الفصل الأوَّل: اتِّهام مملكة يهوذا

الفصل الأوَّل

اتِّهام مملكة يهوذا

بعد المقدِّمة (1: 1) يرد الكلام على نكران الجميل عند يهوذا (آ2-9) واتِّهام الشعب بالخبث والرياء (آ10-20). فالفساد يعمُّ أورشليم (آ21-28). وأوَّل هذا الفساد "أشجار البطم" (آ29-31) التي تدلُّ على طقوس الخصب كما في الديانة الكنعانيَّة.

يبدو هذا الفصل بشكل مقدِّمة للبلاغ الذي يحمله النبيّ، ونحن نكتشف فيه المواضيع الرئيسيَّة من كرازة إشعيا. بما أنَّ الشعب رفض أن يفهم مقاصد الله، فسوف يدينه الله ويعاقبه فلا يبقى سوى بقيَّة صغيرة. غير أنَّ العقاب لا يكون الكلمة الأخيرة.

ففي النهاية تأتي دعوة للرجوع إلى الربِّ في أمانة عُرفت في الماضي: بعد ذلك تدعين "مدينة البرّ، المدينة الأمينة".

1: 1 عنوان الكتاب: المضمون، الكاتب. التاريخ، الأشخاص الذين إليهم تتوجَّه النبوءة.

المضمون هو رؤيا. هذا لا يعني أنَّ هذا السفر مملوء بالرؤى، ولكن حين نعرف أنَّ النبيّ كان يُدعى الرائي (1 صم 9: 9) نفهم أنَّ "الرؤى" تدلُّ على وحيٍ ناله النبيّ (1 صم 3: 1).

الكاتب هو إشعيا. يُذكر هنا وفي الفصول الموازية في 2 مل 19-20 وبعض التلميحات في 2 أي 26: 22، 32: 20، 32. في العبريَّة هو "ي ش ع ي ه و": ياهو (أو الربّ) هو الخلاص.

التاريخ: في أيّام أربعة ملوك عاشوا ما بين سنة 792 وسنة 686 ق.م.

وتتوجَّه النبوءة إلى يهوذا وأورشليم. هذا لا يعني أنَّ كلمات النبيّ محصورة بمملكة يهوذا وعاصمتها، فهناك أقوال على السامرة (28: 1-6...) وعلى الأمم الغريبة (ف 13-23). ولكن مجمل نشاط إشعيا كان في أورشليم فتوجَّه إلى الساكنين فيها.

1: 2-9 نكران الجميل

يبدو الكلام كما في المحكمة: الله من جهة وشعبه من جهة أخرى، مع شاهدَين: السماء (أو: السماوات) والأرض. يجب أن يعرف الكون كلُّه بخطيئة أورشليم. وحين تتوب أورشليم تتوب البشريَّة. إذا كانت السماوات والأرض تسمع، أما يجب على مملكة يهوذا أن تسمع؟ "ربيتُ بنين". الله هو أب (رج 30: 1-9) والشعب أبناؤه وبناته. وأوَّل واجبات الأولاد هي الطاعة: أكرم أباك وأمَّك (خر 20: 12). ولكنَّ هؤلاء البنين "عصوا" فكأنَّهم جحدوا الله. بين الآباء والأولاد، هناك المحبَّة والأمانة. وهذا ما لم يرَه الربُّ في شعبه. وكانت مقابلة قاسية مع "الثور والحمار". مع فعل "عرف" الذي يعني تعلَّق. الحيوان عرف وشعبي "لا يعرف". هنا يمكن أن نتخيَّل ألم الله من خلال قلب النبيّ: شعبي لا يعرف، لا يفهم، الأب يعلِّم أولاده ويريد تربيتهم، فهل يسمعون ؟

وها هو الاتِّهام الذي يجعل أورشليم مثل سدوم: بلاد السديم التي نالها "الكبريت والنار" (تك 19: 24). ومثل عمورة التي كانت عامرة بالسكّان فصارت أرضًا يصعد منها الدخان "كدخان الأتون" (آ28). يا للمشهد المريع الذي يدلُّ على عمق الخطيئة. عُرفت خطيئة سدوم بأنَّها الزنى، حيث الرجال طلبوا الرجلين: "أخرجْهما إلينا لنعرفَهما" (تك 19: 6). ربَّما يكون زنى خاصّ مارسه الكنعانيّون عند معابدهم. والزنى يعني خيانة الشعب لربِّه في عبادة آلهة أخرى، على مثال خيانة الشريك لشريكه في الزواج.

"ويل". الشقاء ينتظرهم. أربعة ألفاظ: الخطيئة، الإثم، الشرّ، الفساد. ما تركوا شيئًا إلاَّ وعملوه ليغيظوا الربّ. وكيف أغاظوه؟ وتأتي ثلاثة أفعال: ترك، استهان، ارتدَّ إلى الوراء. كأنّي بهم يتهرَّبون من الله. ومن هو هذا الإله؟ "قدّوس إسرائيل". هذه العبارة التي ترد 23 مرَّة في سفر إشعيا ترتبط بدعوة إشعيا حين تراءى له الربُّ في الهيكل (6: 3): "قدّوس، قدّوس، قدّوس". والقداسة تعني أوَّل ما تعني الانفصال، البعد. الله ينفصل عن الخطيئة والشرّ والنجاسة. الله ينفصل عن الآلهة الكاذبة والأصنام، بحيث لا يقدر المؤمن أن يعبد الله والبعل معًا. لهذا ثار غضب إيليّا على جبل الكرمل (1 مل 18: 21). ويقول لنا متّى في المجال عينه: "لا تقدرون أن تخدموا (تعبدوا) الله والمال" (مت 6: 24).

الله هو القدّوس. أي فوق البشر. هو المتسامي. وفي الوقت عينه هو مرتبط "بإسرائيل"، بشعبٍ طلب منه أن يقوم برسالة. وهو يرتبط اليوم بالبشريَّة كلِّها بواسطة يسوع المسيح الذي يريد أن يخلِّص جميع البشر فيُقبلوا إلى التوبة. إذًا، هو البعيد القريب. وإن نحن أردنا الاقتراب منه، نتخلّى عن "الأصنام" التي نتعلَّق بها، ولا ننغرز في العالم لأنَّنا لسنا من العالم، كما قال لنا الربّ. أمّا والله قريب من شعبه، فكم يكون إلى نكران لمثل هذا الجميل خطيرًا .

أُعلنَتِ الخطيئة وها هو العقاب. أو عقاب وعقاب . الصورة الأولى صورة العبد الذي ضُرب وجُرح "من أسفل القدم إلى الرأس". لم يعد من مكان صحيح. والأسوأ أنَّه كلُّه "جُرح" لم يداوَ "ولم يليَّن بالزيت". تُرك جريحًا على الطريق مثل ذاك المسافر من أورشليم إلى أريحا، غير أنَّ هذا المسافر وجد من يداويه (لو 10: 34 ). وشعب أورشليم تُرك لأنَّه ترك الربّ. وما يُحزن هو أنَّ الربَّ يضرب والشعب "يزداد زيَغانًا" وتمرُّدًا. كأنّي به يطلب أن يُضرَب بعد. وماذا يكون إذا كان الله مع البنين وهو يريد أن يؤدِّبهم (أم 10: 13؛ 13: 24)، علَّهم يعودون إليه؟ ولكنَّهم يرفضون.

والصورة الثانية صورة البلاد التي تخرب وتحترق. تحدَّث سنحاريب الأشوريّ أنَّه دمَّر 46 مدينة بأسوارها وقراها. عقاب على مستوى الأرض، وعقاب على مستوى الشعب الذي أُسر، قُتل، سُلب. اعتاد العبرانيّون أن يكتشفوا خطيئتهم من خلال ما يصيبهم من أوجاع وكوارث. رأيتم الدمار والخراب، أما وجب عليكم أن تتساءلوا: لماذا يحصل كلُّ هذا؟ الذين ماتوا ماتوا. والذين لبثوا أحياء ينظرون "الغرباء يأكلون أرضهم"، قدّام عيونهم. كلُّ التعب راح ضياعًا.

"بقيت ابنة صهيون" (آ8). نجد هذه العبارة ستَّ مرّات عند إشعيا. الابنة تدلُّ على الشعب والمدينة. وصهيون هي في الأصل "ص ي و ن" أي المدينة المصونة. أضاف السريان حرف "الهاء" فصارت "صهيون". هي القلعة التي أخذها داود من اليبّوسيّين ودعاها "مدينة داود" (2 صم 8: 5، 7، 9). والمعنى هو "مدينة أورشليم وعاصمة مملكة يهوذا". هي لم تهدَم ولم تحرق مثل سائر المدن. ولكنَّها "بقيت" وحدها. ولكن ما نفعها وسط كرم أتلفه الغرباء، وسط "مقثأة" لا خيار فيها ولا كوسى. ما نفعها وهي محاصرة من كلِّ جهة ويمكن أن تسقط كلَّ ساعة في يد الأشوريّين؟ هي إشارة إلى حصار تمَّ سنة 701، إلاَّ أنَّ الربَّ نجّاها بشكل عجيب.

دُمِّرت المدن "وبقيت" أورشليم. هذا يعني أنَّ الدمار ليس بكامل، وأنَّ الرجاء لم ينطفئ. ومن العاصمة يمكن أن يُعاد البناء، وهذا ما حصل فيما بعد. لا، لا يمكن أن تكون أورشليم مثل سدوم وعمورة، لأنَّ الربَّ "أبقى لنا بقيَّة صغيرة" (آ9). وهذه البقيَّة سوف تكون "زرعًا" كما قال النصُّ اليونانيّ Sperma. فإن "هدم" الله فلكي يبني، وإن "أتلف" فلكي يزرع. مات الذين خرجوا مع موسى من مصر، ولكن تنظَّم شعب جديد تطهَّر في البرِّيَّة.

جاء هذا القول النبويّ في إطار الحرب فبانت أهمِّيَّته: اختار الله شعبه وتبنّاه وأغدق عليه العطايا، فردَّ الشعب بنكران الجميل. لهذا برزت "قساوة" الله بشكل محنة ماضية وتهديد بمحن آتية. فهل يفهم سكّان أورشليم؟

1: 10-20 الخبث والرياء. هنا نقرأ قولاً نبويًّا آخر، لا علاقة له بالقول السابق. فهذا الفصل يتضمَّن عددًا من الأقوال حصلت معًا وكأنَّها تُعِدُّ القارئ للدخول في كلِّ النبوءة الإشعيائيَّة. والبداية: اسمعوا. بعد أن دعا الخليقة كلَّها لتسمع فسمعت (الثور، الحمار)، ها هو يدعو شعبه. ويكرِّر "أصغوا" مع تسمية تربطنا بما في القول السابق: القضاة (هم الذين يقضون في الشعب، لا فقط الجالسون في المحكمة) هم الحكّام. أين يقيمون؟ في سدوم. ولكنَّ هذه المدينة خربت من زمان طويل. ويبدو أنَّها "عاشت من جديد" في أورشليم. والشعب هم شعب عمورة، يعني يستحقّون الحريق. ومع ذلك، لبث الربُّ يكلِّمهم ويدعوهم إلى السماع والإصغاء.

تجاه هذه الصورة البشعة، نقرأ "كلام الربّ" ثمَّ "شريعة "إلهنا". الشريعة هي التعليم (2: 3؛ 5: 24) الذي يتوجَّه إلى الحكّام وإلى الشعب. فالربُّ لن يقبل ذبيحة ولا صلاة تُعتبَر "مكروهة" لدى الربّ.

"ذبائحكم" (ز ب ح ي ك م). هي ذبائح السلامة حيث مقدِّم الذبيحة يتقاسمها مع الأهل والأقارب، ولكن أيضًا مع اليتيم والأرملة والفقير واللاويّ. وأيُّ سلام مع الذين نظلمهم. ثمَّ "المحرقات" (آ11). عادة يُحرَق لله أثمن ما في الذبيحة، ومع ذلك يرفضها الله. فقيمة تقادمنا لا ترتبط بالعدد، ولا بغناها أو بفقرها، سواء كانت عجلاً وحملاً أو يمامة وحمامة. إنَّها تفرض استعدادات القلب، ولا يمكن أن تحلَّ محلَّ أصغر الواجبات تجاه القريب.

وبعد الذبائح، يشجب النبيّ المجيء إلى الهيكل مع الحجّاج في الأعياد الكبرى. يأتون ليروا وجه الربّ، أو بالأحرى لكي يراهم الربُّ ويستقبلهم. قال: "تأتون لتظهروا أمامي" (آ12). أنا أستغني عن هذا اللقاء.

نقرأ في آ13 لائحة بأعمال العبادة التي "يكرهها" الله. "التقدمة" (م ن ح ه) هي من محاصيل الأرض. دعاها النبيّ: "تقدمة باطلة". لا نفع منها ولا معنى. ثمَّ "البخور" الذي لم يعد لرضى الربّ. هو البخور الذي يصعد حين تُحرَق الذبائح. كيف لا يكرهه الله حين يعرف أنَّه نتيجة ظلم الفقير الذي يأخذ منه الغنيّ ما يملك، بحسب المثل الذي أعطاه ناتان لداود (2 صم 12: 4). وبعد ذلك، رأس الشهر، السبت، نداء المحفل أو الاجتماعات من أجل العيد (عا 8: 5؛ هو 2: 13؛ لا 23: 1ي). لماذا يرفض الربُّ كلَّ هذا؟ بسبب الكذب الذي نجعله فيها. في العبريَّة: "ا و ن"، إثم. وفي اليونانيّة، البعد عن الصدق يجعل العيد غير مطاق.

ويتواصل الشجب في فم النبيّ بألفاظ قاسية: أبغض، استثقل، ملَّ. نتخيَّل أنَّ الربَّ لا يسمع "الصلوات" وهو الذي طلب من شعبه أن يسمع. نتخيَّل أنَّ الربَّ لا يريد أن ينظر إلى الأيادي المرفوعة المتوسِّلة. يمكن أن "يحكم" على هذا الإله فندلُّ على نوايانا السيِّئة. ولكن أما يجب أن ننظر إلى أيدينا؟ قال عنها النبيّ: ملآنة دمًا" (آ15).

ويسأل الربّ: من أين جاء هذا الدم؟ ويُحيلنا إلى قايين الذي اعتبر أنَّه ليس حارسًا لأخيه (تك 4: 9). فهل يخفي دمُ الذبائح الدم المسفوك في أورشليم؟ إذًا، نبدأ فنطهِّر أيدينا . هناك أوَّلاً الطقوس. ولكنَّ هذا التطهير الخارجيّ يبقى في الخارج. فما ينجِّس الإنسان ليس ذاك الآتي من الخارج، بل ذاك الطالع من الداخل: "ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجِّسه لأنَّ من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشرّيرة: الفسق والسرقة والقتل..." (مر 7: 20-21). وتأتي الأفعال في صيغة المخاطب الجمع، وكأنَّها تتوجَّه إلى كلِّ واحد بمفرده: اغتسل، تنقّى، عزل وأبعد الشرّ، كفَّ عن فعل الشرّ. هي الصورة السلبيَّة التي تُعدُّ الإنسان لكي يأتي إلى لقاء الله. ثمَّ الإيجابيَّة مع خمسة أفعال: تعلَّم، وماذا يتعلَّم المؤمن؟ فعل الخير. ثمَّ: طلب الحقّ، لا الباطل. حرفيًّا: القضاء (م ش ف ط). ويعود الفعل من الجذر ذاته: اقضوا. نلاحظ هنا أهمِّيَّة القضاء من أجل إحلال العدالة. "انصفوا المظلوم" أو بحسب العبريّ: قوِّموا (ا ش ر ي) الظالم. علِّموه الاستقامة في الحكم. وأخيرًا اليتيم والأرملة هما ضحيَّة الجور الاجتماعيّ .

في آ18-20 يدعو الربُّ شعبه كما الأب يدعو ابنه وابنته. فهو يستعدُّ لأن يغفر إن رضيَ الشعب أن يدخل في الحوار ويبدِّل حياته: البداية تنقية تامَّة، والنهاية اختيار بين السعادة والشقاء كما في سفر التثنية (30: 15ي[ ). من جهة، شاء وسمع. هي الطاعة وجزاؤها. ومن جهة أخرى، أبى وتمرَّد. فالعصيان والثورة يقودان إلى السيف الذي يحمله المجتاح. ذاك ما يصيب "الأمَّة الخاطئة".

والنهاية: "فم الربِّ تكلَّم" (آ20). أي: هو قال وهو يفعل (مي 4: 4). وهكذا عارض إشعيا ديانة مبنيَّة على طقوس يمارسها أناس يفصلون بين محبَّة الله ومحبَّة القريب. وهنا يقول يوحنّا في رسالته الأولى: من لا يحبُّ القريب الذي يراه، كيف يقدر أن يحبَّ الله الذي لا يراه؟ هذا يفهمنا أنَّ مثل هؤلاء الناس لا يحبّون الله. وإن رفعوا الصلوات فبالشفاه لا بالقلب في أيِّ حال "القلب سقيم". والشفاه؟ "الرأس مريض" كلُّه. أتُرى الله يرضى بمثل هذه العبادات؟

1: 21-28 الفساد في أورشليم. هو قول نبويّ على أورشليم التي كانت "المدينة الأمينة" (آ21). تاهت بعض الوقت وضلَّت، ولكنَّها تعود كما في السابق (آ26): مدينة العدالة والاستقامة، مدينة الأمانة والحقّ. نلاحظ هنا التضمين والاحتواء[RK12] بين آ21 وآ26، كبداية للقطعة ونهاية. أمّا آ27-28 فاعتبارٌ قدَّمه النبيّ في درفتين: الفداء والهلاك.

البداية تعجُّب ودهشة (آ21) تجاه التحوُّل الذي حصل لأورشليم: كانت أمينة فصارت "زانية". كانت مدينة العدل فصارت مدينة القتل. من يسمع هذا الكلام؟ سكّان المدينة. هم الشاهدون عليها وفي الوقت عينه على نفوسهم. بعد ذلك، يتوجَّه النبيّ بكلامه إلى المدينة وكأنَّها شخص حيّ ويعدِّد خطاياها: زغل في الفضَّة، غشّ في الخمر ومزجها بالماء. ما زلنا في عالم الكذب والاحتيال، حيث القويّ يغشُّ الضعيف. ويُتَّهم الرؤساء: هم متمرِّدون على الله ورافضون وصاياه وأحكامه. ويعاشرون اللصوص. إذًا، مهنتهم السرقة: الرشوة، العطايا أو الهدايا التي تصل إلى القاضي بحيث لا "يقضي"، أي لا يحكم بالاستقامة.

في آ24 يبدأ قول جديد. الله هو أوَّلاً "ربُّ الجنود" (صباؤوت). وجنوده في الكواكب والرياح والمطر والبرَد. كلُّهم يطيعونه. ثانيًا هو "عزيز إسرائيل". هو صاحب العزَّة والقوَّة كما دُعيَ في سفر التكوين: "عزيز يعقوب" (49: 24).

في محطَّة أولى هو العقاب للذين هم خصوم الربّ وأعداؤه. هم يخاصمون الربَّ والربُّ يدعوهم إلى المصالحة. هم يعادون الربَّ والربُّ لا أعداء له. وهو الذي يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار. أمّا النصُّ العبريّ ففي صيغة اسم الفاعل (ا و ي ب): المُعادي. الإنسان يعادي الله ويبتعد عنه كما فعل الابن الضالّ (لو 15: 12-13). الربُّ "ينتقم" ولكن كيف ينتقم؟ "ينقّي الزغل" وهكذا تتنقّى الفضَّة عن القصدير. وهنا يزول الوسخ بالنطرون. ثمَّ إنَّ الربَّ لا يزيل "الخاطئ" بل يزيل "قذارته". فالله لا يعاقب لكي يعاقب. "هو إله لا إنسان" أي لا يتصرَّف كما يتصرَّف الإنسان، تلك هي المحطَّة الأولى. في المحطَّة الثانية، يعيد الربُّ مدينته إليه. غابت العدالة وها هي تعود بفضل قضاة يرسلهم الله. غابت الأمانة وها هو الربُّ يرسل "المشيرين" أو كما نقول في لغتنا اليوم: المستشارين. هم يرشدون الملك.

وتأتي آ27-28 في شطرين متوازيين يربطاننا بزمن المنفى. "صهيون "تُفدى"، تنال الخلاص بعد أن مرَّت في محنة قاسية. وأبناؤها يعودون. ذاك هو المعنى الأوَّل لفعل (ش وب، ثاب). ويعودون "تائبين" لا "متمرِّدين". يعودون "بالبرّ"، وفي العبريَّة: بالصدق. لا مجال بعدُ للكذب وخيانة الربّ فنمضي تارة إلى الهيكل وطورًا إلى غابة "البطم". كلُّ هذا ثمرة العدالة والأمانة. أمّا حيث تكون الخطيئة والذنوب فهناك الهلاك والفناء للذين "يتركون الربّ". هو المؤمن والشعب أمام اختيار مع الله أو ضدّ الله. ويكونون ضدّ الله حين يهجرون الهيكل ويمضون إلى الديانات الكنعانيَّة .

1: 29-31 العبادة الكنعانيَّة بين "أشجار البطم" و"الجنّات". تأتي الأفعال في شكل متواز. اشتهى – اختار. ندَّد إرميا بمثل هذه العبادة فقال: "تحت كلِّ شجرة خضراء أنتِ اضطجعتِ زانية" (إر 2: 20). ولكن يزول الاخضرار بسبب القحط والجفاف، ولن يعود هناك ماء من أجل الجنَّات، فماذا تفعلون؟ والجواب: تصيرون مثل هذه الأشجار التي خرَّبها الجفاف: تذبلون. لن تكون فيكم حياةٌ بعد.

من استسلم للعبادات الوثنيَّة صار مثل شجرة يابسة تحترق سريعًا. وهكذا يزول ذاك الذي يفعل ما يفعله، ولا من يطفئ. هلاَّ يسمع سكّان أورشليم؟

الخاتمة

حالة المدينة تعيسة. دعا الربُّ الشعب ورؤساءه فما لقيَ منهم جوابًا. حين قرَّر أن يفعل مع معاديه في أورشليم وفي خارجها، فينقّي المدينة من الشرِّ الذي فيها، ويحوِّل "القضاة" فيمارسون العدالة ويعيشون بحسب الحكمة الآتية من عند الربّ. عند ذاك وعند ذاك فقط تعود المدينة إلى ما كانت عليه، إلى البرِّ والأمانة والعدالة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM