الفصل الثالث عشر:سقوط بابل

الفصل الثالث عشر

سقوط بابل[RK1]

إذا جعلنا جانبًا ف 22، نقرأ في ف 13-23 أقوالاً نبويَّة موجَّهة إلى الأمم. شابه إشعيا عاموس وإرميا وحزقيال في الحكم على الدول المعروفة في زمانه، ليعلن أنَّ الربَّ هو سيِّد التاريخ، ويسيطر على مصير الإمبراطوريّات العظمى. هي تكبَّرت حين اعتبرت نفسها قديرة مثل الله، فانحطَّت وزالت. تلك هي نظرة النبيّ إلى أحداث العالم، وهي تختلف عن نظرة معاصريه الذين اعتبروا أنَّ الآلهة أقوى من الإله الحقيقيّ، لأنَّ الجيش الذي يمثِّلها أقوى من جيش "أورشليم". أمّا الذين كانوا في الشتات فانبهروا بمردوك، إله بابل، وبالأعياد التي تقام إكرامًا له. ولكن حين تسقط بابل[RK2] ، ماذا يبقى من أصنامها؟

ماذا نقرأ في ف 13؟ بعد آ2 التي تقدِّم العنوان، نكتشف المواضيع التالية: (1) "أنا أوصيت"، الربُّ هو الذي صنع (آ2-3). (2) "صوت ضجيج". هو وصف الاجتياح الذي يشبه اجتياح كلِّ المدن في ذلك الزمان (آ4-5). (3) يوم الربِّ قريب (آ6-16). (4) المدينة المدمَّرة (آ17-22).

13: 1 العنوان

"م ش ا". هو إعلان من فعل "ن ش ا" رفع (الصوت). ويعني أيضًا: الثقل، الوزن. كأنَّنا نقول: إعلان، كلام له وزنه. ويجب أن يؤثِّر في الجماعة. هو كلام عن بابل. ثمَّ "رأى" (بدون الضمير) "ح ز ا". أجل، النبيّ يرى الأمور بعين الربّ. يدخل في سرِّه على ما قال النبيّ عاموس. "إنَّ السيِّد الربَّ لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يعلن سرَّه لعبيده الأنبياء" (عا 3: 7). ويذكر اسم إشعيا واسم والده وكأنَّنا نقرأ اسمه للمرَّة الأولى.

13: 2-3 أقيموا راية

الربُّ يتكلَّم منذ البداية. يدعو المجتاحين إلى تجمُّع عظيم ويجعل علامة (ن س)، راية على الجبل. والجيش يدعو الجيش لكي يتقدَّم. "أبواب الأشراف" (ن د ي ب ي م). أو صيغة المفرد، هو أحد أبواب بابل. هو تلميح سرّيّ إلى اسم المدينة. باب إلاني: باب الآلهة، بابلونة.

"أنا أوصيتُ" (آ3). أنا أرسلتُ وحمَّلته وصيَّة. فهذا القائد هو أداة بيد الله. من أجل مهمَّة محدَّدة. "مقدِّسي". ذاك الذي قدَّستُه، أي فرزته، جعلتُه جانبًا، وكرَّسته من أجل عملٍ أوصيت به. هي "حرب مقدَّسة" مع ألفاظ مثل راية، الصوت، ترديد اليد والإشارة. وأخيرًا المحاربون هم "مقدَّسون" أيضًا. هم "جبابرة" لأنَّهم ينفِّذون "غضبي" أي عقابي. هم يعملون إكرامًا للربّ. من هنا "الغبطة" أو "الفخر" بهم.

13: 4-5 صورة الاجتياح

"ق و ل". حرفيًّا: صوت. بل أصوات: جمهور، قوم، ممالك. جاؤوا من البعيد، من أقاصي الأرض، من الجبال، يحملون معهم الخراب. هل يتمُّ هذا بمعزل عن الله؟ كلاّ. فاسمه يُذكَر مرَّتين. في آ4: ربُّ الجنود. في آ5: الربُّ وأدوات غضبه، أي الجيوش بقوّادها.

هو "يفتقد" (م ف ق د). كما القائد يفتقد الجنود والخطط المدبَّرة. يعني هو حاضر معهم ويوجِّه تحرُّكاتهم.

13: 6-16 يوم الربّ

تتردَّد العبارة ثلاث مرّات: يوم الربِّ قريب (آ6). يوم الربِّ آتٍ (آ9)، يوم حموّ غضبه (آ13). هو اليوم الذي فيه يتدخَّل الربّ. قد يكون يوم انتصار وقد يكون يوم هزيمة. في أيِّ حال، هو يوم دينونة وانتقام لفئة من الفئات. وهنا، بابل.

"كشدّة من شداي". تلاعب على الكلمات. الله شدّاي أي القدير وسيِّد الجبّال. هو يحمل معه الشدَّة والضيق. وتُصوَّر نتيجة حضور الربّ أمام الخراب الآتي.

هل يأتي الربّ ليعاقب الجميع، أخيارًا وأشرارًا؟ كلاّ. فهو يحدِّد: الخطأة في الأرض. هكذا يكون الإله العادل. وهو لا يكتفي بالأرض، بل إنَّ عقابه يصيب الكون: الكواكب، المجرّات، الشمس والقمر، تصبح مظلمة حدادًا ورعبًا.

في آ11، يستعيد الله الكلام: "وأعاقب". حرفيًّا: وأتفقَّد. كما في آ4. الربُّ يأتي كما الملك يزور مدينته، ويعاقب ثلاث فئات تؤثِّر على العالم: الأشرار أو المنافقين، المتكبِّرين، العتاة الظالمين. فشرُّهم يؤثِّر في الكون، وكلّ مرَّة يتدخَّل الله في التاريخ فلكي يدين العالم. الخطيئة الكبرى منذ البداية التكبُّر "التجاهي" (ج ا و ت). هي الخطيئة. أراد الإنسان أن يصير الله. قالت له الحيَّة: تصير مثل "الله"، "تعرف الخير والشرّ". أي تقرِّر ما هو خير وما هو شرّ بالنسبة إلى نزواتك وما تطلب من منافع لأنانيَّتك. تأثَّرت الأرض بخطيئة آدم فأنبتت "الشوك والحسك" (تك 3: 18). وهنا تأثَّر الكون كلُّه فما عاد يرسل ضياءه. بل تُحدث الحربُ فراغًا على الأرض بعد أن يزول البشر، مثل زلزال يهزُّ الأرض والسماوات (آ13).

مع آ14، نرى كلَّ شعب يعود إلى أرضه. نتذكَّر أنَّ بابل جمعت كثيرًا من الناس. أتوا إليها أسرى، أم اجتذبهم عالم الثقافة والتجارة. خارجيًّا، ألَّفوا وحدة، ولكنَّها كانت وحدة مصطنعة. فما إن حلَّت الكارثة بها حتّى التحق كلُّ إنسان بشعبه. هذا ما نقرأه مرَّة ثانية في النبوءة الإشعيائيَّة: "تجّارك منذ صباك شردوا، كلُّ واحد على وجهه وليس من يخلِّصك" (47: 15). ونحن نرى الصورة اللاهوتيَّة في خبر برج بابل (تك 11). كلُّهم هنا يبنون برجًا لكي يصلوا إلى الله "في عقر داره". ولكن "تدخَّل" الله، فتفرَّقوا كلُّ واحد في طريقه. فُرضَتْ عليهم لغة واحدة، ولمّا تركوا بابل، رجع كلُّ واحد إلى لغة أجداده. ولكن مثل هذا الرجوع الذي يكون هربًا، يرافقه القتل والنهب...

13: 17-22 المدينة المدمَّرة

يذكر "الميدايّين" أو "المادّايين" تلك الشعوب التي كانت بضع قبائل في القرن الثامن. أقامت على هضاب فارس (أو: إيران الحاليَّة)، ولكنَّها قويت في القرن السابع فأعانت على سقوط نينوى سنة 612 ق.م. نلاحظ هنا عنف الحروب في الماضي كما اليوم: فهذا الجيش لا يرضى بالجزية ذهبًا، بل يقتل الفتى ولا يرحم الرضيع "ثمرة البطن".

هو الجيش المهاجم يفعل، ولكنَّ النصَّ يربط كلَّ هذا الدمار بالله: "ها أنا منبِّه" (م ع ي ر). كأنَّهم كانوا نائمين فأيقظهم، أو غافلين فحرَّك انتباههم. دائمًا هو السبب الأوَّل. هذا لا يعني أنَّ الله يريد الحرب، فالحرب هي من فعل البشر، ولكنَّه "يستفيد" من الحرب وغيرها من المآسي لكي تحطَّ الكبرياء البشريَّةُ التي لا تعرف حدودًا لأفعالها.

ما هو هدف الهجوم؟ بابل، البهجة، البهاء، الفخر... تنحطّ، تخرب، تصبح مثل سدوم وعمورة. مرَّات عديدة تأتي المقابلة مع هاتين المدينتين عند إشعيا: صارتا مثَلاً عن الحريق الذي أزالهما من الوجود. ويبدو أنَّ المهاجمين بعد أن يقتلوا ويسلبوا، يُحرقون المدينة فيُرى دخانها من البعيد. لن يكون شعب فيها ولا سكّان. هنا يُذكر "العربيّ" على أنَّه يروح في الفيافي طالبًا الماء والكلأ. أوَّل مرَّة ذُكر العرب في الكتاب المقدَّس، كان في إر 3: 2: "إعرابيّ في البرِّيَّة". في إر 25: 24 يُذكر "ملوك العرب" مع سائر الملوك. في العهد الجديد تُذكر "عرابية" والعربيَّة في غل 1: 17 كمقاطعة رومانيَّة. كانت في حوران وشرقيّ الأردنّ وامتدَّت بعض المرّات إلى دمشق مع جماعة الأنباط والملك الحارث (2 كو 11: 32[RK3] ).

تدمَّر بابل، تُفرَغ. حتّى الرعاة لا يسكنون فيها، بل البوم وبنات آوى... أين القصور الماضية، و"هياكل الغنج". كلُّ هذا زال إلى غير رجعة. وتنتهي القصيدة: هذا قريب، وأيّام بابل لا تطول (آ22).

ذاك هو أوَّل قول نبويّ على الأمم. في الظاهر، هجمة الميديّين وتدمير بابل. هل جاءت هذه القصيدة في تدمير مدينة من المدن، فطبَّق تلاميذ النبيّ الوصف على بابل بعد سقوطها بيد كورش الفارسيّ؟ في المعنى اللاهوتيّ هو مصير كلِّ مدينة تجمع الجور والظلم والتسلُّط والاستبداد والغنى. ما همّ اسم المدينة في نظر إشعيا، بل يهمُّه نتيجة التكبُّر في العالم والبحث على العظمة. فالنهاية هي الدمار على ما قالت مريم في نشيدها: "حطَّ المقتدرين عن الكراسي" (لو 1: 52).

 


[RK1]إن التشابه بين 1: 1 وبين 13: 1 يظهر أننا هنا في بداية قسم جديد من السفر. ربما يكون من الضروري جعل القارىء في دراية من هذا الأمر.

[RK2]ولكن هل كانت بابل أم أشور في موقع القوة أيام إشعيا؟ ما هو دور بابل هنا؟ هل يتحدث إشعيا عن المستقبل؟

[RK3]مداخلة جيدة عن العرب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM