المدخل

تفسير إشعيا

الخوري بولس الفغالي

المدخل

حين نقرأ نبوءة إشعيا، نكتشف رجلاً مسَّته قداسة الله، فحمل كلمته خلال حقبة صعبة من تاريخ مملتكي إسرائيل ويهوذا. حوالي سنة 734 كان حلفٌ بين الأراميّين في دمشق والأفرايميّين في السامرة ليقفوا في وجه الأشوريّين الذين بدأوا يجتاحون المنطقة. وأرادوا أن يدخلوا مملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم. رفض الملك آحاز، فكان الحصار على أورشليم، ولولا لجوء ملك يهوذا إلى الأشوريّين لسقطت ربَّما أورشليم واستقال الملك ووُضع ملك معدٌّ لذلك سلفًا "ابن طبئييل" (7: 6). وتدخَّل النبيّ إشعيا: "إن لم تُؤمنوا فلا تأمنوا" (آ9). إذا كان عندكم إيمان بالله، يكون لكم إيمان وسلام. بحث الملك عن الأحلاف البشريَّة، أمّا إشعيا فدعا إلى الإيمان بالله.

وسنة 701، أتى الأشوريّون أيضًا فخضعت لهم الممالك الصغيرة، الواحدة بعد الأخرى ودفعت الجزية. بما أنَّ الملك أراد الملك أراد أن يستند إلى مصر، أتى سنحاريب دمَّر مملكة يهوذا فصارت أورشليم تحت الحصار. ولكن حصل أمرٌ تتحدَّث عنه النصوص الغريبة عن الكتاب المقدَّس، تآمر ولدا الملك على أبيهما. أمّا الكتاب فيشير إلى الفئران ممّا يعني أنَّ الوباء حلَّ بالجيش الذي يحاصر المدينة. ومهما يكن من أمر، مضى الأشوريّون ولم تسقط أورشليم. يحسب البشر أنَّها الصدفة السياسيَّة. لا إشعيا الذي أنشد: "استهزأت بك العذراء ابنة صهيون" (37: 22).

ما قلناه يعني أمرين. الأوَّل، أنَّ الربَّ هو سيِّد التاريخ، وأنَّ الملوك يأتمرون بأمره سواء علموا أم لم يعلموا . والثاني أنَّ عمل إشعيا دام منذ سنة 740 حتّى سنة 701. فنقرأ في 6: 1 وهي السنة التي فيها دُعي النبيّ: "وفي سنة وفاة عزيّا الملك" وهذا الملك توفِّي سنة 740. وانسحاب الأشوريّين معروف، في سنة 701 ق.م.

ولكن ما يدهشنا هو أنَّ النبوءة الإشعيائيَّة تورد اسم كورش، ملك فارس (551-529). كما تتحدَّث عن أهل أورشليم الذين هم في السبي البابليّ. ومن المعلوم أنَّ البابليّين الذين بدأ حكمهم سنة 626 ق.م. سبوا شعب يهوذا وأورشليم ثلاث مرّات: 598-597؛ 587-586؛ 582-581. وسوف ننتظر سنة 538 لكي تعود الأفواج الأولى إلى الأرض المقدَّسة، بعد أن سمح لهم كورش بالعودة. وهنا يُطرَح السؤال: هل عاش إشعيا قرابة 250 سنة؟ هل تنبَّأ بما حصل فيما بعد؟ أمّا النبيّ فهو الذي يقرأ كلام الله على الوضع الذي يعيشه. في هذا الإطار نكون أمام تيّارين من الباحثين: الأوَّل يعتبر أنَّ إشعيا أعلن نبوءته كلَّها. فكتبها تلاميذه وأعادوا قراءتها على وضع الأحداث المستجدَّة، لأنَّ كلام الله لا يكون من الماضي، بل هو حاضر قرأه الذين عاشوا في السبي البابليّ ليجدوا فيه التعزية (40: 1: عزّوا، عزّوا شعبي). كما قرأه العائدون من السبي ليجدوا فيه الشجاعة أمام مدينة مهدومة، وهيكل محروق وغرباء وضعوا يدهم على الأرض والبيوت المهدَّمة. "لأنَّه هكذا قال العليّ المرتفع، ساكن الأبد، القدّوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدَّس أسكن، ومع المنسحق (المتواضع الروح) لأحيي روح المتواضعين، لأحيي قلوب المنسحقين". الله من أعلى سمائه، والله في مدينته يتطلَّع إلى الذين "سحقتهم" الحياة. تركوا كلَّ شيء في بابل، كما سبق إبراهيم أبوهم ففعل، وها هم فئة الفقراء، المساكين (ع ن ي) الذين ينتظرون كلَّ شيء من الله ومن الله وحده

والتيّار الثاني انطلق من ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر، فقسم سفر إشعيا ثلاثة أقسام: إشعيا الأوَّل (ف 1-39) يرتبط بحياة النبيّ الذي نعرف عنه حياته القريبة من القصر الملكيّ والذي يقول التقليد إنَّ الملك منسّى "نشره" داخل شجرة لأنَّه رفض كلامه. إشعيا الثاني (ف 40-55) يرتبط بنبيّ أغفل اسمه فوصل إلينا كلامه. هو "صوت صارخ في البرِّيَّة" (40: 3). يطلب منه أن ينادي بدوام كلام الله تجاه زوال البشر: "كلُّ جسد عشب... يبس العشب... وأمّا كلمة إلهنا فتثبتُ إلى الأبد" (آ7). هذا القسم الثاني يحدِّثنا عن المنفيّين الذين يستعدُّون للرجوع إلى أرض الربّ بعد أن سقط الحكم البابليّ بيد كورش الفارسيّ. ويصوَّر هذا الرجوع بشكل "خروج ثانٍ" يشبه الخروج الأوَّل. في الأوَّل، هرب العبرانيّون بقيادة موسى. أمّا في الثاني، فهم يسيرون كما في تطواف، والربُّ في مقدِّمتهم. في الخروج الأوَّل كان بعض الماء من الصخرة، أمّا في الرجوع من بابل، فالأنهار تجري والأشجار تقف على جانب الطريق وتصفِّق للذين استعادهم الربُّ إلى أرضهم. وما يلفت النظر هو أنَّ هذه المسيرة بقيادة الله يكون فيها من مملكة يهوذا ومن سائر الأمم. فجميع البشر مدعوّون للتخلُّص من العبوديَّة والصعود إلى أورشليم في مسيرة حجّ. وينشد الحارس من على الأسوار: "أشيدي، ترنَّمي معًا يا خرائب أورشليم" (51: 9).

أمّا إشعيا الثالث (ف 56-66) فهو يعطينا صورة عن الجماعة التي عادت إلى أورشليم ويهوذا. صعوبات عديدة تعترضها[RK12] . وأوَّلها، أورشليم بدون أسوار فيعبث فيه العابثون الأقوياء. فماذا يفعل عائدون من المنفى لا يملكون سوى النزر القليل الذي استطاعوا أن يحملوه بأيديهم؟ ثمَّ إنَّ الذين لبثوا في الأرض استولوا على الأرض ولا يريدون أن يعيدوها إلى أصحابها. بالإضافة إلى ذلك، فالحاكم المقيم في السامرة يتحكَّم بمدينة الربِّ وسكّانها. فهل يعود الذين أتوا من بابل أدراجهم وهم يائسون؟ أم يتشدَّدون؟ وهكذا جاء "نبيّ" هو تلميذ تلميذ إشعيا: ندَّد بظلم الأقوياء، الذين دعاهم "وحوش البرّ" (56: 9). ودعا المسؤولين لكي يتحرَّكوا بحيث لا يكونون مثل "كلاب بكم لا تقدر أن تنبح" (آ10). بل أكثر من كلاب لأنَّهم لا "يعرفون الشبع" (آ11)، فيسلبون المساكين.

هكذا بدت نبوءة إشعيا بمواضيعها المتعدِّدة، المنفتحة على الشموليَّة، بحيث لا يكون الخلاص لشعب واحد من الشعوب، بل لجميع الشعوب. أنتخيَّل؟ "مبارك شعبي مصر". هل نسمع: شعب الله هو مصر. ثمَّ "أشور عملُ يديَّ". أشور المملكة الوثنيَّة، الشرسة، عملها الربُّ كما عمل شعبه وسائر الشعوب (19: 25). الأمم كلُّها تنال بركة الله. وإن كانت شرّيرة، فالربُّ يدعوها لكي تترك شرَّها، أما أرسل يونان إلى نينوى؟

ونبوءة إشعيا لم تنحصر في زمن إشعيا، بل رافقت مملكة يهوذا حوالي ثلاث مئة سنة وقرأها العهد الجديد فرأى فيها بعضُ الآباء "الإنجيل الخامس". فميلاد الطفل يسوع جعل متّى يقرأ : هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا" (مت 1: 23؛ إش 7: 14)، وآلام يسوع المسيح نقرأها في أناشيد عبد الربّ، ولاسيَّما الرابع منها: "أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمَّلها... وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا" (53: 4-5). من هذا النشيد انطلق فيلبُّس، أحد السبعة، فبشَّر وزير ملكة الحبشة (أع 8: 27). كان هذا يقرأ: "مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزُّه هكذا لم يفتح فاه" (إش 53: 7). ابتدأ فيلبُّس من هذا الكتاب وبشَّره بيسوع (أع 8: 35.

ونبوءة إشعيا نقرأها اليوم وهو زمن يعرف الحروب العديدة. لا يحارب الله مع شعب ضدّ شعب، ولا يكون إلهنا أقوى من إلهكم. إن تحدَّثنا هكذا نشابه الوثنيّين حيث إله مدينتنا يحارب إله مدينتكم. في إشعيا، لا مجال بعد لأعمال العنف في المجتمع. فالذئب يسكن مع الخروف، والنمر يربض مع الجدي، والأسد يأكل التبن مثل البقرة (11: 6ي). هو سلام شامل. ولكن ماذا نفعل بالسلاح الذي يجعل القويّ يسيطر على الضعيف فيستعبده، والمملكة الكبيرة تستغلّ المملكة الصغيرة؟ "السلاح يكون للحريق، مأكلاً للنار" (9: 5). أو بالأحرى يتحوَّل من أداة للموت إلى أداة للحياة: "السيوف تصبح سككًا للفلاحة، والرماح مناجل" (2: 4). والخلاصة: لا ترفعُ أمَّة على أمَّة سيفًا، ولا يتعلَّمون الحرب فيما بعد ".

بعد هذه المقدِّمة، لا يبقى لنا سوى الدخول في رفقة من اسمه برنامج : الربُّ هو الخلاص. معه نتعلَّم كيف نفتح قلوبنا على كلام الله، فهو النور لنا والحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM