الفصل الثالث والعشرون :على صور وصيدا

الفصل الثالث والعشرون

على صور وصيدا

هذا هو القول الأخير على الأمم، فيبدو بشكل رثاء حول دمار هذين المرفأين الغنيّين اللذين جمعا غنى العالم. ولكن مثل هذا الغنى لا يدوم سريعًا. انظروا ما حصل لبلاد الرافدين: الكلداي وأشور. انظروا الزانية: تكون اليوم موقَّرة وغدًا منسيَّة.

"ثقل صور" (آ1). للوهلة الأولى نحسُّ أنَّنا أمام قصيدة على صور (23: 1-14) ثمَّ مقطع نثريّ يتحدَّث عن مستقبل صور (آ15-18). غير أنَّ هذا القول يتكلَّم أيضًا عن صيدا (آ1-4، آ12-14) التي كانت تارة مشاركة لصور، وطورًا مزاحمة لها، بل مزاحمة للمدن الفينيقيَّة كلِّها (في آ11، كلام على كنعان التي هي المنطقة الساحليَّة الممتدَّة من مصر إلى تركيّا الحاليَّة). نتذكَّر أنَّ لفظ "فينيقيّ" جاء من اليونان وورد أوَّل ما ورد عند الشاعر هومير. واللفظ اليونانيّ phoinix (الأحمر الغامق).

أعلن إشعيا أنَّ صور وصيدا دُمِّرتا كلِّيًّا. ولكنَّ هذا لن يحصل بالنسبة إلى صور إلاَّ مع الإسكندر الكبير (332ق.م.) لهذا جعل بعض المؤرِّخين هذا القول الإشعيائيّ في القرن الرابع ق.م.، في نسخته الأخيرة. ولكن لا حاجة إلى هذا التأخير، فالتهديد لصور معروف منذ أيّام إشعيا: ففي الصراع بين مصر وأشورية، كانت صور والمدن الفينيقيَّة بجانب مصر. ولمّا قام سنحاريب بحملة على المنطقة سنة 702-701، هرب الملك لولي إلى قبرص، وخضعت صيدون للحكم الأشوريّ دون أن تُدمَّر. وبدا النبيّ إشعيا مسرورًا لتراجع صور. فالمدن الفينيقيَّة كانت في نظره مثالاً ساطعًا على الكبرياء (وهكذا سيفعل حز 26-28 حين يحاصر نبوخذ نصَّر صور سنة 585-572). جمع إشعيا نظرة الإيمان عنده إلى معطيات التاريخ، فجعل كلَّ هجمة على صور علامة على دمارها في وقت قريب جدًّا. وفي هذه المرثاة، قابل الحاضر مع الماضي فأظهر الفرق الشاسع بين الاثنين.

23: 2-14 رثاء صور

"ولولي يا سفن ترشيش" (آ1). هي تلك التي تمضي إلى البعيد، ولهذا فهي كبيرة جدًّا (1 مل 10: 22). فصراخ الوجع الذي يدفع السفن التي لا ملجأ لها، يقابل صمت الناظرين الذين يحتارون في ما يعملون. وما نقرأ في بداية الرثاء نقرأه في آخر الرثاء (آ14). والسبب دمار السفن. ولكن لماذا الولولة في آ1؟ لأنَّ صور خربت. هي قراءة ترتبط بالعنوان. ويتواصل الكلام: لم يبقَ بيتٌ فيها. متى عرف الناس بذلك؟ عند عودتهم من أرض كتيم التي تعني قبرص والجزر الواقعة في الشمال من البحر المتزسِّط. نقرأ "م ب ي ت" ثمَّ "م ب و ا". اعتبر بعض الشرّاح أنَّنا أمام "ديتوغرافيا"، حيث كُتب اللفظ مرَّتين. ولهذا حذفوا اللفظ الأوَّل وقالوا فقط: "دُمِّرت صور". في عودة من أرض كتيم كشف لهم (للملاّحين) ذلك

"اندهشوا" (آ2). من؟ الذين أرسلتهم (م ل ا ك ي و: في العربيَّة: ملائكتك، مرسلوك). هكذا في مخطوط قمران. أمّا النصّ الماسوريّ فيقول: ملأوك (م ل أ و ك). فسكّان الساحل يعملون مع صيدا وصور. وتذكر البضاعة التي تنقلها "تاجرةُ الأمم". لا حدود لتجارتها، فتنقل غلَّة مصر: شيحور الذي هو قناة متفرِّعة من النيل. ثمَّ نهر النيل مع السفن التي تمرُّ فيه.

"اخجلي، اخزي، يا صيدون" (آ4). كانت تُعتَبر حصن البحر. يبدو أنَّها كانت أقدم مدينة فينيقيَّة، هي التي ولدت صور وعددًا من المدن (وفي الزمن الهلّينيّ، طرابلس). وها هي اليوم تتبرَّأ من أولادها. فهي ما أعانت صور في بليَّتها.

مصر شاهدت ذلك فتوجَّعت على خراب صور. الساحل الكنعانيّ هرب باتِّجاه ترشيش (رمزيًّا: آخر الدنيا). إذا كان حصل لصور ما حصل، فماذا يحصل لسائر المدن؟ صور القديمة التي روى عنها المؤرِّخ اليونانيّ هيرودوت (القرن الخامس ق.م.) أنَّه سمع من الكهنة عن هيكلها الذي عمره 2300 سنة (التاريخ 2: 44)، وتكلَّم فلافيوس يوسيفس عن هيكل صور الذي بُنيَ قبل هيكل أورشليم ب 240 سنة. في الواقع، أعيد بناؤه بعد أن دمَّر شعوب البحر المدينة حوالي سنة 1200. صور التي "تنقلها رجلاها بعيدًا" (آ7)، فأسَّست المستوطنات ولاسيَّما قرطاجة في أفريقيا، وترشيش Tartessos في إسبانيا. صور "المتوِّجة" أي تلك التي تعطي التيجان لملوك ورؤساء في مستعمراتها. وأخيرًا "رؤساء تجّارها مكرَّمون في الأرض".

ومع ذلك، كلُّ هذه العظمة زالت بيد الله القدير. لا شكَّ، هي الحرب. ولكن إشعيا يعلن: الله قضى بذلك. فما بقي لأهل صور سوى العودة إلى فلاحة الأرض، لأنَّ لا مستقبل بعد لبناء السفن. هنا نتبع مخطوط قمران "ع ب د ي" (الفلاحة) بدل "ع ب ر ي" (العبور)، كما في النصّ الماسوريّ (فالمزج بين الراء والدال أمرٌ معروف).

ويتحدَّث النبيّ عن قدرة الله. فيدُ النبيّ التي هدَّدت في الماضي ما زالت تهدِّد اليوم (5: 25؛ 10: 4، 26). هذا ما يعود بنا إلى ما فعل الربُّ بمصر. ألا يستطيع أن يفعل كذلك بالمدن الفينيقيَّة؟ في خلفيَّة هذا التهديد، عودة إلى نشيد الخارجين من البحر برفقة موسى: "يذوب جميع سكّان كنعان" (خر 15: 15). وإذا كان نصر الربِّ بعيدًا على مصر، فالنصر على الأشوريّين حاضر في الأذهان: فأعظم الممالك لا تنجو من الكارثة، وكلُّ ما ارتفع سوف يُوضَع.

23: 15-18 مستقبل صور

بعد الكارثة تعود صور إلى سابق عزِّها. ذاك الذي هدمها يبنيها. اسمُه الربُّ القدير. "في ذلك اليوم" (آ15) يتدخَّل الربُّ فيعلن أنَّ صور تختفي سبعين سنة ثمَّ تظهر. هذا ما يذكِّرنا بالسبعين سنة من السبي التي أعلنها إرميا (25: 7-12؛ 29: 10). الحياة البشريَّة تصل إلى سبعين سنة. وقال إشعيا: "أيّام ملك واحد". هو وقت مثاليّ، لا وقت حقيقيّ، ويشير إلى الزمن الذي يحتاجه الله لكي ينهي عمله. 70 هي 7×10. سبعة أيّام الخلق الذي تمَّ بعشر كلمات (وقال الله، وقال الله، تك 1: 1ي). هنا نقابل بين ملء "السبعين سنة" و"سنة الأجير" أو "سنوات الأجير" (16: 14؛ 21: 16) التي هي محدودة جدًّا. كما قيل: أمام الله الأبديَّة. فهو لا يسرع بل يعمل بهدوء، وهذا ما يغذّي الرجاء عند المؤمن. إذا كان القول النبويّ في آ1-14 طبِّق على سقوط صور سنة 572 ق.م. (بعد 13 سنة من الحصار) بيد نبوخذ نصَّر، فهذا يعني أنَّ مهلة 70 سنة تدفعنا إلى سنة 500، يوم أعاد داريوس الأوَّل الفارسيّ تنظيم مملكته، فأعاد بناء الأسطول الفينيقيّ من أجل مواجهة اليونان سنة 490-480 ق.م.

صور "تزني". هي صورة عن نشاطها التجاريّ. لهذا كان كلام في آ18 عن "تجارتها" (س ح ر ه) التي تعود إلى سابق عزِّها مع ممالك الأرض. وهي ترجع إلى الربِّ فتقدِّم للربِّ ما ربحته. يصبح "قدسًا" (ق د ش) للربّ، مكرَّسًا، وذلك بخلاف ما نقرأ في تث 23: 19 (لا تدخل أجرة زانية... إلى بيت الربِّ إلهك). فهذا المال يكون لتأمين الطعام واللباس للذين يخدمون أمام الربّ. ونلاحظ: الأكل للشبع. هذا يعني وفرة العطاء. ثمَّ اللباس الفاخر (ع ت ي ق) الذي يدوم طويلاً. هل نحن أمام تكفير عمّا فعلته إيزابيل حين أتت بكهنة البعل إلى مملكة إسرائيل، من مملكة صيدون؟ فإيزابيل كانت ابنة أتوبعل، ملك صيدون. والآن، صور (مع صيدون) تعيد الاهتمام بكهنة الربِّ الإله في هيكله.

في 18: 7؛ 45: 14، حمل المصريّون أو الكوشيّون هداياهم إلى الهيكل. ففي زمن المنفى سرت الفكرة بأنَّ الوثنيّين المهتدين إلى الربِّ يكونون أسخياء تجاه الهيكل (60: 6-9؛ مز 72: 10). وهنا صور وصيدا تبعتا هذا المثال. ففي النهاية، يجب أن تعود جميعُ شعوب الأرض إلى الربِّ الإله وتعبده. وليس بالضرورة في أورشليم أو في جبل جرزيم، كما قال الربُّ للسامريَّة. ففي كلِّ مكان يُعبَد الربّ، وعابدوه يعبدونه بالروح والحقّ (يو 4: 23)..

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM