الفصل السادس:دعوة إشعيا

الفصل السادس

دعوة إشعيا

بعد قسم أوَّل جمع أقوالاً نبويَّة متفرِّقة (ف 1-5) قيلت في هذا الوقت أو ذاك فأعطت نظرة شاملة عن البلاغ الذي حمله إشعيا إلى شعبه، يأتي قسم ثانٍ اعتاد الشرّاح أن يسمّوه "كتاب عمانوئيل" أو كتاب "الله معنا". هي الفصول 7-11، مع ف 6 ودعوة إشعيا كمقدِّمة، وف 12 الذي هو فعل شكر كخاتمة: "أحمدك يا ربّ".

أمّا إطار ف 7-11 فهو الحرب الأراميَّة الأفرايميَّة، حرب دمشق والسامرة على أورشليم. كان ذلك حوالى سنة 735 ق.م. أرادت هاتان المملكتان أن تُدخلا أورشليم في حلف ضدّ الأشوريّين. رفضت أورشليم فوُضع عليها الحصار. في هذا المناخ قيلت "النبوءات المسيحانيَّة" الهامَّة خصوصًا حول وَلد يُولَد فيغيِّر مجرى التاريخ. وتدخُّل إشعيا في هذه الظروف يأخذ كلَّ قوَّته، لأنَّه يتمُّ باسم الربِّ الذي دعاه: "من أُرسل؟ من يذهب من أجلنا؟" (6: 8). وجاء جواب إشعيا سريعًا بعد أن تطهَّرت شفتاه: "هأنذا أرسلني".

جاء ف 6 بشكل كلام يرويه إشعيا في صيغة المتكلِّم: "رأيتُ" (أنا). أمّا ف 7، فيعود إلى صيغة الغائب المفرد: "وحدث..." (7: 1). تحدَّث الشرّاح عن "وحدة أدبيَّة بشكل كرازة"، في خمسة أقسام:

آ1-4: قصر الربّ، الملك السماويّ.

آ5-7: تنقّى النبيّ من خطيئته.

آ8-10: إرسال النبيّ إلى الشعب[RK1] .

آ11: كم تدوم هذه المهمَّة؟

آ12-13: في وسط الخراب تبقى بقيَّة.

وحدة رائعة[RK2] ، وكلُّ قسم يرتكز على الذي سبقه ويُعدّ الذي يليه. نجد شبهًا لهذه الوحدة في خبر ميخا بن يملة (1 مل 22) الذي لا يقول إلاَّ ما يقوله الربُّ له (آ14).

6: 1-4 الرؤيا في البلاط الإلهيّ. لا عنوان لهذا المقطع، بل الزمان والمكان. الزمان: "سنة وفاة عزيّا الملك" (آ1) أي سنة 740-739 ق.م. المكان: ه ي ك ل. هي قاعة كبيرة. بشكل مستطيل كما نستطيع أن نجد إلى اليوم في "عمريت" شمالي طرطوس في سورية. هي ما يُسمّى "القدس" بين "د ب ي ر" أي المحراب أو قدس الأقداس (1 مل 6: 16) وبين "الرواق" المحفوظ للعوام (آ17).

تزيَّنت هذه القاعة عادةً، بالكروبيم وأشجار النخيل "ومفتّحات زهور" (آ35)، وتضمَّنت مذبح البخور. هل كان النبيّ هناك حقيقة أم في رؤية؟ لا شيء يؤكِّد أنَّ إشعيا كان كاهنًا، ولكنَّ الملاحظ علاقةُ النبيّ بالهيكل. فمع أنَّه ندَّد بالانحرافات في شعائر العبادات إلاَّ أنَّه أعلن أنَّ الله ظهر له في الهيكل وفرض عليه طهارة بحسب الطقوس.

أجل، في نظر إشعيا، الله يُقيم في الهيكل وهناك "يُرى وجهه" (مز 42: 3). تابوت العهد هو موطئ قدميه، ومجده يبدو مثل سحاب من الدخان. ويكون كروبان يغطِّيان بأجنحتهما تابوت العهد. كان "ه ي ك ل" أرفع من الرواق، لهذا استطاع النبيّ أن "يرى" الله على عرش، مثل ملك. عرش الملك عالٍ، أمّا عرش الله فهو مرتفع فوق عرش الملوك. معطفه واسع، وأذيال هذا المعطف "تملأ الهيكل"، الذي صار في حماية الله.

"السرافيم" (آ2) يشكِّلون حاشية هذا الملك السماويّ. لفظ "ش ر ف" يعني "المحرق". فالله نار محرقة (10: 17). وهؤلاء السرافيم يدلُّون على حضوره، بحيث لا يجسر أحد أن يقترب منه. تُذكر ستَّة أجنحة لكلِّ "سراف". باثنين يغطّي وجهه، لأنَّه لا يجسر أن يتطلَّع إلى الله. باثنين يغطّي رجليه، كما يفعل الكاهن حين يخدم المذبح: يجعل على جسمه إزارًا. وباثنين يطير، فيدلُّ على سرعة تنفيذه لأوامر سيِّده. هذا ما يتمُّ "في السماء". وهذا ما يجب أن يكون على الأرض[RK3] ، ولاسيَّما سرعة التجاوب مع نداء الله.

نشيد هؤلاء "السرافيم" هتاف يتكرَّر ثلاث مرّات: قدّوس، قدّوس، قدّوس (آ3). الله هو كلّيّ القداسة. هو "ربّ الجنود". جنوده الكواكب في السماء، التي تعمل مشيئته. أمّا "مجده" فيدلُّ على حضوره الملموس. وهذا الحضور سوف نكتشفه في عمل إشعيا، كما نراه في الكون. بمعطفه ملأ الهيكل. وبمجده ملأ الأرض كلَّها. فالأرض هيكل كبير والهيكل كون صغير. والله يضعهما كليهما تحت حمايته. فسلطة الربِّ لا تقوم فقط في الهيكل وشعائر العبادة، بل في الأرض كلِّها مع ملوكها ورؤسائها.

"فاهتزَّت" (آ4). هي شبه "هزَّة أرضيَّة" (وزلزال) تدلُّ على قدرة الله. والصوت هو صوت الرعد. أمّا الدخان فيدلُّ على ما يُحرَق على المذبح، كما يدلُّ على السحاب الذي غطّى الهيكل حين أراد سليمان أن يدشِّنه (1مل 8: 10). نحن هنا كما في "تيوفانيا" أو ظهور إلهيّ. قال سفر الخروج عن مجد الربّ: "ثمّ غطَّت السحابة خيمة الاجتماع، وملأ بهاءُ الربِّ المسكن" (40: 34). على كلِّ حال يبقى أساس كلِّ تجلٍّ إلهيّ خبرة جبل سيناء وسط البروق والرعود (خر 19: 16-19).

6: 5-7 طقس التطهير

"إنّي هلكت" (آ5). أو بالأحرى المجهول: "أُهلكت". كأنَّ الهلاك جاءني من عند الله، لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يرى الله دون أن يموت (خر 3: 6؛ 33: 20). هذا ما أحسَّ به إشعيا حين قابل بين قداسة الله التي يعلنها السرافيم "ونجاسة" النبيّ والشعب الذي يُرسَل إليه. كيف يستطيع هذا الخاطئ أن يحمل كلام الله بشفاه نجسة؟ وكيف يستطيع أن يشارك السرافيم بأناشيدهم؟ أما يكون أفضل له أن يصمت؟ يبدو أنَّ هذه إمكانيّة ترجمة أخرى: أُجبرتُ على الصمت، مُنعت من الكلام (ن د م ي ت ي). مرَّتين يرد لفظ "ط م ا" نجس. والنجاسة هي على مستوى "الشفاه" بالنسبة إلى النبيّ كما بالنسبة إلى الشعب. فمن يعيد الطهارة إلى النبيّ؟ نار من عند الربّ. فالنار معروفة بأنَّها تنقّي. وماذا يكون إذا أتت من مذبح الربّ! عندئذٍ يستطيع إشعيا أن يحمل الكلمة. فعل أوَّل "ي س ر": زال. ثمَّ فعل ثان "ك ف ر": كفَّر. مُحيَ الذنب، غُفرَت الخطيئة. في دعوة إرميا (1: 9)، لمس الربُّ فمه وقال: "جعلتُ كلامي في فمك". بعد الآن ليس إرميا هو من يتكلَّم، بل الله. في هذا الخطِّ نسمع كلام الربّ حين قال لتلاميذه: "فما أنتم المتكلِّمون، بل روح أبيكم السماويّ يتكلَّم فيكم" (مت 10: 20). وفي دعوة إشعيا، صارت شفتاه أداة تتلفَّظ بالأقوال المقدَّسة.

6: 8-10 إرسال النبيّ

"سمعتُ". ما استعدَّت شفتا النبيّ فقط، بل أذناه أيضًا. هو يسمع قبل أن يتكلَّم، لأنَّه لا يتكلَّم من عنده مثل الأنبياء الكذبة، بل من عند الله. "هذا ما يقول الربّ"، لا هذا ما يقول هذا النبيّ أو ذاك. الربُّ يحتاج إلى شفتي النبيّ لكي يتكلَّم، والنبيّ يحمل هذا الكلام مهما كلَّفه من متاعب. وهذا ما سوف يختبره إشعيا لأنَّ الشعب يسمع ولا يريد أن يفهم.

أمّا صوت الربِّ فهو يكلِّمنا في الأعماق[RK4] . يحرِّك منّا القلب. وهذا يعني أنَّنا نصمت لنسمع على مثال ما فعل إيليّا على جبل حوريب (1 مل 19: 12). صمت إشعيا فسمع النداء: "من أُرسل؟" ما من عائق يمنع إشعيا من تقديم ذاته ليحمل الرسالة إلى شعبه. ولكنَّ الربَّ نبَّه نبيَّه منذ البداية: ستكون المهمَّة صعبة. هناك مقابلة بين "سمع" ( ش م ع) و"تبيَّن" (ت ب ي ن و) وفهم. من سمع استطاع أن يفهم. ولكنَّ الشعب لن يفهم، أو هو لا يريد. وكذلك مقابلة بين "رأى" و"عرف". عيون لا ترى ولا تتعرَّف إلى الذي يتكلَّم. إذًا، لماذا يمضي النبيّ؟ لأنَّ الربَّ قال له.

"غلَّظ" (آ10)، حرفيًّا: املأه شحمًا (ش م ن) فيصبح مشلولاً ولا يستطيع أن يتحرَّك. ونحن لا ننسى أنَّ القلب هو مركز القرار والإرادة والعمل. بالقلب يفهم الإنسان. ولكنَّ القلب صار "غليظًا"، قاسيًا. وحين لا يريد أن يسمع، يصبح أكثر قساوة. ذاك ما اختبره إشعيا منذ بداية كرازته (1: 2-5، في مقابلة مع الثور والحمار وفعلَيْ "عرف" و"فهم"). ولن يكون الأمر سهلاً مع الملك آحاز (7: 2ي). نشير هنا إلى أنَّ مهمَّة إرميا لم تكن أسهل (إر 1: 10)، ولا مهمَّة حزقيال (حز 2: 3-10).

لو أنَّ القلوب فهمت لكانت رجعت (ثاب، تاب) ونالت الشفاء (ر ف ا). فالرجوع يرتبط بالسماع، فما حيلة النبيّ والشعب لا يريد أن يسمع؟! استعاد العهد الجديد آ9-10 وقرأ فيها رفض اليهود لكرازة يسوع (مت 13: 13-15 وز[RK5] ). ونورد ما في الإنجيل الرابع: "أعمى الله عيونهم وقسّى قلوبهم، لئلاّ يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم ويتوبوا فأشفيهم" (يو 12: 40). ذاك ما قاله إشعيا حين رأى مجد الابن وتحدَّث عنه (آ41).

6: 11 إلى متى تدوم هذه الحالة؟

يبدو أنَّ الله قسّى قلب الشعب، بطريقة غير مباشرة. كشف لهم خطاياهم بكرازة النبيّ. فرفضوا التوبة وراحوا يغوصون في عماهم. يا ليتهم يرجعون! ذاك ما تمنّاه النبيّ فهتف متشفِّعًا في شعبه على مثال موسى بعد خطيئة العجل الذهبيّ (خر 32: 11-13: "تضرَّع موسى أمام الربّ"). "إلى متى؟" تلك كانت صرخة إشعيا، ولكنَّ هذه الصرخة ليست بكافية لكي تحرِّك قلوب الشعب. لا شكَّ في أنَّ الربَّ هو الذي يغفر وينتظر عودة الابن التائب، ولكن لا بدَّ من المرور في كارثة كبيرة: الخراب في كلِّ مكان، فلا يبقى ساكن في الأرض (آ11).

في الواقع، حصل الخراب في السامرة ولكنَّ أورشليم لم تتحرَّك، بل اكتفت باستقبال الهاربين فأقاموا عند الأسوار. لا كلام النبيّ نفع، ولكنَّ مشهد السامرة نفع. هنا نتذكَّر مثل لعازر والغنيّ. الهلاك ينتظر إخوة الغنيّ، فطلب من إبراهيم أن يرسل إليهم لعازر. ذكَّره أبو الآباء بكلام موسى والأنبياء. هذا لا يكفي. يجب أن يمضي إليهم لعازر. فكان جواب الربّ: "إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدِّقون" (لو 16: 31). في الواقع، قام يسوع من بين الأموات، فطمسوا خبر قيامته وأذاعوا أنَّ التلاميذ سرقوا الجثمان. قلوب قاسية رافضة. وهذا ما نقول عن معاصري النبيّ: مهما حصل فهم لا يريدون أن يسمعوا ولا أن يفهموا ولا أن يتبيَّنوا نداء الله[RK6] .

6: 12-13 الزرع المقدَّس

في وسط المبعدين إلى السبي، بيد الله الذي يبدو وكأنَّه لا يريد أن يراهم، في وسط الخراب الذي يزداد خرابًا، يبقى بعض الأمل. في وقت من الأوقات كاد اليأس يسيطر. "بقي عشر" (آ13). لا بأس. نحن نقبل به. ولكن هذا العشر ضاع أيضًا.

لم يبقَ شيء من كلِّ هذه العظمة الممثَّلة بشجرتين كبيرتين: البطمة والبلّوطة. بلى بقي "ساق". في العبريَّة "م ص ب ت". "نصبة" كما نقول في العامِّيَّة. هي تُغرَس وتنمو وتصبح شجرة كبيرة. وشرح النصُّ الكتابيّ: زرع قدس (ق د ش) أو "مقدَّس"، أي مكرَّس للربّ. لا، لن يكون الدمار كاملاً، لأنَّ عقاب الربِّ لا يكون "للانتقام"، بل يكون دعوة إلى التوبة وتنبيهًا من الخطر الآتي. فكيف تكون ردَّة الفعل لدى الشعب؟ الإيمان. ذاك ما سوف يقوله إشعيا أمام الخطر الآتي: إن لم تؤمنوا لن تأمنوا. إذا لم يكن عندكم إيمان لن تثبتوا. وقال الربُّ في إنجيله: "لو كان لكم إيمان بمقدار حبَّة خردل..." (مت 17: 20[RK7] ).

 


[RK1]هل أرسل لينادي بالدينونة أو بالخلاص للشعب؟

[RK2]حقاً!

[RK3]فكرة جميلة!

[RK4]تطبيق عملي مختصر وجيد.

[RK5]ما معنى "وز"؟

[RK6]ربط جيد مع نص العهد الجديد، ومناسب للتطبيق العملي.

[RK7]لا أجد علاقة بين الآية من متى وبين ما تقدمها، أقترح حذفها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM