الفصل التاسع : سلام في أورشليم، جراح في السامرة

الفصل التاسع

سلام في أورشليم، جراح في السامرة

قسمان كبيران في هذا الفصل. الأوَّل (9: 1-6) نشيد يحتفل بميلاد الوارث الملكيّ الذي أُعلن في عمانوئيل. مُلكه مُلك الفرح والسلام وغياب آلات الحرب. ذاك هو مشروع الله في شعبه الذي لا يتمُّ في سلالة داود، بل في من هو ابن داود وربُّ داود (مت 22: 31ي)، يسوع المسيح الذي انطبق عليه هذا القول النبويّ في مت 4: 13-16. القسم الثاني (9: 7-20) ينقلنا من أورشليم إلى السامرة، من مناخ السلام إلى مناخ المنازعات والدمار. عادت مملكة يهوذا إلى ربِّها فعرفت الفرح والسعادة. أمّا مملكة إسرائيل فتركت الله وسيطر عليها الظلم. فدعاها "الغضب الإلهيّ" لكي تسمع نداء الله من أجل مجتمع تسوده العدالة.

9: 1-6 مملكة الفرح والسلام

جاء 8: 23 مقدِّمة لهذا النشيد مع ذكر المقاطعات التي عانت من الحكم الأشوريّ. فكانت البداية مع "الشعب" (ه ع م). هو محدَّد. هو العائش في أرض زبولون وأرض نفتالي. أرض سيطر عليها الظلام لأنَّه لم يعد فيها ساكن، فمن يضيء فيها سراجًا أو يشعل نارًا؟ لا أحد. وخصوصًا غاب عنها حضور الله الذي هو نور. ذاك كان الوضع في "الزمان الأوَّل"، حين سيطرت الحرب. أمّا الآن فحلَّ السلام، فأضاء الله بنوره.

ذُكرت "الظلمة" (ح ش ك) ثمَّ ذُكر "ظلُّ الموت" أو ظلمات" (ص ل م و ت). قابل هذه الحالة ذكران للنور (أ و ر). مرَّة هو النور العظيم (ج د و ل)، ومرَّة أخرى هو النور المشعّ (ن ج ه). في 8: 23 كان تعارض بين الإهانة (أو: الذلّ) والمجد، وفي 9: 1، بين الظلمة والنور. وفي آ2، يكون تَعارضٌ بين الحزن والفرح، وفي آ4-5، بين الضيق والنصر. أجل، تبدَّل كلُّ شيء في الزمان "الأخير" الذي يرمز إلى تدخُّل الله. الظلمة ترمز إلى الشقاء والضيق، كما ترمز إلى السجن والموت. والنور يرمز إلى الخلاص (58: 8-10). غير أنَّ النور الحاضر هنا ليس بالنور العاديّ. هو نور الشمس الساطعة. هذا ما يجعلنا في إطار ملكيّ منذ زمن الفراعنة الذي يتمثَّل جلوسه على العرش بصورة شروق الشمس. وانتقلت الصورة إلى الكتاب المقدَّس حيث تحدَّث داود عن بيته "كنور الصباح إذا أشرقت الشمس" (2 صم 23: 4-5). وهكذا نكون في إطار ملكيّ، والطفل الذي نتحدَّث عنه هو ابن الملك الذي يُنتَظر منه الكثير من أجل السلام والعدالة.

"أكثرَت الأمَّة" (آ2). كانوا شعبًا قليلاً بعد أن مرَّ المجتاح. أو هم ماتوا، أو مضوا إلى السبي أو هربوا. أمّا الآن فعاد الأمان إلى البلاد وعاد معه السكّان. "عظّمت الفرح". ثلاث مرَّات أشار النصّ إلى الفرح (الفرح، فرحوا، نفرح) ومرَّة إلى البهجة (ي ج ي ل و). فالفرح جزء من الابتهاج بمجيء الملك. من عمل كلُّ هذا؟ أنت أيُّها الربُّ "أكثرتَ"، "عظَّمت". لا أحد غيرك يستطيع أن يُجري هذه المعجزات. وقدَّم النشيد تشبيهين ملموسين عن هذا الفرح: وقت الحصاد، وقت اقتسام الغنيمة.

وما هي مناسبة هذا الفرح؟ التحرُّر من الضيق والعبوديَّة. ثلاثة ألفاظ صوَّرت هذا الوضع: النير (ع ل). العصا (م ط ا)، القضيب (ش ب ط). نتذكَّر أنَّ النير يوضع على رقاب البقر في وقت الفلاحة لئلاَّ تجمح. والعصا توضع على الكتف وتُربَط بها اليدان بحيث لا يستطيع الأسير أن يسرع في هربه. والقضيب يضربون به القطيع لكي يمشي. يمكن أن نتخيَّل "قطعان" الأسرى التي عُرفت في نقوش مصريَّة وأشوريَّة وبابليَّة، كما عُرفت في حروب القرن العشرين، فعدَّت مئات الآلاف. بعضهم وصل إلى الأشغال الشاقَّة والبعض مات في الطريق. كلُّ هذا صار من الماضي. أمّا "المسخِّر" (ن ج ش) فصورته عالقة في حياة الشعب العبرانيّ حين كانوا في مصر. والعصا والقضيب اللذان حملهما ملك بابل، كسَّرهما الربّ (14: 2-6). الله وحده يحمل الخلاص. والإنسان يتقبَّل أو ربَّما يرفض حين يفضِّل عبوديَّة فرعون على عبادة الله الواحد (خر 16: 3: ليتنا متنا بيد الربِّ في أرض مصر).

ففي يوم مديان صنع الله عجبًا. تدخَّل فأمَّن النصر لشعبه. أراد جدعون أن ينتصر بالقوى البشريَّة فجمع شعبًا كثيرًا (قض 7: 2). فقال له الربّ: سوف يفتخرون فيقولون: "يدي خلَّصتني". انصرف أوَّلاً "اثنان وعشرون ألفًا وبقي عشرة آلاف" (آ3). قال الربّ: "لم يزل الشعب كثيرًا" (آ4). وفي النهاية، ذهب جدعون مع "ثلاث مئة رجل" (آ6). في الواقع، هم ما حاربوا، بل ضاع الأعداء وهربوا. ذاك كان يوم مديان. يوم خلاص الربِّ الذي فعل في الماضي هو يفعل اليوم[RK1] . ولكن لا مجال للقتل والذبح، كما في الماضي، بل في إيقاف الحروب: يُحرَق كلُّ ما يتعلَّق بالحرب حتّى الثوب الذي "تدحرج في الدماء" (آ4). هو موضوع أحبَّه إشعيا. ففي 2: 4 تتحوَّل السيوف إلى سكك، وفي 11: 6-9 يتخاوى[RK2] الذئب والحمل، والأسد يأكل التبن مع البقر. وفي 19: 23 تكون الصداقة بين الأعداء الألدّاء، بين المصريّين والأشوريّين "فيجيء الأشوريّون إلى مصر والمصرّيون إلى أشور".

"وُلد لنا ولد" (آ5) هي صيغة الماضي، لا المضارع (ي ل د). جاء ملك جديد فتبنّاه الله، كما في مز 2: 7: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك". فحين يعتلي العرش يُقال له مثلُ هذا الكلام فيجيب كما في مز 89: 27-28: "أنت أبي".

"الرئاسة على كتفه". يُوضَع على كتفه الرداء الملكيّ (1 مل 22: 10، 30) أو الصولجان في 22: 22 نقرأ: "أجعل مفتاح بيت داود على كتفه". هذا يدلُّ على السلطان المُعطى للملك الجديد "فيفتح وليس من يغلق، ويُغلق وليس من يفتح". هو سيِّد العاصمة التي تقفل أبوابها في الليل.

أسماء هذا "الولد"، هذا "الابن" أربعة، فتصل إلى أقطار الأرض الأربعة. الاسم يُضمُّ إلى الاسم، كما في الحضارة المصريَّة. ويبقى الاسم الخامس الخاصّ بشعب الله: عمانوئيل. أوَّلاً "عجيبًا مشيرًا". هو يتصوَّر مشاريع "عجيبة" ويحقِّقها. تلك هي صفة إلهيَّة (14: 24. قال الربّ: "كما قصدتُ يصير")، ويمنحها روحُ المشورة للملك. ثانيًا: "إلهًا جبّارًا" (ج ب و ر). هو لقب يُعطى لله (10: 21) ويعطى أيضًا للملك (حز 32: 21) الذي يتسلَّم من الربِّ روح القوَّة. وكيف دُعي إلهًا؟ لأنَّ الله تبنّاه (مز 45: 7).

الاسم الثالث: "أبًا أبديًّا" أو "أبا الأبد" كما في النصِّ الأصليّ (أ ب ع ي د) في خطِّ ما يُقال للملك في مصر. سُمِّي الموظَّف الكبير أبًا لشعبه. وبالأحرى الملك. والاسم الرابع والأخير، "رئيس السلام". السلام لا يعني فقط بُعدًا عن الحرب، بل ازدهارًا كبيرًا. هذا يعني مُلكًا كاملاً. هذا الولد ارتبط بسلالة داود وبالتالي بعمانوئيل وبنسلٍ وُعد به داود في الماضي (2 صم 8: 7).

وننتقل في آ6 من وضع تاريخيّ محدَّد إلى المسكونة كلِّها. عرفت الطقوس الملكيَّة في الشرق، انتصارًا على الأمم الأخرى، وانتصارًا لا حدود له في الزمان. خرجنا هنا من المستوى البشريّ وفهمنا أنَّ الله هو الذي يفعل "لنموِّ الرئاسة" (ه م ش ر ه)، لا "لنموِّ رئاسته" فمثل هذه الرسالة تتعدَّى "شخص عزقيّا" وكلَّ ملك أرضيّ، ولا تتمُّ إلاَّ في من هو رئيس الرؤساء وملك الملوك، يسوع المسيح. وما يميِّز هذه الرئاسة "الحقّ والبرّ" أو "القضاء والعدالة". ها هنا أُسس عرش الله (مز 89: 15) وعرش الملك (أم 16: 12). والمسيح هو الذي يعمل (16: 5) فيكون عمله تكملة لمشيئة الآب (يو 4: 34).

وهكذا تجاوزنا الظروف الحاضرة، ولم نبقَ أمام حدث عابر، بل أمام نظام أبديّ (من الآن وإلى الأبد). لم نعد أمام حدث من الأحداث، بل عمل إلهيّ تقوم به "غيرة ربِّ الجنود"، وغيرة الله هذه تذكِّرنا بمواعيده ومتطلِّباته. وفي النهاية، مشروع الله هو مشروع محبَّة.

9: 7-20 جراح مملكة إسرائيل

نترك مملكة يهوذا ونتوجَّه إلى مملكة إسرائيل التي تُدعى أيضًا أفرايم. ونقرأ قصيدة توحِّدها ردَّة تتكرَّر في تلوينات متشائمة: "مع كلِّ هذا لم يرتدَّ غضبه، بل يده ممدودة بعد" (آ11، 16، 18، 20). المحنة بدأت وهي ما توقَّفت (ع و د). وتعود الردَّة أيضًا في 10: 4 التي سبق وقرأناها في 5: 25.

المقطع الأوَّل (آ7-11)

نقطة الانطلاق "قول"، "كلمة" (د ب ر). هو موضوع غضب الربِّ على شعبه. يذكر الربُّ الشقاوات التي حلَّت بالشعب، ولكنَّهم ما تابوا، لهذا كان تهديد آخر. أتُرى تأثَّر إشعيا بالنبيّ عاموس (4: 6-12) فكانت النتيجة: "فلمَ ترجعوا إليَّ؟" (التي تكرَّرت أربع مرّات).

أرسلت (ش ل ح) الكلمة فسقطت (ن ف ل) على هدفها. مثل سلاح (هو 6: 5، ربَّما الرمح) أو مثل البرق. أحسَّ "إسرائيل" (أو: يعقوب) بنتائجها (هو 9: 7). "فيعرف". أجل عرفوا من أين أتت وما بدَّلوا موقفهم. لم يكن ما حصل صدفة واتِّفاقًا، بل "أُطلق" من عند الربّ. وما هو أساس الرفض؟ الكبرياء والتجاهي (ج ا ه). سبق إشعيا وتحدَّث عن هذه الكبرياء التي هي نتيجة الغنى (2: 6ي) بفضل التجارة مع فينيقية، وأبعد من فينيقية. وسيعود إلى مثل هذا الكلام في 28: 1.

جاء دمار المدينة فأعيد بناؤها بأفضل ما كانت، وهذا عمل يستحقُّ المديح. ولكن أن يكون هذا العمل في فعل تمرُّد على الله، يجعلنا في خطِّ برج بابل (تك 11: 1ي). راح اللبن فتأتي الحجارة المنحوتة، راح الجمَّيز فيحلُّ محلَّه الأرز. يبدو أنَّ الأشوريّين جاؤوا إلى السامرة وخرَّبوا ما خرَّبوا فدفع لهم مخيم الجزية[RK3] (2 مل 15: 19-20).

ولكن إن مُحيَت آثار عدو فسيأتي أعداء كثيرون: من الشرق ومن الغرب: آرام مع رصين، ثمَّ الفلسطيّون المقيمون على الساحل في خمس مدن (غزَّة، جثّ، عسقلان...). ذاك ما حصل للسامرة بعد القلاقل التي وضعت حدًّا لسلالة ياهو، أو حين أثارت أشور هذان الشعبان على السامرة أو على ما بقي منها بعد اجتياح تغلت فلاسَّر الثالث سنة 734-732.

وتأتي الردَّة: "مع كلِّ هذا لم يرتدَّ غضبه...". هو لا يضرب الأمم، بل الشعب الخاطئ ليعود به إلى التوبة. غير أنَّ الشعب لم يرجع ولم يطلب الربَّ (آ27).

المقطع الثاني (آ12-16)

بعد الهجمة من الخارج، ها هي الفوضى في الداخل. "لم يرجع". ذاك ما يريد الربُّ من شعبه، بل يمضي في طلبه كما فعل مع الخروف الضالّ (مت 18: 12-14). في هذا الإطار نقرأ إرميا النبيّ وطريقة التربية لدى الله. قال النبيّ للربّ: "ضربتَهم فلم يتوجَّعوا". "أحسَّوا بالوجع، ما تأثَّروا". "أفنيتهم فأبوا قبول التأديب". أعطيتهم درسًا فرفضوا الدرس. "صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر، أبَوا الرجوع" (إر 5: 3). ماذا يستطيع الربُّ أن يفعل لكي يوقظهم من غفلتهم؟ يضربهم مرَّة ثانية. وهذا ما فعل بالسامرة علَّهم "يطلبون" الربَّ. ما اهتمُّوا مع أنَّهم عرفوا ذاك الذي ضربهم: الله.

"الرأس والذنب" (آ13): عادة من هو فوق ومن هو تحت. الرؤساء والشعب. وهناك صورة مماثلة هنا: النمل والأسل (أو: القصب). ولكنَّ الشارح جعل في الدرجة السفلى، لا الشعب بل الأنبياء الكذبة. وهذا مع أنَّهم من الوجهاء، كيف انحدروا؟ وهكذا يهزأ بهم النبيّ.

خطأ أوَّل من أنبياء يعلِّمون الناس الكذب (ش ق ر). وخطأ من الرؤساء الذين غرقوا وغرَّقوا الشعب معهم ولاسيَّما خلال الحرب بين سلالة وسلالة. لهذا لن يرحم الربُّ حتّى الفتيان واليتامى والأرامل. يكون العقاب كاملاً، حتّى بالنسبة إلى الذين يجعلهم الله تحت حمايته (1: 7؛ 10: 2). والخطايا: النفاق، عمل الشرّ، الحماقة في ما يصدر من كلام. هذه الخطايا ترافق الشعوب في كلِّ العصور. وتأتي الردَّة: "مع كلِّ هذا...".

المقطع الثالث (آ17-20)

بعد كلام عن الفوضى ووصف للشرّ الذي عمَّ البلاد، تأتي صورة النار التي تلتهم الغابة ولا تترك شيئًا وراءها. فالفساد يشبه النار التي تصيب مختلف الطبقات. فيصل إلى الصراع بين القبائل. هي إشارة إلى الخلافات بين أفرايم ومنسّى اللذين هما أخوان، يقيمان الواحد قرب الآخر، ويحاول الأخ أن يتوسَّع على حساب أخيه. "لحم ذراعه". الذراع تدلُّ على القوَّة والحماية. وحين يتوسَّع أفرايم على حساب منسّى، فكأنَّ الواحد يأكل "لحم ذراع" الآخر. في الواقع، ضاع التوازن السياسيّ في السامرة بعد سنة 747 ق.م.، فاستيقظت الخلافات بين القبيلتين. وقام فقح الذي استند إلى جلعاد، ومنسّى جزء منه، (2 مل 15: 25) على فقحيّا سنة 736. كلُّ هذه الأحداث تُعتبر آتيةً من لدن الله الذي يدلُّ على غضبه وعقابه. وفي هذه الصراعات أصيب يهوذا الذي سوف نتحدَّث عنه في الفصل التالي.

بدا هذا الفصل التاسع مع امتداد[RK4] في 10: 1-4، تأمُّلاً في الأحداث المعاصرة. لم يعد للنبيّ أن يتدخَّل، لأنَّ الوقت فات، بل أن يستخلص العبرة من تكديس "الثورات" في مملكة الشمال. هاجم الرؤساءَ والشعبَ في السامرة، لأنَّهم لا يسمعون تنبيهات الربّ، فيحاولون أن "يتحدَّوه" لينالوا عقوبات أخرى. فيا ليت مملكة يهوذا تتعلَّم ولا تقع حيث وقعت مملكة إسرائيل!

 


[RK1]لا أرى ضرورة لهذه الفقرة.

[RK2]يرجى التأكد: يتخاوى أو يتآخى؟

[RK3]ما المقصود ب "مخيم الجزية"؟

[RK4]عبارة غير واضحة تماماً للقارىء العادي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM