الفصل التاسع عشر: مصير مصر وسائر الشعوب

الفصل التاسع عشر

مصير مصر وسائر الشعوب

استعاد ف 19 بعض ما في ف 18 (آ1-8)، فبيَّن أنَّ مصر ستعرف الذلّ والهزيمة بالرغم ممّا يُقال عن حكمتها. ولكنَّ الربَّ يدعوها كما يدعو أشور، بعد أن تزول العداوة بين دولتين عظيمتين. فجميع الأمم تكون في حضرة الله الذي هو أبو الجميع.

ينقسم ف 19 قسمين كبيرين. في 19: 1-15، إعلانٌ على مصر. وفي آ16-25، انطلاقة نحو الاهتداء إلى الربّ والمصالحة. أمّا آ1-15 وما فيها من وحي على مصر، فتُجعَل في ثلاث قطع: الأولى، دمار تسبِّبه الخلافاتُ الداخليَّة (آ1-4). الثانية، سلسلة من الكوارث الطبيعيَّة (آ5-10)، الثالثة، عجز المسؤولين لأنَّهم أغبياء (أ و ل ي م) (آ11-15).

19: 1-4 قول على مصر[RK1]

الربُّ يأتي. لا إلى أرضه فقط، بل إلى كلِّ أرضٍ في الكون. ومجيئه بشكل تيوفانيا أو ظهور إلهيّ، احتفاليّ، مع وجهتين: وجهة القتال ووجهة الدينونة. هو يقاتل عن الضعفاء والمظلومين، ويدين الخطأة: "ليس مثل الله، الذي يركب السحاب ويأتي إلى معونتك، والغمامَ في عظمته" (تث 33: 26). عندئذٍ ترتجف أوثان مصر. "إ ل ي ل ي": تلك التي ليست شيئًا (2: 8، 18، 20). والقلب مركز القوَّة "يذوب"، فلا تعود مصر تستطيع القيام.

"وأثير مصر بمصر" (آ2). هي الخلافات الداخليَّة في وادي النيل، حوالى سنة 716 وبداية حكم حزقيّا بعد موت والده. ولكن تعود السلطة بشكل تدريجيّ خصوصًا مع شباكا "روح مصر" أي العقل والفهم. "يُفرَغ" (ن ب ق ه). رج إر 19: 7. يضيع التفكير ومعه "المشورة". ويأتي فعل "بلع" في صيغة المتكلِّم المفرد. الله يبتلع مقاصد مصر فلا تصل إلى المبتغى. هل يطلبون الربّ، هل يسيرون (د ر ش) في خطِّ الربّ؟ كلاّ. بل يعودون إلى ما اعتادوا عليه: الأوثان، السحرة، الجان، التوابع. هذا ما يعرفه العالم المصريّ ولا يستطيع أن يخرج منه (تك 41: 8؛ خر 7: 11، 22).

ويأتي "سيِّد قاسٍ وملك عزيز" (آ2)، قدير. هو شباكا الذي أحكم قبضته على مصر، آتيًا من النوبة، سنة 712. وسوف ينطبق الكلام على أسرحدون الذي احتلَّ وادي النيل سنة 671 وأشوربانيبال سنة 661 ق.م.

"يقول السيِّد". حرفيًّا: ن أ م ة. في العربيَّة هو الصوت الخفيف الذي يلقيه الربُّ في أذني النبيّ. لا حاجة إلى الضجَّة والصوت العالي. فقدرة الربِّ في صمته، وهو يختلف عن العظماء في هذا العالم[RK2] .

19: 5-10 كوارث طبيعيَّة

تدخَّل الربُّ في ظهور إلهيّ، فألقى الرعب في مصر وآلهتها، وأعلن أنَّها ستخضع لسيِّد غريب. ربَّما لم تفهم مصر. فجاءت الكوارث الطبيعيَّة كما كان في زمن موسى علَّ الفرعون يتوب ويعرف الربّ. في الواقع هي كارثة واحدة: الجفاف. البداية مع النيل والباقي يتبع، لأنَّ النيل هو الحياة في مصر: زال القصب والأسل. غاب السمك. والعاملون بالحياكة الذين يحتاجون الماء يتوقَّف عملهم.

19: 11-15 غباوة المسؤولين

اشتهرت مصر بحكمائها. ولكن انقلب كلُّ شيء. الرؤساء صاروا "أغبياء" (آ11). يعطون مشورة "مبعَّرة" أي مرتبطة بالبعير. وماذا يفهم البعير؟ وتتكرَّر "الصفةُ" عينها في آ13. ولماذا هم كذلك؟ لأنَّه لم يعرفوا أن يقرأوا مقاصد الله. ذاك كان الوضع منذ القديم مع يوسف بن يعقوب الذي فهم وحده حلمَيْ فرعون (تك 41: 1ي)، لا "جميع سحرة مصر وجميع حكمائها" (آ8). وما فعله يوسف في الجنوب، في مصر، سوف يفعله دانيال في الشمال، عند "نبوخذ نصَّر". طلب منهم الملك أن "يخبروه بالحلم، لأنَّه إن أخبرهم لفَّقوا الأجوبة الكاذبة (دا 2: 25). فالحكمة الحقيقيَّة لا تأتي من عند الآلهة الكاذبة، لكن من عند الإله الواحد. قال دانيال: "في السماوات إله يكشف الأسرار" (آ28). لهذا طلب دانيال ورفاقه "المراحم من قبل إله السماوات" (دا 2: 18). ويوسف سمع الفرعون يتحدَّث عن إمكانيَّة تفسير الأحلام عنده، وقراءة مقاصد الله (تك 41: 15). فأجاب يوسف: "الله يجيب فرعون جواب السلام" (آ16). سواء تكلَّمتُ أنا أو لم أتكلَّم: ب ل ع د ي: حتّى بدوني[RK3] .

هل يعرف "حكماء مصر" أن يستندوا إلى الله مثل هذين الشابّين "يوسف ودانيال[RK4] "؟ وذكرَ إشعيا "رؤساء صوعن" التي كانت عاصمة الملوك الرعاة الذين احتلُّوا مصر في القديم. فكأنَّه يذكر رؤساء مصر كلِّها. ثمَّ "رؤساء نوف" (ممفيس اليونانيَّة) العاصمة القديمة، القريبة من القاهرة الحاليَّة. والفرعون نفسه الخارج من العالم الكهنوتيّ، ماذا علَّم "ابنه"؟ (آ11). ولماذا هذا التحوُّل في مصر؟ بفعل الربّ "من الرأس إلى الذنب" (9: 3)، من الفرعون إلى آخر إنسان في المملكة، من أكبر شجرة إلى أعطب نبتة.

19: 16-25 اهتداء مصر إلى الربّ

"في ذلك الوقت" (آ16). هو موضوع جديد كلِّيًّا. كانت يهوذا في الماضي تخاف من مصر، وها هي اليوم تخيف مصر التي كانت ترعبها (آ17). ولكن بعد هذه المرحلة الأولى، تصل مصر إلى معرفة الله. في أيّام الفرعون، تكبَّرت مصر ورفضت الخضوع للربِّ بالرغم من الضربات، أمّا اليوم فعادت إلى المخافة، لا من يهوذا تلك المملكة الصغيرة، بل من الربِّ المقيم في يهوذا وفي أورشليم. والمخافة تقود إلى المعرفة. هكذا نكون أمام قراءة ثانية لنصٍّ سابق يتميَّز بالشموليَّة[RK5] . ليس "إسرائيل" وحده شعب الله، فمصر أيضًا. وليست يهوذا وحدها "صنعة" الله، بل أشور أيضًا.

"تكون مصر كالنساء" المعروفات بالخوف. لن تتجبَّر بعد. هي تخاف من يد الربِّ المرفوعة. حرفيًّا: الربُّ يهزُّ يده كما يهزُّ السيِّد عصاه. ونفهم أنَّ النبيّ لا يتكلَّم عن الشعب، بل عن الأرض. حين كان العبرانيّون في مصر، كانوا يعملون في الأرض والبناء، وهم يرتعبون (ف ح د) كلَّ مرَّة يتذكَّرون زمن العبوديَّة. والآن يكفي أن تفكِّر مصر بأرض يهوذا لتتذكَّر ما حلَّ بها من قبل الربّ. ذاك ما أنشده الهاربون بعد عبور البحر: "مركبات فرعون وجيشه ألقاهما في البحر، فغرق أفضل فرسانه في بحر سوف" (خر 15: 4).

بدا العمل في الأصل بحسب شريعة "سنّ بسنّ وعين بعين" (خر 21: 24). أمّا الآن، فيتجاوز النصُّ الإشعيائيّ هذا المنطق، ويتطلَّع إلى امتداد عبادة الله الواحد باتِّجاه الجنوب كما باتِّجاه الشمال. "في ذلك اليوم" (آ18). نقرأ هنا موضوعًا آخر: خمس مدن. الأولى "عيرها هرس". في معنى أوَّل: مدينة الهرس (من هرس: دقَّه دقًّا عنيفًا). هكذا نُقلت إلى اليونانيَّة عند مترجمَين، أكيلا وتيودوسيون. ولكن هناك من حوَّل الهاء إلى حاء فصارت: هاحرس أي "مدينة الشمس" كما قالت الشعبيَّة اللاتينيَّة civitatis solis، وسعديَّة بن غاون الذي نقل الكتاب المقدَّس إلى العربيَّة في القرن العاشر (قرية حرس)، ثمَّ التلمود حيث صارت المدينة في اليونانيَّة Héliopolis[RK6] . ويذكر إر 44: 1 المدن الأربع: مجدل، تحفنحيس، نوف، فتروس. أمّا المعنى الرمزيّ فيدلُّ على رقم مقدَّس (4 =1 الذي يدلُّ على الله). كلُّ أرض يهوذا حملت اسم الله إلى مصر في المدن التي أقام فيها المؤمنون. لا كعبيد، كما في زمن موسى، بل كأحرار أرسلهم الله باسمه. كما سبق له ونصح يعقوب بأن لا يخاف أن ينزل إلى مصر (تك 46: 3): "أنا أنزل معك" (آ4)، قال له الربّ.

"لغة كنعان" هي اللغة العبريَّة. لا، لن يفرض الفاتحُ لغتَه على شعب صغير. فلغة الله أعظم اللغات وهي تفرض نفسها. أما ذاك الذي حصل للآتين إلى أورشليم، يوم العنصرة: "نسمعهم يتكلَّمون بلغاتنا على أعمال الله العظيمة" (أع 2: 11)، مع أنَّ المتكلِّمين هم كلُّهم من الجليل (آ7).

"في ذلك اليوم". أمرٌ جديد لا عهد للناس به من قبل. "مذبح في أرض مصر". هذا غير معقول. فالفرعون منع العبرانيّين أن يمضوا ثلاثة أيّام في حجٍّ إكرامًا لله (خر 5: 1-3). ولكنَّ الأمر صار معقولاً، على المستوى المادّيّ، في زمن الفرس والتسامح الدينيّ الذي عُرفوا به. ولكن ما يلفت النظر هو أنَّ سفر التثنية يمنع وجود مذبح غير ذاك الموجود في أورشليم (تث 12: 1-14)، كما يمنع ("النصب"، م ص ب ه) أن "تُقيم لك نصبًا" (تث 16: 22). فهذا أمر يبغضه الربّ. وها هو إشعيا يعلن وجود مذبح في مصر، أرض عبادة الأوثان. هو "آية" (أ و ت) وعلامة يدعو إلى الإيمان بالإله الواحد. وهو "شهادة" (ع د)، أي يشهد لحضور الله، لا في إسرائيل فقط، بل في مصر أيضًا. فالأرض أرضه كما أرضُ إسرائيل.

وكيف نعرف أنَّ شعب مصر هو شعب الله مثل شعب إسرائيل؟ لأنَّه عامل الشعبين الواحد مثل الآخر. في سفر الخروج، نعرف أنَّ بني إسرائيل تنهَّدوا "من العبوديَّة وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله بسبب العبوديَّة" (خر 2: 23). ويواصل النصّ: "وسمع الله أنينهم، فتذكَّر ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب" (آ24). وهناك "ميثاق" مع مصر، على ما يبدو، لأنَّ هناك الحلف (إش 19: 18، ن ش ب ع و ت، المدن الخمس حلفت). لهذا، حين صرخوا (ص ع ق)، أرسل لهم "مخلِّصًا" (م و ش ي ع، نتذكَّر اسم يشوع) فأنقذهم (آ20). نعرف هنا أنَّ الأشوريّين اجتاحوا مصر "واستعبدوها" وقتًا من الزمن. فتصوَّر النبيّ أنَّهم صرخوا إلى الربِّ لكي يخلِّصهم، مع أنَّه كانت انتفاضة أخرجت العدوَّ من البلاد.

ونصل إلى فعل "عرف" في صيغة المجهول (ن و د ع)، أي أنَّ الله عمل لكي يعرفه المصريّون فعرفوه، ومارسوا ما يمارسه الشعب العبرانيّ: ذبيحة، تقدمة، نذر. فالهدف من التاريخ في الكرازة النبويَّة، أن تعرف الشعوب الله. لا في إشعيا فقط، بل في حزقيال أيضًا: "وأمدُّ يدي... فيعرفون أنّي أنا الربّ" (حز 6: 4).

في الماضي "ضرب" الله المصريّين. يرد هذا الفعل عشرين مرَّة ونيِّف في سفر الخروج، ولكنَّ الربَّ لا يضرب ليضرب، بل ليدعو إلى التوبة. وها هم المصريّون يعودون (آ22، و ي ش ب و) لهذا، "يستجيب لهم الربُّ ويشفيهم".

"في ذلك اليوم"، معجزة أخرى (آ23). الخلاف المستحكم بين مصر وأشور يزول. تكون طريق بين المملكتين فتكون الزيارات متبادلة، والتعاون تامًّا في وحدة يكون الربُّ الملكَ فيها. وأين يكون اللقاء؟ في أورشليم. إلى هناك يأتي الجميع ويعبدون الربَّ فتزول العداوة من القلوب.

"في ذلك اليوم" (آ24) نرى أين يكون "إسرائيل"؟ في المرتبة الثالثة، بعد الأمم، بعد مصر وأشورية، فتصل البركة إلى جميع الشعوب ونندهش: يقول الربُّ "شعبي" (ع م ي) أنا هو مصر. فأين إسرائيل؟ هل أسَّس الربُّ لنفسه شعبًا جديدًا؟ ثمَّ "أشورية" أنا صنعتها بيدي: أشور المملكة الوثنيَّة التي زرعت الدمار في كلِّ مكان وتركت القتلى والمشوَّهين، هي "صنعة يدي"، يقول الربّ! من يتخيَّل هذا؟ الربُّ هو من يغفر. غفر لشعبه، ويغفر لسائر الشعوب. وماذا يبقى لإسرائيل؟ هو "ميراثي" (ن ح ل ت ي). يعني فيها أقيم، لأنَّ الهيكل مبنيّ فيها. والشعوب تأتي من كلِّ حدب وصوب. "تسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الربّ" (2: 3). وقال صف 3: 9-10: "أجعل للشعوب شفة نقيَّة، ليدعوا كلُّهم باسم الربّ، وليعبدوه بكتف واحدة (أو: مجهود واحد). من عبر أنهار كوش (النوبة)، المتضرِّعون إليَّ الذين بدَّدتُ، يحملون لي تقدمة".


[RK1]لماذا لم يتم استخدام العنوان: الدمار الذي تسببه الخلافات الداخلية أسوة بعناوين القطع الأخرى؟

[RK2]تعليق جميل!

[RK3]لا ضرورة لكل هذه الفقرة.

[RK4]لا ضرورة لهذا السطر.

[RK5]من المهم اظهار فكرة الشمولية بأكثر وضوحاً وتفصيلاً في التفسير.

[RK6]لا أدري إن كان يجب التفصيل في اسم المدينة الأولى إلى هذا الحد؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM