ. ونقرأ في آ1 أربعة أفعال (والرقم أربعة يدلُّ على الأرض بأقطارها): أفرغَ، أخلى، قلبَ، بدَّدَ. ويأتي لفظ "أرص" (الأرض) في مقابلة مع "ت ب ل" (المسكونة) في آ4. أجل، هي كارثة تصيب الكون كلَّه. ولفظ "ت ب ل" الذي يرد بشكل خاصّ في المزامير (15 مرَّة) وفي إشعيا (9 مرَّات)، نقرأه في رؤيا إشعيا 4 مرّات: هنا وفي 26: 9، 18؛ 27: 4.

دمار عامّ يصيب جميع فئات المجتمع بدون تمييز: الشعب (أو العوام) والكاهن، العبد والسيِّد... (آ2). وفي آ3 تعود فكرة التدمير مع تكرار فعل "أفرغ" (ب ق ق) وإضافة فعل "نهب" (ب ز ز) ولماذا يتمُّ كلُّ هذا؟ السبب المنظور هي الحرب وما يرافقها من سلب ونهب وتدمير وإجلاء السكّان... أمّا السبب الأساسيّ فهو: يهوه يتكلَّم. بكلمة يخلق وبكلمة يدمِّر.

في آ4-5 هي الدينونة مع أفعال تتلاحق وتتكرَّر: ناح، ذبل، حزن، ذبل، حزن (خمسة أفعال، أضيف إلى رقم الأرض، رقمُ الإله الذي يسود الأرض). "رفعة شعب الأرض"، تعني كلَّ رفيع ووجيه في الشعب. هكذا تأثَّر قارئ النصّ العبريّ باليونانيَّة. ويمكن أن نقرأ: الأعالي (م ر و م) مع (ع م) الأرض (هـ. ا ر ص). هكذا قرأ مخطوط قمران (رج آ18، 21). المعنى الأوَّل يبقينا على مستوى أرض يهوذا وإسرائيل، والمعنى الثاني، يدلُّ على الكون كلِّه، سماءً وأرضًا.

الأرض تدنَّست (ح ن ف ه). ومن دنَّسها؟ سكّانها. منذ البدء، الأرض تتبع الإنسان. كانت في البدء جنَّة غنّاء، فصارت بعد الخطيئة "تنبت الشوك والحسك" (تك 3: 18). هذا ما حصل هنا. تدنَّست الأرض. خسرت قداستها مع أنَّها أرض الربّ. ثلاثة أفعال[RK1] : تعدَّوا الشرائع (ع ب ر)، تجاوزوا أمر الله. والفعل الثاني "قلبوا" الفرائض (أو: الفريضة)، غيَّروها (ح ل ف. فعل اختلف في اللغة العربيَّة). وأخيرًا "نقضوا" العهد (هـ ف ر و). هذا العهد، أو الاتِّفاق بين الله وشعبه، حيث تنازل الله إلى مستوى الإنسان، خانه الإنسان مع أنَّ الله لبث أمينًا (2 تم 2: 13). كان عهد محدَّد مع موسى والشعب في سيناء، أمّا هنا فالعهد هو أبديّ، دائم (ع و ل م). هكذا كان مع نوح (تك 9: 10) الذي جاء بعد الطوفان المريع، ومع إبراهيم (تك 17: 7ي).

"لذلك" (ع ل. ك ن). كلام احتفاليّ وحكم يُعلَن: لعنة الأرض وزوال السكّان (آ6). ما نلاحظ هنا كما في سفر التكوين (3: 17)، هو أنَّ الله لا يلعن الإنسان، بل الأرض. وتظهر اللعنة في الأرض حين يصيبها الجفاف. وبشكل غير مباشر تصيب اللعنة الإنسان. وإذا ارتبطت الأرض بالإنسان حين "تدنَّست" فذبلت وذوت، فهي ترتبط به في مسيرة الخلاص وتنتظر مثله تجلّي أبناء الله (رو 8: 19). ويواصل الرسول كلامه: "أُخضعت الخليقة للبطل (لسلطان العدم والفساد)... لكنَّها ستُعتَق من عبوديَّة الفساد (لتشارك) في حرِّيَّة أبناء الله ومجدهم" (آ20-21 ). فالرجاء هو في الأفق مع إشعيا، لأنَّه "بقيَ أناس قلائل".

24: 7-16أ البكاء والهتاف

مع آ7 لم نعد أمام الدمار، بل أمام الحزن والبكاء حيث نستعيد من آ7 فعلي "ناح" و"حزن" ونطبِّقهما على الكرمة والخمر: ضاع كلُّ سرور في القلوب. بطل فرح العود والدفّ وضجيج البهجة.

"كُسرت قرية خواء" الفعل هو "ش ب ر". و"ق ر ي ت" في العبريَّة تعني المدينة. عن أيِّ مدينة يتكلَّم النبيّ؟ عاد إلى "المدينة الأولى"، إلى الأرض قبل أن يرتِّبها الله وينظِّمها. واللفظ العبريّ: "ت هـ و". رج تك 1: 2 (ت هـ و. و ب هـ و): الخواء، الخلاء، الضياع. فمتى يأتي الربّ ويعيد البناء ويجعل الإنسان في وسط الكون.

بعضهم قال: هي مدينة عبادة الأوثان وتطلَّع إلى بابل. المهمّ هو الحزن الذي يلي زوالها، والدمار الذي بقيَ منها يدلُّ عليها. على مثال ما نعرف عن سدوم وعمورة. يعبر الإنسان فيتذكَّر "النار والكبريت من عند الربّ" (تك 19: 24). وهكذا يفعل هنا فيأخذ العبرة وربَّما يعود إلى الربّ. فكلُّ ما في هذه الصورة نداء إلى التوبة.

ونعود إلى الواقع: دُمِّرت بابل. ضُرب الباب فصار ردمًا. واستطاع المسبيّون أن يعودوا. لم يكونوا شعبًا كثيرًا على مثال ما كانوا في الخروج، بل بعض حبّات من الزيتون أو عناقيد من العنب.

هؤلاء القليلون "يرفعون صوتهم" (ق و ل م)، يرنِّمون (ي ر ن و). أين هم؟ قرب البحر. أي في الغرب، غربيّ نهر الفرات. فيلتقي صوتهم مع صوت العائشين في الشرق، شرقيّ الفرات "ب أ و ر ي م". في الأنوار. من حيث تشرق الشمس، فقلنا في الشرق تجاه "جزر البحر" أي الساحل والجزر البعيدة التي صارت محطّات للسفن التجاريَّة.

الربُّ هو في الشرق وهو في الغرب. ويصل سلطانه إلى أطراف الأرض" (آ16أ). "بجاه (ب ج ا و ن) يهوه". بعظمته. من هم أعظم منه لكي يهتفوا له؟! الربُّ المجيد، ويستحقُّ وحده المجد (ك ب ود). هكذا أنشدوا له بعد عبور البحر الأحمر: "أرنِّم للربّ. أمجِّده، أرفعه" (خر 15: 1-2). اسم الربِّ يكفي لكي تخاف منه المسكونة (آ3). وأخيرًا "نفتخر" (ص ب ي) بالبارّ ( ص د ي ق). هو الصادق وحده وكلُّ إنسان كاذب (مز 14: 1-3).

كانوا يقولون: الربُّ سيِّد البرِّيَّة. أمَّن الطعام (المنّ) والشراب (الماء من الصخر) لشعبه، ولكن لا قدرة له في الأرض المزروعة. فبعل هو هنا، يؤمِّن المطر والخصب. وصار مثَلٌ في أرض لبنان "أرض بعل" أي لا يصل إليها ماء الريّ. إذًا، يسقيها بعل! فنبَّههم هوشع: "أنا أعطيت القمح والخمر والزيت" (2: 10). كانت "أمَّتي" تقيم الأعياد لبعل، وهي ستدفع الثمن (آ15). وأوقف إيليّا المطر ثلاث سنين ونيِّف لكي يُفهمهم أنَّ الربَّ هو سيِّد المطر. يعطيه يوم يشاء ويمنعه يوم يشاء. ولمّا أتى البابليّون، اعتبر الشعب أنَّ مردوك هو أقوى من الربّ. وها هم يعرفون أنَّ الربَّ هو سيِّد الأرض كلِّها. هو الذي أرسل نبوخذ نصَّر، تلك الفأس في يده. هو الذي اختار كورش ومسحه كما سبق له ومسح داود، لكي يحرِّر شعبه ويعيده إلى أرضه. فالربُّ إله خفيّ، كما قال إشعيا، وبالإيمان فقط نعرف حضوره وأعماله. ثمَّ إنَّ الربَّ هو إله الأرض كلِّها، لا إله فئة من الفئات، ولا طائفة من الطوائف، ولا شعب من الشعوب. من المؤسف أن نجعل الله لنا، فيصبح عدوَّ الفئة المقابلة. يحارب معنا وكأنَّ الآخرين ليسوا بنيه وبناته.

24: 16ب-23 الكارثة الكونيَّة

"فقلتُ" (آ16ب). تجاه الفرحة في الشرق والغرب لعمل الربّ، يلفُّ الحزن بابل، ومن خلال بابل، العالم الوثنيّ الذي لا يريد أن يعرف الله. لهذا نقرأ: ويح، ويح، ويل لي. هكذا صرخت أورشليم حين تركت ربَّها (22: 1-5). ويرد خمس مرَّات لفظ "ب غ د"، الغدر. هذا ما شعرت به بابل (21: 2) بانتظار أشور (33: 1) حيث الغدر يترافق مع الخراب.

هو الرعب. ينجو الناس من شرٍّ فيقعون في شرٍّ آخر. ونلاحظ التلاعب على الحروف في العبريَّة: ف ح د. ف ح ت. ف ح (رعب، حفرة، فخّ). ويعود بنا النبيّ إلى الطوفان: "انفتحت كوى العلاء" (تك 7: 11). ويتلاقى "العلاء" (م ر و م) مع "أسس الأرض" كما نقرأ في المزامير: "ارتجَّت الأرض وارتعشت، أسس الجبال ارتعدت" (مز 18: 8)، وفي آ16 تُذكَر "المياه الكثيرة". وجاءت الصور: أضحت الأرض مثل "سكران" لا يثبت على قدميه، بل يترنَّح. والصورة الثانية: الخيمة أو العرزال الذي يتأرجح. لا شيء يثبت أمام قدرة الله. ونحن نعلم أنَّ الزلزال يرمز عادة إلى قدرة الله الفاعلة في الأرض.

"في ذلك اليوم" (آ21) يتدخَّل الله في الكون كلِّه (آ4 مع الشرح). في العلاء حيث الشمس والقمر والكواكب التي عبدها الأقدمون. وعلى الأرض حيث الملوك يثورون ويتمرَّدون (مز 2: 2). ويأتي فعل "افتقد" (ف ق د) الذي يعني عاقب ونال الجزاء خيرًا أم شرًّا. نستطيع القول: يؤدُّون الحساب في دينونة جماعيَّة، ولكن متأخِّرة لتمنح لهم فرصة للتوبة.

وبدأت الدينونة مع قوى الكون. على الشمس التي هي "شمش" والقمر الذي هو "سهر" (أو: سين أو: يرح). ولكن لم يُذكَر هنا الاسم "الإلهيّ" المعروف لدى الوثنيّين. واحد هو "الأبيض" (ل ب ن ه). والثاني هو "الحموَّه" (ح م ه) والحرارة. تبدَّل الاسم كلِّيًّا على ما نقرأ في سفر التكوين. فالشمس والقمر قنديلان يضيئان في النهار والليل. هما نيِّران (م ا ر ت) يحملان النور. إذًا هما في خدمة الخليقة ولاسيَّما الإنسان، فيعرف النهار من الليل، وخصوصًا يحسب متى تكون الأعياد وبداية الشهور. نتذكَّر هنا أنَّ أهل الشرق عيَّدوا بداية القمر، الهلال، أو القمر الجديد (1 صم 20: 5-27). وكانوا يتوقَّفون فيه عن العمل (عا 8: 5)، شأنه شأن السبت. كما نتذكَّر أنَّ عيد الفصح والفطير يعيَّد يوم يكون القمر بدرًا (14 الشهر) في ملء إشعاعه (خر 12: 6).

افتخر القمر بنوره الأبيض ورفعه "عابدوه". اليوم "يخفر" أي يستحي من نفسه ويخجل (الخفر في العربيَّة). فلا يعود يجسر على الإشراق. والشمس بحرارتها "تخزى". قال عنها المزمور: "مثل العروس الخارج من محلّته" (19: 5). أمّا اليوم فالخزي يلتحفها حين تحضر أمام الربِّ الجبّار.

أين هو الربّ؟ في مدينته، على جبله المقدَّس. هو الملك وحوله الشيوخ. فهو من أورشليم يوجِّه الكون كلَّه، فيرى الشيوخ عمله ويحدِّثون الشعب. هم صعدوا مع موسى على الجبل المقدَّس "ومكان منظر مجد الربِّ كنارٍ آكلة على رأس الجبل" (خر 24: 17). وهم يقدرون اليوم أن يجتمعوا في صهيون حول إشعيا الذي يعني اسمه الخلاص كما عنى اسم موسى "الناجي من الماء"، ويشاهدوا مجد الربّ. فما لهم وأصنام الأمم وعظماء العالم! قال المزمور: "الربُّ إله عظيم، ملك كبير على كلِّ الآلهة... له البحر وهو صنعه، ويداه كوَّنتا اليابسة" (مز 59: 3، 5).



Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM