الفصل الخامس:نشيد الكرمة ودينونة الله

الفصل الخامس

نشيد الكرمة ودينونة الله

هي صورة الكرمة تنطبق على شعب الله. والعلاقة بين الله وأورشليم في إطار العهد تتمثَّل كما في علاقة زوجيَّة رمز الحبّ، كما قالت عروس نشيد الأناشيد: "جعلوني ناطورة الكروم، أمّا كرمه فلم أنطره" (نش 1: 6). لم اهتمَّ به. وهكذا كانت قصيدة الكرم قصيدة حبٍّ سوف يتحوَّل إلى مثَل يدين فيه الله شعبه ويهدِّده بالكارثة الآتية.

يتضمَّن ف 5 ثلاثة مقاطع. الأوَّل (5: 1-7)، نشيد الكرمة التي هي صورة عن الحبيبة. اهتمَّ بها الحبيب، فما أجابت على الحبِّ بالحبّ. الثاني (آ8-24)، ستَّة ويلات على الرؤساء في يهوذا، وهي تصوِّر الجور والعنف في كرم الربّ، بحيث ضاع الحسُّ الخلقيّ وسيطر نسيان الله. الثالث (آ25-30)، دينونة الله التي تتجسَّد في الهجمة الأشوريَّة التي يراها النبيّ آتية سريعًا[RK1] .

5: 1-7 نشيد الكرمة. ستّ قطعات شعريَّة

آ1 – الحبيب. لفظان من جذر "ودّ". الأوَّل "ي د ي د ي". يعود مرَّة ثانية. والثاني "د و د ي". هو الحبيب ينشد كرمته. والنبيّ ينقل النشيد إلى حبيبه الآخر، الله. هو إطار نشيد الأناشيد (نش 1: 13، 14، 16...). ثلاثة ألفاظ: "كرم" (ك ر م). "أكمة" حرفيًّا: قرن (ق ر ن). هذا يعني المرتفع الذي تغطِّيه الشمس. "خصبة" حرفيًّا: ابن الزيت. اختار الحبيب أفضل أنواع الكرم.

آ2 – طبيعة رائعة. ثمَّ الشغل والاهتمام. خمسة أفعال ونحن نعرف رمزيَّة الرقم خمسة في العالم العبرانيّ (الأقطار الأربعة التي يشرف عليها الله). نقب أو عزق كما في العبريَّة (ع ز ق). قلب الأرض. ثمَّ "سقل" (س ق ل)، أي نقّى الحجارة فصارت الأرض طيِّبة. والفعل الثالث: غرس "س و ر ق". أي أجود عنب. لونه أحمر فاقع لكي يعطي أطيب خمرة. بعد ذلك "بنى برجًا" لا خيمة بسيطة بالأغصان، وأخيرًا "نقر" أو "حفر" معصرة. اهتمام رائع. وماذا كانت نتيجة كلِّ هذا التعب وهذه العناية؟ لا "العنب" بل "الرديء" من العنب، هو لا يصلح لأيِّ شيء.

آ3 – هي القطعة الثالثة. صاحب الكرم هو الذي يتكلَّم. بل يعلن باحتفال فيدعو للشهادة "سكّان أورشليم ورجال يهوذا". هم يشهدون ويحكمون على الثمر الذي أعطوا. هو مثَل استخلص منه هؤلاء "الشهود" الحكم على نفوسهم. على مثال داود الذي أعطاه ناتان مثلاً، فقال: "حيٌّ هو الربّ! يُقتَل الرجل الفاعل ذلك" (2 صم 12: 5). وعلى مثال السامعين لمثل الكرّامين (مت 21: 33ي) قال لهم يسوع: "فمتى جاء صاحبُ الكرم، ماذا يفعل بأولئك الكرّامين؟" قالوا له: "يهلك هؤلاء الكرّامين". وفي النصِّ الإشعيائيّ، طلب صاحب الكرم من سامعيه أن يحكموا.

في القطعة الرابعة (آ4) اشتكى، وفي الخامسة أصدر الحكم وما انتظر (آ5-6). بدأ عمل الدمار مع فعلين: نزع، هدم. لا سياج بعد، إذًا يصبح الكرم مرعى للحيوان. ولا جدران. إذًا يدوسه المارّون. لا حماية بعد. إهمال تامّ والنتيجة "يطلع الشوك والحسك". وهكذا يبدو الحبيب الذي هو الله، وكأنَّه نسيَ حبيبته، نسيَ شعبه. وما يجعلنا في الإطار الإلهيّ هو أنَّ هذا "الكرّام" يسيطر على "الغيم" و"المطر" بحيث يصبح الكرم صحراء قاحلة، كما جنَّة الربِّ بعد الخطيئة (تك 3: 18).

آ7 – وها هو المعنى الواضح. الكرمة تخصُّ الربّ. وهي تدلُّ على "بيت إسرائيل ورجال يهوذا". في آ2 انتظر (العنب) فماذا كانت النتيجة؟ العنب الرديء. وهنا انتظر الحقّ والعدل. فماذا نال؟ "م ش ف ح" الذي يعني الجور والظلم. استعمل اللفظ العبريّ ليكوِّن سجعًا مع "م ش ف ط" الذي يدلُّ على القضاء العادل. وتجاه "ص د ق ه" (العدل أو البرارة والصدق) كان "ص ع ق ه" أي صراخ المساكين كما حصل للشعب العبرانيّ حين كان في عبوديَّة مصر (خر 3: 7-9[RK2] ). كيف يرضى الربُّ عن هذا "الثمر" وهو "لا ينسى صراخ المساكين" (مز 9: 13)؟

5: 8-24 ستَّة ويلات

جاءت كما في قصيدة واحدة، بعضها طويل وبعضها قصير. أمّا النموذج فيتضمّن ثلاثة عناصر. الأوَّل، إعلان الويل: "ويل" (آ8). الثاني، الأسباب التي دعَتْ إلى هذا التحسُّر، ويأتي التعبير في صيغة اسم الفاعل: "الموصلين" أو: الذين يصلون بيتًا ببيت. "ويل للمبكِّرين في الصباح" (آ11). والعنصر الثالث، العقاب مع "لذلك". نقرأ مثلاً في آ14: "لذلك وسَّع الشيول".

الويل الأوَّل: على المستوى الاجتماعيّ (آ8-10). يستفيد أصحاب المال مع "الجور" في أوضاع مزرية، فيضمّون بيت القريب إلى بيتهم وحقل الجار إلى حقلهم، وهكذا تصبح البيوت لهم وتتوسَّع الحقول على حساب الفقير الذي يصبح غريبًا في أرضه مع أنَّ مبدأ قسمة الأرض أراد أن يكون لكلِّ واحد أرض له. والمثل المعروف، نابوت اليزرعيليّ الذي مات وما تخلّى عن أرضه (1 مل 21: 1ي). أين حقّ الفقراء الذي نقرأ عنه في الشريعة؟ (تث 15: 1-11). قال سفر اللاويّين: "الأرض لا تُباع، لأنَّ لي الأرض" (لا 25: 23). تُرهَن فقط ويمكن فكّ الرهن، وإلاَّ تعود إلى صاحبها في السنة السابعة.

ولكن هنا تسلَّط "الملاّكون" الكبار الذين تحدَّث عنهم النبيّ عاموس. والربُّ لا يرضى عن هذا الوضع. فأسرَّ "في أذنَي النبيّ" (آ9) ما سوف يكون: خسارة هذه الأراضي، دمار البيوت. والزرع لا يعطي نتيجة. ويعطي مثلاً: عشرة فدادين أي ما يساوي 25 ألف متر مربَّع، تعطي "بثًّا واحدًا" (آ10) أي ما يساوي في حسابنا اليوم 40 ليترًا من الحبوب، تقريبًا لا شيء. وعشر كيلات من الزرع تعطي كيلة واحدة. فأين الحقول المباركة التي تعطي ثلاثين وستّين ومئة (مر 4: 8).

الويل الثاني يصيب "المعيِّدين" مع الخمر والمسكر على صوت الموسيقى (آ11-12). هذا ما يهتمُّون به لا "بفعل الربِّ وعمل يديه". هم لا يرون الله وقدرته في الخلق. لا يرون "علامات الزمن" التي يرسلها تحذيرًا وتنبيهًا. لينظر شعب يهوذا ما حصل للسامرة سنة 722-721 يوم أتى الأشوريّون إليها. السبي أوَّلاً مع الجوع والعطش "للشرفاء" (آ13). والشيول أو مثوى الأموات ثانيًا، حيث يهبط الجميع، أخيارًا كانوا أو أشرارًا. زال الضجيج والصخب وغاب الفرح من "القصور". فيا للذلّ! (آ15). وإن "اتُّهم" الله، أُعلنت عدالته وبراءته (آ16). هو يعاقب ولكنَّه يخلِّص أيضًا. فماذا تختارون؟ وأخيرًا الخراب في المدينة التي تصبح مرعى للخراف (آ17).

الويل الثالث يصيب "الجادبين[RK3] الإثم بحبال الباطل" (آ18). أو: السوء (ش و ا). لا يهابون الناس فيقترفون مساوئهم في وضح النهار. كما لا يهابون الله فيهزأون بأقوال النبيّ حول "عمل الله". نريد أن نعرف، أن نعلم ماذا يستطيع الله أن يفعل هي دينونة بدون ذكر للعقاب. وهكذا يكون الوضع في الويلات التالية. أناس قست رقابُهم فما أرادوا أن يعودوا إلى الربّ، بل تحدَّوا قدرته. أما رأوا ما حصل بفعل الجيوش الغريبة؟

الويل الرابع (آ20) يصيب الذين يقلبون القيم الخلقيَّة رأسًا على عقب، وذلك بحسب نزواتهم وأنانيَّتهم. الويل الخامس (آ21) يصيب الذين يرضون أنفسهم ولا يبحثون عن رضى الله. هم "حكماء" ولا يحتاجون إلى حكمة الله ومشورته. هنا يلتقي إشعيا مع سفر الأمثال الذي يقول: "لا تكن حكيمًا في عينَي نفسك، اتَّقِ الربَّ وابعَد عن الشرّ" (أم 3: 5). مثل هؤلاء لا يفهمون كما يقول بولس الرسول[RK4] .

الويل السادس يستعيد بعض ما في الويل الثاني. هم "جبابرة" و"رجال بأس" في الخمر والمسكر، لا في أمرٍ آخر. ثمَّ يضيف تحذيرًا للذين يأخذون "الرشوة فيعوِّجون الأحكام في القضاء" (آ23). ويأتي تهديدان مع "لذلك". تأتي النار عليهم وتحرقهم سريعًا، كما تفعل في الحشيش. خطيئتهم كبيرة لأنَّهم رفضوا شريعة الربِّ وكلامه. إذا كانوا يجعلون "الظلام نورًا والنور ظلامًا، إذا كانوا يجعلون المرَّ حلوًا والحلو مرًّا" (آ20)، لماذا لا يحوِّلون العدل ظلمًا والظلم عدلاً؟! والتهديد الثاني مع "ع ل ك ن" (لذلك) يدلُّ على غضب الله الآتي الذي رآه سكّان أورشليم في السامرة (جثثهم كالزبل)، والذي لا شيء يوقفه. مدَّ الربُّ يده على مملكة الشمال ولا تزال ممدودة على مملكة الجنوب بعاصمتها أورشليم. فماذا ينتظر سكّانها لكي يتوبوا.

5: 25-30 دينونة الله

يصوِّر هذا المقطع هبوبًا مفاجئًا مع إشارة إلى الظلام والضيق، ممّا يجعلنا قريبين من 8: 21-23 (ظلام للتي عليها ضيق). نحن أمام اجتياح تامّ يكمّل ما ذُكر من تهديدات في آ25.

ما يُدهش هو أنَّ الله نفسه يدعو "المهاجمين". يحمل الراية وكأنّي به يسير أمامهم. هم يأتون "من بعيد" (م ر ح و ق)، "من أقصى الأرض" (م ق ص ا. ه أ ر ص). إنَّهم الأشوريّون الذين يبعدون ألف ميل عن أورشليم، ومع ذلك يبدون قريبين جدًّا بما يشكِّلون من خطر. اعتادوا أن يأتوا إلى المنطقة، سنة بعد سنة، في بداية الربيع، من أجل السلب والنهب. فالمدينة التي تخضع وتفتح أبوابها، تدفع الجزية، والتي تقاوم يكون مصيرُها مصير دمشق سنة 732 والسامرة سنة 722-721 وسائر المدن. ونقرأ صورة عمّا يفعل الأشوريّون فلا يتركون شيئًا وراءهم: "يحلق الربُّ (مع ملك أشور) بموسى مستأجرة، الرأس وشعر الرجلين، واللحية تُنزَع أيضًا" (7: 20).

وتصوِّر آ27ي الهجمة السريعة التي لا تعرف التعب ولا التردُّد. لا شيء يقف أمامها فتشبه الوحوش التي تمسك فريستها "ولا منقذ". نلاحظ هنا وفي أماكن عديدة من الكتاب المقدَّس أنَّ التشديد يكون على عمل الله. هو السبب الأوَّل في كلِّ ما يحصل. ولكنَّ السبب الثاني، أي الجيوش الآتية، فلا يُذكَر. هي طريقة "إيمانيَّة" تنسينا أنَّ الشرَّ يأتي من الإنسان لا من الله. وكلُّ ما يمكن أن نقول لكي نوفَّق بين نظرة الله القدير وما يحصل من شرور في العالم، هو أنَّ الله "يسمح" بما يحصل. هذا ما نعرفه من سفر أيّوب الذي جاءت بدايته بشكل "حوار" يتمُّ في مجلس الله. الشيطان يطلب أن يجرِّب" أيّوب، يسمح له الربُّ بذلك مع وضع الحدود اللازمة. فالشيطان ليس كلّيَّ القدرة. والله لا يَسمح أن يُجرَّب الإنسان فوق طاقته. قال الرسول: "ولكنَّ الله أمين، الذي لا يدعكم تجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل يجعل مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كو 10: 13[RK5] ).

الله لا يجرِّب كما قال يعقوب في رسالته، ولكنَّه يستفيد من المحن فينقّي شعبه وكلَّ مؤمن من مؤمنيه من "أوساخ" علقت به. أو هو ينقّي الكرمة من الأغصان اليابسة لكي تعطي ثمارًا أوفر (يو 15: 2).

ولكنَّ أشور لن تبقى مسيطرة. فكلُّ كبرياء تُحَطُّ والله وحده يتعالى. ذاك ما نفهم من آ30. "يزأر" (و ي ن ه م) أو "يهرّ". ينقلب الوضع والعقاب يصيب أشور بدورها كما نقرأ في 10: 12: "متى أكمل السيِّد كلَّ عمله بجبل صهيون وبأورشليم (هو عمل دمار)، "إنّي أعاقب ملك أشور...". قلبه تعاظم، عيناه ترفَّعتا فقال: "بقدرة يدي صنعتُ، وبحكمتي لأنّي فهيم" (آ13). وجاء كلام النبيّ: هل تفتخر الفأس على الذي يحملها، والمنشار على الذي يمسكه؟ (آ15).

من خلال هذه الأحداث، صغيرها وكبيرها، يكتشف المؤمن يد الله الفاعلة. حتّى الأمم الكبرى تسقط في النهاية، فيعرف الشعب أنَّ لا شرّ يبقى في الأرض. والكلمة الأخيرة هي للربّ. خافت أورشليم من أشور، ولكنَّ خوفها لن يدوم طويلاً. يكفي أن تجعل ثقتها بالربِّ الذي هو الإله الأمين على عهده، مهما كان تصرُّف الإنسان. ترك الأشوريّون وراءهم الظلام والضيق، ولكنَّ الشرَّ الذي تركوه سوف ينقلب عليهم. البشر عشب ييبس، البشر زهر يذبل "أمّا كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (40: 8).

 


[RK1]تقسيم واضح وجيد للفصل.

[RK2]اظهار جيد للأصل العبري!

[RK3]الجاذبين

[RK4]ماذا يقول الرسول بولس؟

[RK5]ربط جيد مع أيوب وبولس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM