الفصل الحادي والعشرون: ثلاثة أقوال في بابل وموآب والعرب

الفصل الحادي والعشرون

ثلاثة أقوال في بابل وموآب والعرب

جاء ف21 مكوَّنًا من ثلاثة إعلانات (م ش ا) لها وزنها! واحد على بابل التي دُعيَت برّيّة البحر (21: 1-10)، وآخر (آ11-12) على أدوم، تلك المنطقة المحاذية للبحر الميت. والثالث (آ11-17) على القبائل العربيَّة. هو الربُّ يحكم على الشعوب، لا على شعبه فقط، فهو سيِّد التاريخ.

21: 1-10 قول على بابل

"برِّيَّة البحر" (م د ب ر. ي م). في المدوِّنات الأشوريَّة دُعيَ ملك بابل "ملك أرض البحر". هذا ما يجعلنا في النهاية حوالي سنة 539، والزمن القريب من سقوط بابل. في ف 13، قرأنا أيضًا وصفًا لسقوط بابل على يد الميديّين. ما نودُّ قوله في هذه المناسبة هو أنَّ نبوءات إشعيا وصلتنا على لسان تلاميذه الذين أعادوا قراءة ما أعلنه المعلِّم وطبَّقوه على التاريخ. فكلمة الله لا يمكن أن تكون من الماضي، وإن قيلَتْ في الماضي. إنَّ كلمة الله حاضرة فقرأها تلاميذ إشعيا على مدى مئتي سنة ونيِّف فبدت جديدة لهم، ونقرأها نحن اليوم[RK2] . رأى النبيّ الكارثة من بعيد، حيث الجيوش تترك الغبار وراءها، فشبَّهها بعاصفة في الجنوب. تحدَّث عن عيلام، أي المنطقة العالية في بلاد فارس وعن ميداي[RK3] . تحالفتا مع بابل للإطاحة بالأشوريّين، وها هما تنقلبان على الحليف السابق. لهذا دعاهما "الغادر" (ه ب و غ د) والمخرِّب. الربُّ يطلق هذين المهاجمين لأنَّه سمع صراخ الأسرى الموجودين في تلك العاصمة. فحين تدمَّر بابل تتحرَّر الشعوب المقهورة.

متى أخذت بابل بحسب المؤرِّخ اليونانيّ هيرودوت (1: 191) وكرونيكة نبونيد والفصل الخامس من سفر دانيال؟ في ليلة من الليالي، كان الملك وعظماؤه يشاركون في وليمة صاخبة ولا يهتمُّون لما يحدث في الخارج، عند مغيب الشمس (آ4). الليل يحمل البرودة والراحة، فإذا هو يُلقي الرعب في النفوس: المائدة، البُسط المبسوطة (لا الحراسة)، يأكلون، يشربون. هو حكم على رؤساء بابل يمكن أن يطبَّق على رؤساء السامرة وأورشليم، ورؤساء كلِّ الأيّام. هذا ما سبق وقرأناه في 5: 12: "الدفّ والناي والخمر ولائمهم". لهذا دعاهم النبيّ "الأبطال في شرب الخمر" (آ22)، لا المدافعين عن المدينة والمهتمّين بشعبهم.

في آ6-10 هو موضوع الحارس الواقف على الأسوار يراقب (م ص ف ه) ما يرى ويخبر. وهكذا تكون وظيفة النبيّ وظيفتين. هو لا يكتفي بأن يرى، بل يصغي، يتنبَّه لأيِّ حركة وأيِّ ضجَّة. هذا الحارس يقف على أسوار أورشليم، لا أسوار بابل، ليكون أوَّل من يخبر بسقوط المدينة العظيمة ودمار كلِّ آلهتها. فبابل هي رمز الأصناميَّة والشرك بالنسبة إلى شعب الله. كلُّ الشعوب كانت تنتظر هذا الخبر. فهتف إر 51: 8: "سقطت بابل بغتة وتحطَّمت".

ويتوجَّه النبيّ إلى أورشليم. "مدوستي". داسها العدوّ وحطَّمها. وصورة ثانية "ابن بيدري" (آ10). البيدر هو موضع تجعل عليها حزم القمح (أو الشعير) فيدوسها النورج. هكذا صار الشعب حين جاء العدوّ إلى أرض يهوذا. ذاك ما فعل الطاغي وها يومه أتى.

هي صورة ثانية عن سقوط بابل (13: 19) بيد الميدييّين (آ17) مع صورة الرعب وألم المرأة التي تضع طفلها. جعلَنا ف 13 في إطار "يوم الربّ". أمّا ف 21 فأعطانا صورة الحارس الذي راقب على الأسوار. وهي صورة يستعيدها النبيّ حزقيال في معنى آخر. أمّا الفرحة بسقوط بابل فهي هي في كلِّ النصوص.

21: 11-12 قول على أدوم

"ثقل دومة". ودومة إشارة مخفية إلى أدوم التي دُعيَت أيضًا سعير. وجاء التلاعب على الكلام لأنَّ لفظ "د و م ه" في العبريَّة يعني الصمت وموضع الصمت (مز 94: 17؛ 115: 17). وذاك ما حصل لهذه القبيلة الإسماعيليَّة المقيمة في ما يُدعى عربيا أو منطقة شرقيّ الأردنّ.

في القول السابق، كان حديث عن "المراقب"، وهنا عن "الحارس" (ش م ر) الذي ينتظر نهاية الليل مع رمزيَّة الخوف والموت. وإذا أطلَّ الصباح "فترة"، فالليل عائد. ماذا يفعل هذا الشعب المهدَّد؟ لا جواب على مستوى السياسة. ولكن هناك جملة موجزة في ثلاثة أفعال: اطلبوا. لا مصر، بل الربّ. ارجعوا، لأنَّ الرجوع إلى الله نداء متواصل. وأخيرًا تعالوا مع الآتين إلى أورشليم: "هلمَّ نصعد إلى جبل الربّ... فيعلِّمنا طرقه" (2: 3).

21: 13-17 قول على بلاد العرب

لسنا هنا في الصحراء حيث نجد بعض الكلأ والشوك. بل في مناطق تتضمَّن أقلَّه بعض الأشجار. فالوعر (ي ع ر) يعني الغابة. هناك يمكن الاختباء من العدوِّ الزاحف. أمّا "ددان" فيُعتبر من نسل إبراهيم بواسطة قطّورة (تك 25: 2-3). هم بدو يمتلكون القوافل ويسيرون في الفيافي (ذاك هو معنى "ع ر ب"، القحط والجفاف، في خطِّ اللغة الحبشيَّة). في الماضي كانوا أحرارًا في تنقُّلاتهم. ولكن مع مجيء الأشوريّين، لم يعودوا أحرارًا.

وتذكر النبوءة تيماء التي هي واحة في الحجاز. إلى هناك يكون الهرب حيث لا تصل الجيوش المعادية: السيف، القوس، القتال.

بعد ددان، ها هي قيدار، القبيلة العائشة شمال الجزيرة العربيَّة. خانت العهد مع الإخوة (عا 1: 9) وجعلت نفسها في خدمة المجتاح (إر 49: 28-33). ذهبَتْ مع القويّ، واعتبرت أنَّها في أمان، ولكنَّها أخطأت. أمامها سنة كاملة (تلك هي صورة سنة الأجير، 16: 14) بأيّامها، غير أنَّ "بقيَّة" تبقى. فالله ليس إله الفناء التامّ. ومن يؤكِّد كلام النبيّ؟ الله. هو "تكلَّم". إذًا كلمته تتمُّ ولا يقف في وجهها عائق.

لماذا تحدَّث إشعيا عن هذه القبائل؟ لكي ينبِّه شعبه الذي ما زال يحنُّ إلى حلف من الأحلاف في وجه المدِّ الأشوريّ. فكأنَّه يقول: انظروا إلى ما حدث حولكم. إلى أين تهربون؟ حتّى قبائل الصحراء لم تنجُ من الخطر. أتريدون أن يكون مصيركم "الصمت" والدمار كما حصل لأدوم؟ ولكن هل يسمعون؟ فالناس في كلِّ زمان يسمعون بصعوبة الكلام الذي لا يوافق نزواتهم وكبرياءهم. ويندهشون في النهاية إذا حلَّ بهم الخراب[RK4] .

 


[RK1]فاصل.

[RK2]تعليق جيد.

[RK3]مادي

[RK4]خاتمة جيدة توجز موضوعاً هاماً في سفر إشعيا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM