الفصل الرابع: وجهان في التفسير إيشوعداد وديونيسيوس

الفصل الرابع
وجهان في التفسير
إيشوعداد وديونيسيوس

حين نقرأ التفاسير، نرى أن التراث السرياني هو هو في جميع التسميات، وخصوصًا بين كتّاب الكنيسة المشرقية، التي دُعيَت في وقت من الاوقات نسطورية، لأنها ارتبطت بالبطريرك نسطور الذي رفض تعليم أفسس المنعقد سنة 431. وهي اليوم تتوزّع بين كلدانية (انضمت إلى رومة) وأشورية لبثت مستقلة. وكتّاب الكنيسة السريانية الغربية التي رفضت مجمع خلقيدونية المنعقد سنة 451. كان الانفصال عن بيزنطية لأسباب سياسيّة أضيفت إلى الأسباب العقائديّة. دُعيت في وقت من الأوقات «يعقوبية» نسبة إلى يعقوب البرادعي، وهي اليوم تتوزّع بين سريانية ارثوذكسية وسريانية كاثوليكية.
ولكن ما يلفت النظر هو أنه وان كان «خلاف»، بل «اصطفاف» بين الفئات، إلاّ أن التفاسير تعدّت هذه الحواجز، فأخذ الشرق من الغرب والعكس بالعكس. وهذا ظاهر بشكل خاص عند غريغوريوس ابن العبري المتوفي سنة 1286. أما نحن فنقدّم في هذا الفصل كاتبين: إيشوعداد من كنيسة المشرق وديونيسوس من الكنيسة السريانية الارثوذكسية.

1-    إيشوعداد المروزيّ وتفسيره لإنجيل متّى
نتذكَّر أوَّلاً أنَّ إيشوعداد وُلد في مقاطعة مرو (بلاد خراسان) التي هي في إيران الحاليَّة. ما نعرف عنه أنَّه حوالي سنة 850 أصبح أسقفًا على الحديثة. وبعد ثلاث سنوات، أي سنة 853، انتخب جاثليقًا (كاثوليكوس). ولكن بختيشوع، طبيب المتوكِّل، أقنع الخليفة بأن يعيِّن تاودوسيوس (أثناسيوس) الأوَّل (853-858). وهكذا كان لنا الحظُّ بأن يتفرَّغ إيشوعداد فيقدِّم شروحًا لكلِّ أسفار العهد القديم والعهد الجديد.
نُشر العهد الجديد في كمبريدج سنة 1911-1916 . ثمَّ أعيدت طباعته سنة 2005 . وبداية العهد الجديد ترد كما يلي:
«على قوَّة ربِّنا يسوع المسيح نشرع في كتابة تفسير كتب (العهد) الجديد التي عملها وجمعها من كتب كثيرة، (كتب) المفسِّرين ومعلِّمي البيعة المقدَّسة، القدِّيس ومحبُّ العلم مار إيشوعداد المروزيّ، أسقف حداثة التي في أشور. ساعدني، يا ربَّنا، وقوِّني واجعلني حكيمًا ومنيعًا لكي أكمِّل بنعمتك.
باسم أنا هو الذي هو، ومدبِّر العهدين ننتقل من حقول المستنقعات، العهد العتيق، إلى مروج الزنابق، العهد الجديد وفهمه، فنفسِّر بإيجاز، في نوع ما، في امتداد أو في نوع من ملحق صغير في وسط أسطرِ جسم الكتاب. يا ربَّنا يسوع، اهدِ عبدك لكي يكمِّل بنعمة منك آمين.
أنهى إيشوعداد العهد القديم، وها هو ينتقل إلى العهد الجديد، من مركز الإنارة إلى مركز الرفعة. وبعد هذه الفاتحة، ننتقل إلى تمهيد للكتاب: «الإنجيل لفظ يونانيّ، يعني في اليونانيَّة البُشرى، حياتنا وحركتنا ونسمتنا» (أع 17: 28).
بعد ذلك تأتي الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل والرسائل. ونبدأ ببداية متّى: إذًا نبدأ فنقارب التصميم المقدَّم لنا ونقول: أيَّة علَّة دعت القدِّيس متّى لكي يُسلِّم الإنجيل في كتاب. فبعد صعود ربِّنا وإنزال الروح، كرز الرسل بالبشارة في اليهوديَّة كلِّها، ولكن بسبب هذا تحرَّكت اضطهادات كثيرة على الكارزين بحيث إنَّ إسطفانس رُجم (أع 7: 58-59). ويعقوب بن زبدى قُتل بالسيف (أع 12: 2)، وطُرد من أورشليم جميعُ الكارزين بمخافة الله (أو: الديانة). وإذ رأى المؤمنون في اليهوديَّة أنَّهم سوف يُفصَلون عن الرسل، توسَّلوا إلى متّى الطوباويّ لكي يسلِّم إليهم في كتاب كلَّ ما قاله ربُّنا وعمله. فعمل كتابه لا في هذا التصميم الذي به تكلَّم ربُّنا وعمل، بل في تصميم آخر، الذي ظنَّ أنَّه يلتحم (أو: يوافق) بالتعليم. ما قال أوَّلاً الأمور التي حصلت أوَّلاً، وآخرًا الأمور التي كانت فيما بعد، بل كوَّن لهم ترتيبًا آخر لكي يكون نسيجٌ واحدٌ جميل من التعليم.
ما يمكن أن نلاحظ من دراسة هذا التفسير، هو أنَّنا لسنا أمام تأليف، بل أمام تقميش، بحيث أخذ إيشوعداد من هنا وهناك لكي يكوِّن كتابه. فمنذ الكلمات الأولى من التمهيد، نكتشف جنَّة الأطياب. وراح يغرف من السريان، ولاسيَّما من تيودور أسقف المصيصة الذي نُقل باكرًا إلى السريانيَّة ودُعيَ «المفسِّر» بلا منازع. كما غرف من تفاسير أفرام، وهو المعلِّم في نصيبين وفي الرها.
قال إيشوعداد: «فمن إبراهيم حتّى داود كانوا بلا ملوك ولكن كانوا خاضعين للذين دعوا قضاة. والكهنة أيضًا كانوا في علاقة مع سبط يهوذا، كما علَّم الكتاب: «أخذ هارون امرأةً إليشبع بنت عميناداب (خر 6: 23) التي من سبط يهوذا ويوشبع بنت يورام الملك أخذت يوياداع الكاهن» (2 أخ 22: 11) . هو نصٌّ أُخذ من الدياتسّارون. ونصُّ آخرين نُسب إلى أفرام في معرض الحديث عن النسب الذي وصل إلى يوسف لا إلى مريم. «نقول: ليست العادة في الكتب أن يستند النسب إلى النساء. فإذ ذكر يوسف الذي هو خطِّيبها، عُرفَتْ البتول أيضًا معه أنَّها نزلت من داود في النسب، لأنَّ كلَّ سبط أمر بأن يتزوَّج في سبطه، وإن خرجت (النسوة) مرَّة قليلة من سبط إلى سبط، فيوسف ومريم كانا الواحد للآخر أبناء أبناء الإخوة إذ ولد إليعازر ابنين، ماتان ويوتام، وماتان ولد يعقوب. ويعقوب (ولد) يوسف، ويوتام (ولد) صادوق، وصادوق (ولد) مريم، واسم أمِّها دينة، وهذه كانت أخت إليشبع كما قال الملاك أيضًا: «ها إليصابات نسيبتك» (لو 1: 38)، وتدبَّر الأمرُ هكذا بإشارة إلهيَّة، بحيث إنَّ مُلك بيت داود وكهنوت بيت هارون يأخذان في المسيح كمال ظلِّهما».
نلاحظ هنا كيف اجتمع في المسيح الملك والكهنوت، الملك بأبيه والكهنوت بأمِّه. ونقرأ في جورجياس 2، ص 37-38: «كيف أبعد يوحنّا؟ قال مار أفرام وآخرون: «إنَّ إليشبع أبعدته من قدَّام سيف هيرودس. وتقبَّلت في وحي أنَّ عليها أن تهرِّبه إلى البرِّيَّة، إذ صنعت له بحكمة ناعمة قميصًا من شعر صوف الجمال.
وإذ يتكلَّم إيشوعداد عن الذي كان مأكله الجراد وعسل البرّ، يورد ما يقول الدياتسّارون: «كان مأكله العسل ولبن (أو: حليب. ܚܠܒܐ) الجبال» (ص 39). وكان لهذا الشارح أن يذكر حنانا الحديابيّ الذي أتلفَتْ آثاره: «اندهش حنانا الحديابيّ أنَّه جعل ربَّنا في عداد الأجيال لكي يُقام في عداد الأجيال الأربعة عشر، التي من الجلاء إلى المسيح» (ص 16).
وهكذا أورد أيشوعداد عددًا من الكتّاب السريان. ذكرنا أفرام وحنانا الحديابيّ، ونذكر حنانيشوع الجاثليق المتوفِّي سنة 700، وأفراهاط الحكيم الفارسيّ، وباباي الكبير (553-628)، من مشاهير الكتّاب النساطرة وباباي الفارسيّ، وبربهريز وبرديصان وبرحدبشابا ودانيال بر مريم المتوفِّي سنة 650 تقريبًا والمعاصر لإيشوعباب الحديابيّ وغيرهم. هذا يفهمنا وسع التراث السريانيّ في شرح الكتب المقدَّسة. وما اكتفى السريان بالكتابة، بل نقلوا الآباء اليونان، الذين ترد أسماؤهم في تفسير إنجيل متّى: الذهبيّ الفم، باسيل، كليمان الإسكندرانيّ، غريغوار النازينزيّ، سويريوس الأنطاكيّ. ووصل إلى العالم السريانيّ أمبرواز أسقف ميلانو، ديونيسيوس الأريوباجيّ، هيبوليت الرومانيّ، إيرينه أسقف ليون في فرنسا. ثمَّ بورفير (234-305) ابن صور في لبنان ومواصل عمل أفلوطين الفيلسوف الإسكندرانيّ، ويوسيفس المؤرِّخ اليهوديّ العائش في القرن الأوَّل المسيحيّ.
هذا ما يعرِّفنا إلى سعة اطِّلاع إيشوعداد الذي جعل إنجيل متّى في اثنين وعشرين بابًا أو كتابًا، شدَّد في عمله بشكل خاصّ على قراءة النصِّ وربطه بالتاريخ، قبل أن يصل إلى المعنى الروحيّ. وها نحن نقدِّم بداية الباب الثاني والعشرين، والكلام عن الآلام والقيامة:
واللصُّ الذي عن يمينه كان اسمه طيطس، والذي كان عن شماله، (اسمه) رومكوس.
والظلام الذي كان عند الصليب، ما كان معاكس الذي كان في الشمس من وقت إلى آخر، لكن من قدرة ربِّنا. والمعروف أنَّه من الاثنين. أوَّلاً، لأنَّه كان في الأرض كلِّها. ثانيًا، لأنَّه دام ثلاث ساعات ولكن حين تُظلم الشمس، فهي تُظلم في الحالين من تسع وعشرين في القمر حتّى الثلاثين. وقال آخرون: في الثلاثين من القمر يكون ظلام في يوم. يكونان (الشمس والقمر) مرتبطين معًا، أي حين الشمس والقمر يسيران في بيت واحد وهذا لا يكون كلَّ سنة، بل مرَّة واحدة كلَّ سبع سنين. وهذا لا يكون من القمر وحده بل معه أيضًا الكسوفات القائمة سويَّة تحت الشمس.
ويتواصل الكلام عن الكسوف في شكل «علميّ» عرفه الآباء السريان واليونان على السواء. ونودُّ أن نذكر مقطعًا مأخوذًا من العالم اليهوديّ يتوسَّع في خبر مقتل يوحنّا المعمدان
أتُوا وقالوا ليسوع (مت 14: 12). وحين سمع يسوع، انتقل من هناك في السفينة إلى موضع خرب وحده (آ13). ما قال هذا على أنَّهم أخبروه بقتل يوحنّا وكأنَّه صُنع من قبل. فالخبر على مقتل يوحنّا وُضع في الوسط. أمّا الترتيب فكان هكذا: فسمع هيرودس عن يسوع، وظنَّ أنَّ يوحنّا قام من بين الأموات (14: 12). فأراد أن يراه إن استطاع، وحين قيل ليسوع: هيرودس يطلب أن يراه، ترك وانتقل إلى موضع خرب. بيَّنوا له لا مقتل يوحنّا، بل أنَّ هيرودس يريد أن يراه.
والصبيَّة بعد أن أخذت رأس يوحنّا على طبق وأوصلته إلى أمِّها، عادت إلى المدعوِّين وبأنواع جديدة من رقصها دفعت عربون طلبها. وكانت بُحيرةٌ مثبتة إلى جانب المدعوِّين، فدخلت فوق الجليد لترقص ولتبيِّن طلاقة رقصها وتبهر الناظرين. وفي الحال، انفتح ذاك المكان من تحتها وبُلعَتْ حتّى عنقها وفُصلت سمكة كبيرة من لدن الله، انتقامًا لموته (= موت يوحنّا)، فبلعت جسمها. وإذ صارعوا بكلِّ الوسائل لكي يخلِّصوها لم يستطيعوا. وإذ قطعوا رأسها بالسيف الذي به قُتل يوحنّا، انشقَّت الأرض دون أن يتعلَّق بها إنسان، حتّى وُضع رأس يوحنّا قدَّام أمِّها، فخبطته بالأرض وهزئت به: أين هو فمك الذي مرمر حياتنا. ووُضع قدَّامها أيضًا رأس ابنتها. وفي الحال، من بكاء كثير بواسطة عمل ملائكيّ أفلتَتْ عيناها وسقطتا على رأس ابنتها و(رأس) يوحنّا.
وحين سمع بيلاطس بالإثم الذي صُنع بيوحنّا، أرسل فقتل كلَّ المدعوِّين الذين كانوا هناك. ومن ذلك اليوم كانت عداوة بينهما. وفي يوم ذاك (أي: يسوع) الذي يضع الأمان في الجميع، صارا صديقين الواحد مع الآخر، هيرودس وبيلاطس كما (قال) الإنجيليّ (لو 23: 12). ولأنَّ بيلاطس ما استطاع أن يضرب هيرودس لأنَّه كان مسلَّطًا مثله، انتقمت العدالة بحكم قاطع كما (فعلت) بأبيه الذي قتل الأطفال (مت 2: 16).
هو القضاء الإلهيّ اقتصَّ في الحال من هذه الخاطئة، كما سبق وفعل في عصيان قورح وداتان وأبيرام (عد 16: 30). وفي المعنى الروحيّ استلهم إيشوعداد أفرام حين تحدَّث عن المسيح الذي بموته جعل هيرودس وبيلاطس يتصالحان.
وفي النهاية نكتشف إيشوعداد الذي يوردُ لنا الكثير من المعلومات. هو يقدِّم لنا مختلف القراءات بما فيها اختلافات الأناجيل الإزائيَّة. ولا يخاف أن يقابل السريانيّ مع اليونانيّ واللاتينيّ. وما نلاحظ خصوصًا، النصوصَ من السريانيَّة العتيقة، السابقة للدياتسّارون، ممّا يعني أنَّ أساس عمل تاتيان كان اللغة السريانيَّة، لا اليونانيَّة. وإذ ضاع النصُّ السريانيّ للدياتسّارون، فوجدناه فقط في تفسير أفرام، نستطيع أن نقرأ عند إيشوعداد بعضًا من نصوصه. هذا يدلُّ على استعماله للنقد الأدبيّ الذي جعله يتعامل مع النصوص. كما نراه يحكم على المراجع التي يأخذها ليختار أفضلها.
ونأخذ مثلاً فيه يناقش إيشوعداد الاختلاف بين مت 10: 10 (ولا ثوبًا ولا عصا) ومر 6: 8 (لا تأخذوا سوى عصا)، حين الكلام عن إرسال التلاميذ:
هذا (كلام) متّى حيث قال ربُّنا: «لا تأخذوا أيضًا عصا». أمّا مرقس هنا: «لا تأخذوا إلاَّ عصا فقط»: أشار ربُّنا بهذا أن لا تأخذوا شيئًا من الآخرين الذين تمضون إليهم، لئلاَّ يظنُّوا أنَّكم أُرسلتم من أجل التجارة. وهكذا عرفنا أنَّه يؤمِّن لنا كلَّ ما نطلب. إذًا بهذا لا يعارض مرقس (كلام) متّى. فالاثنان تنبَّها بأن لا يأخذا (شيئًا) من الآخرين لئلاَّ يبدوا طامعَين. هم ما مُنعوا أن يأخذوا من بيوتهم (شيئًا)، لأنَّهم يحتاجونه في الطريق. العصا، يستندون إليها. النعلان لقساوة الطريق والأشواك.
قال آخرون: كان متّى في الماضي عشّارًا، فاقتبل كما في محنة قساوة الهوى في الطمع، فابتعد بشدَّة عن هذا الهوى. وقال آخرون: عند الاثنين مُنعَتْ العصا، فقرأ: «ܐܠܐ. ܐܠܐ» وترجمها حتّى لا. وهكذا يكون القول: عصا فقط.
لا نريد أن نطيل الكلام في المقابلة بين السريانيَّة العتيقة وسريانيَّة البسيطة، ولا أن نورد نصَّ التفسير كما قدَّمه أفرام في الدياتسّارون، فالأمر يتضمَّن درسًا معمَّقًا، ولكن منذ الآن نفهم أهمِّيَّة هذا التفسير وسائر التفاسير لكي نفتح طريقًا جديدة في قراءة ما تركه لنا السريان على مختلف اتِّجاهاتهم في هذا المجال.
2‌- ديونيسيوس برصليبي وتفسير الإنجيل
ننتقل من الكنيسة السريانيَّة المشرقيَّة، أو بحسب الاسم «التاريخيّ»، الكنيسة النسطوريَّة: وإن لم يكن لها أيُّ علاقة بنسطور، إلى الكنيسة السريانيَّة الغربيَّة التي دُعيَتْ باسم يرفضه السريان اليوم: اليعقوبيَّة. فنلتقي بديونيسيوس برصليبي المتوفِّي سنة 1172. وُلد في ملطية في بدايات القرن الثاني عشر؛ في تشرين الأوَّل سنة 1148، رقَّاه البطريرك أثناسيوس الثامن  (1139-1166) إلى الكهنوت، ثمَّ صار مطران مرعش التي هي جرمانيقي القديمة، ولكن سنة 1156 أغارت عصابة أرمنيَّة على مرعش، فأجبر على الهرب إلى بلدته ملطية، وسنة 1167 طُلب منه أن يكون أسقف آمد (أو ديار البكر) فلبث هناك حتَّى وفاته.
كان ديونيسيوس أخصب كتّاب عصره، فأربت كتبه على الثلاثين كتابًا في ميادين شتّى. أمّا موضوعنا الآن فتفاسيره. بدأ مع العهد القديم كتابًا جاء في عدَّة مجلَّدات، ولكنَّ النسّاخ أعرضوا عن نسخه لأنَّه جاء واسعًا جدًّا، فضاع. عندئذٍ أوجزه في أربعة مجلَّدات، فشرح جميع الأسفار. وما يلفت النظر أنَّه قدَّم لنا 32 فصلاً لابن كيفا، في 172 صفحة.
وكما العهد القديم، كذلك شرح ديونيسيوس كلَّ أسفار العهد الجديد، بما فيها سفر الرؤيا، ورجع إلى أفرام ويعقوب السروجيّ وفيلوكسين المنبجيّ وسويريوس الأنطاكيّ ويعقوب الرهاويّ ويوحنّا الداريّ وبركيفا... كما إلى الذهبيّ الفم وهيبوليت وأوسيب القيصريّ وأفريقانوس، وأثناز وغريغوار النازينزيّ... وهي المراجع التي لجأ إليها المروزيّ، ممّا جعل العلماء الغربيِّين يتحدَّثون عن ديونيسيوس الذي أخذ تفاسيره عن إيشوعداد وعن بركيفا، وهذا ما أثار حفيظة البطريرك برصوم في اللؤلؤ المنثور (ص 386، حاشية 5).
بالنسبة إلى الأناجيل، نشرَتْ بدءًا من 1906 مع ترجمة لاتينيَّة. وإليك البداية:
بثقة ثابتة بالإله الواحد المانح كلَّ الخيرات، نشرع في كتابة تفسير الإنجيل المقدَّس الذي اختاره بإيجاز أبونا مار ديونيسيوس الذي هو يعقوب برصليبي، من جميع كتب التفسير، وتقوَّى بالروح القدس.
نشير إلى أنَّ الراهب عبد النور الآمديّ نقل إلى العربيَّة تفسير الأناجيل، سنة 1755، بعنوان: الدرُّ الفريد في تفسير العهد الجديد، واهتمَّ «بتنقيحه وطبعه على نفقته الراهبُ عبد المسيح دولبانيّ السريانيّ الأرثوذكسيّ. هذا يدلُّ على اللغة الضعيفة التي وجب تصحيحها. أمّا نحن ففضَّلنا العودة إلى الأصل السريانيّ والاستنارة بالترجمة اللاتينيَّة.
قبل التفسير جاءت مقدِّمة للمؤلِّف تحتوي 45 فصلاً . ما يهمُّنا نحن الفصل الأوَّل، لأنَّه يتحدَّث عن التفسير، أمّا الفصول الباقية فتتضمَّن توسيعات لاهوتيَّة: معرفة الله، الثالوث، التجسُّد، خلق الإنسان...
الفصل الأوَّل. من القدِّيس الذي سُمِّي سابقًا:
إذ وصلنا إلى نهاية تفسير التوراة والأنبياء، يا أخانا المستحقَّ الكلمة، بإيجاز وبكلام بسيط، قدر المستطاع، أتينا إلى (العهد) الجديد أي الإنجيل وأعمال الرسل مع رسائل بولس. وهذا ما نفعله إذ لا نقول شيئًا من عندنا، بل على أساس المفسِّرين رتَّبنا البناء الروحيّ والمفيد للنفس. بعد ذلك لأنَّنا نظرنا وتمعَّنّا في تفسير الإنجيل الذي صنعه هؤلاء. فأقول: مار أفرام، مار يوحنّا، مار كيرلُّس. وبعد هؤلاء، موسى بركيفا، يوحنّا دارا، مع الكثير من المعلِّمين الآخرين. ورأينا أنَّه لا يمكن أن نضمَّ التفاسير كلَّها في كتاب واحد، لئلاَّ يخرج الكلام من القياس والكيل فنحتاج إلى كتب ومجلَّدات كثيرة، أتينا لكي نقطف كلَّ معاني كلِّ المفسِّرين في كلام قصير، ونضغط قدر المستطاع كلامهم الواسع، الطويل. فحكمنا أنَّه لا يُقرَأ على السامعين كلام طويل مثل الشبع والمأكل الكثير للبطن. وأيضًا لنوقظ المتهاملين والمتراخين إلى التأمُّل والقراءة المعتدلة والسماع القصير، الصغير.
فأنت إذًا، أيُّها المجتهد في هذه الأمور مع السامعين والمنصتين، سرِّحْ صلاة متواصلة من أجل ديونيسيوس الغريب، الذي هو يعقوب الحقير وعبد الله، لكي يصل إلى ما هو مطلوب، بحسب قوَّته، لئلاَّ يرجع السائل بائسًا، خائبًا. وفي البداية، نكتب في أجزاء، القوَّة والمعنى المخفيّ في فصول رتَّبها الملافنة مثل الشروح التي صنعوا (3/5).
ماذا نستنتج من هذا الفصل الأوَّل من المقدِّمة؟ يعلن ابن الصليبي أنَّه عاد إلى مفسِّرين سبقوه، فقرأ ما كتبوه وأوجز، لئلاَّ يُتعب القارئ ويعجز عن التأمُّل والهذيذ بكلام الله. أنهى أسفار العهد القديم وها هو يدخل في أسفار العهد الجديد. أمّا الهدف، فالبناء الروحيّ ومنفعة النفس.
ونقرأ ف 36 الذي يعلن السبب الذي لأجله كتب متّى إنجيله، وسوف نرى التشابه بين ديونيسيوس وإيشوعداد، وإن فصل بين الاثنين ثلاثة قرون من الزمن.
حين قام الاضطهاد على الرسل ورُجم إسطفانوس وقُتل يعقوب، تبدَّد الرسل فكرزوا البشارة للأمم (أو: الشعوب ܥܡ̈ܡܐ). والعبرانيُّون الذين آمنوا حين رأوا هذا، أتوا إلى متّى وسألوه أن يسلِّم إليهم كتابةً ما قاله لهم في الكلام. وهذا ما فعل. ثلاثة إنجيليِّين أيضًا كتبوا ما عمل ربُّنا في سنة واحدة، من حبْس يوحنّا إلى الصعود، ما عدا الميلاد والعماد والتجربة وأمور أخرى التي لا يمكن بدونها أن تكون بداية الخبر. يوحنّا كتب على لاهوته، وعلى ما صنع المسيح في هاتين السنتين الأوَّليَّين من ساعة بدأ يكرز حتّى سقط يوحنّا في السجن. فبرهان ما كتب عن مجيء ربِّنا في (جسم) بشريّ (اللحم، ܒܒܣܪ) والخيرات التي تبعَتْ منه (20-21/17).
تحدَّث ديونيسيوس عمّا فعله ربُّنا في سنة واحدة، منذ جُعل يوحنّا المعمدان في السجن إلى صعود ربِّنا إلى السماء. طلب «العبرانيُّون» من متّى، فكتب لهم في لغتهم، على ما قال أوسيب القيصريّ في التاريخ الكنسيّ (3/24: 6). ثمَّ تحدَّث ابن الصليبيّ عن إنجيل يوحنّا الذي شدَّد على اللاهوت كما على التجسُّد الذي منه ينبوع كلِّ خير. ويتواصل الكلام في ف 37، عن الإنجيليِّين الأربعة:
ف 37. كتب متّى في اللغة العبريَّة في منطقة فلسطين. ومرقس، في رومة، في اللغة الروميَّة، أي الفرنجيَّة. وقال مار يوحنّا (الذهبيّ الفم): كتب مرقس في مصر، ولوقا كتب في اليونانيَّة، في الإسكندريَّة. ويوحنّا كتب في أفسس في اليونانيَّة. في ثلاثة ألسن كُتب الإنجيل، لأنَّه في هذه الألسن كُتب فوق صليب ربِّنا: العبريَّة، اليونانيَّة، الروميَّة (أو: اللاتينيَّة) (يو 19: 20). في العبريَّة، من أجل اليهود. في اليونانيَّة، من أجل بيلاطس. في الروميَّة، من أجل هيرودس. والألسن التي فيها شاركوا لكي يتَّهموه، هي التي كرزَت البشارة.
ف 38. لوقا رتَّب الأمور الأولى في الموضع الأوَّل، وكلُّ شيء في ترتيبه. فكتب كما فعل ربُّنا. ويوحنّا فعل هكذا أيضًا. وإن ترك أمورًا كثيرة في الوسط (دون أن يذكرها)، لأنَّ رفاقه قالوها. أمّا متّى فما تصرَّف هكذا، بل بترتيب التعليم، فرتَّب الأقوال الواحد مع الآخر، في شكل متلاحق. رتَّب الشرائع التي وضعها ربُّنا في رأس (ܩܦܠܐܘܢ) واحد. أمّا الإنجيليُّون الآخرون فوضعوها في شكل مبعثر. شابه مرقسُ متّى في ترتيبه. ولهذا حين لا يفهَم الكثيرون الطريقة التي بها كتب كلُّ واحد منهم، ظنُّوا أنَّهم يعارضون بعضُهم بعضًا (21-22/17-18).
حاول ديونيسيوس هنا أن يميِّز بين الأناجيل دون أن ينسى توافقهم. فذاك كان همُّ آباء الكنيسة في الشرق والغرب. ويكفي أن نذكر من القدِّيس أوغسطين في توافق الإنجيليِّين، حيث يردُّ على الذين يتَّهمون الإنجيليِّين بأنَّهم يعارضون بعضهم بعضًا.
*  *  *
ونقرأ شرح «ميلاد يسوع» في 1: 18-25، فنكتشف التوجُّهات الثلاثة في تفسير ديونيسيوس، الذي هو في الواقع تقليد متجذِّر في التراث السريانيّ: المعنى الحرفيّ أو الجغرافيّ والتاريخيّ. ثمَّ المعنى الروحيّ، الذي فيه ينطبق الكلام على حياة المؤمنين. ثالثًا المعنى السرِّيّ الذي به ندخل إلى سرِّ المسيح والكنيسة.
أمّا ميلاد يسوع المسيح فهكذا كان (1: 18). باثنين وخمسين اسمًا سُمِّي ربُّنا في الكتب. منها ما يليق بالزمن السابق للتجسُّد مثل الكلمة والابن والشعاع ومثل هذه (الأسماء). ومنها (ما يليق) بزمن التجسُّد، مثل يسوع المسيح. ومنها ما يدلُّ على الاتِّحاد، مثل عمّانوئيل، لأنَّه من اللاهوت والناسوت دُعي عمانوئيل الذي تفسيره: الله معنا. هكذا يجب أن نبحث ماذا يعني اسم يسوع. فنقول: اسم يسوع هو عبريّ، ويعني المخلِّص بالنسبة إليهم. أمّا اليونان فيدعون يسوع «ي س ا ا». فيقولون: تفسيره الشفاء. إذًا هو مخلِّص لأنَّه يخلِّص شعبه من خطاياهم. وهو شفاء لأنَّه يشفي ويعافي أولئك المرميِّين في الأوجاع وفي الأمراض. وموسى وضع أوَّلاً هذا الاسم ليشوع بن نون، وهذا يصوِّر المسيح. دُعيَ من قبل «هوشع». وكما من العمل صار هذا الاسم. كما عمانوئيل يعني: بواسطة الولادة من امرأة صار الكلمة الله معنا. واسم المسيح يعلِّمنا: بواسطة من صار إنسانًا يقال إنَّه مُسحَ بشكل إنسانيّ. هكذا اسم يسوع يعني: ذاك الذي يحيينا ويخلِّصنا: إذًا اسم يسوع و(اسم) المسيح و(اسم) عمّانوئيل هي واحد بالقوَّة وبالمعنى.
وأيضًا اسم المسيح يعني المسح بالزيت. أو اختيار ما. في ثلاثة أنواع كان يُمسَح القدماء. الأوَّل، بالزيت، مثل الملوك والكهنة. أو: بالنعمة، أي بالروح في شكل خفيّ، مثل الأنبياء والكهنة. أو: بالإكرام والتمييز، لتقويم الأعمال مثل بيت إبراهيم  وكورش  وحزائيل  (59-60/45).
هي دراسة الأسماء. يسوع، المسيح، عمانوئيل. وربط العهد الجديد بالعهد القديم. في اليونانيّ، ربط اللفظ بالسريانيَّة: الشفاء. وهكذا استخلص المعنى الروحيّ. يسوع هو الذي يشفي. وارتبط يسوع بيشوع. وميَّز بين زمن التجسُّد وما سبقه وما جعله حاضرًا من خلال الطبيعتين في المسيح. وما نسيَ أن يكون اسم يشوع تبدَّل، فما عاد يعني الفعل فقط «خلَّص»، بل جُعل معه الفاعل: الربُّ يخلِّص. ويتواصل الشرح، ونحن ما زلنا في 1: 18:
فاسم «المسح» يقال في سبعة أنواع. الأوَّل، بالكمِّيَّة، مثل شيء يُقاس بالذراع أو بالشبر، وكما قاس الملاك أورشليم (فكانت) ألف ذراع (رؤ 21: 15ي). الثاني، بالنعمة كما الأنبياء الذي مُسحوا بشكل سرِّيّ. الثالث، بالزيت، مثل الملوك والكهنة الذين مُسحوا بزيت القدس (أو: الزيت المقدَّس)، والناس مثلهم بالزيت العاديّ. الرابع، بنوع الإكرام مثل بيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين قيل عليهم: «لا تقربوا من مسحائي». الخامس، بالتمييز، مثل هؤلاء الذين مُيِّزوا (أو: فُصلوا) لتقويم الأعمال، مثل كورش وجزائيل اللذين دُعيا من السماء، السادس مثل هذه «من الإيمان والمعموديَّة» (أف 4: 5). وهذه: «الجسد هو المسيح» (1 كو 12: 12). السابع، بالروح القدس، كما مسح الكلمةُ جسده أي بلاهوته وبروحه (60-61/45-46).
نلاحظ هنا التكرار. ما سبق وقاله في المقطع السابق، استعاده هنا مع بعض الإضافات. وهنا تأتي الدراسة اللاهوتيَّة:
فالمسيح هذا الذي نسجد له ليس فقط إنسانًا وُلد من مريم وبعد ذلك مُسح بالروح وتقدَّس مثل كلام الهراطقة، بل ندعو المسيحَ، كلمة الله الذي وُلد من الآب ولادة أزليَّة. وندعوه المسيح، لأنَّه قبِلَ على نفسه أن يُمسَح بالروح وأن يتقدَّس به في الجسد (ܒܒܣܪ، كبشر). وكما أنَّ كيانه (أو: طبيعته) أرفع وأعلى من ولادة من امرأة ومن الآلام ومن الموت، فقبِلَ على نفسه أن يُولَد ويتألَّم ويموت في الجسد (كبشر) من أجلنا، هكذا قبل على نفسه أن يُمسَح بالروح. وإذ هو واهبه (= الروح) وقدُّوس في كيانه، قبل على نفسه حلول الروح مثل لامحتاج.
إذًا قبله في جسده (في بشريَّته) لكي يعطيه لنا. وفي كلِّ شيء لنا الباكورة مثل آدم الثاني بحسب كلام بولس (1 كو 15: 22، 45). لكي بوساطته يعطينا الروح القدُّوس.
وأيضًا دعوناه مسيحًا، لأنَّ الروح نزل إلى حشا البتول، كما قال الملاك، وجبل جسد كلمة الله، الروح القدُّوس نفسه، ومسحه وقدَّسه. وهكذا وصل الكلمة الجسد فيه أقنوميًّا (ܩܢܘܡܐܝܬ). وهذا فعله الروح. لا لأنَّ الابن لا يقدر أن يجبل جسده ويقدِّسه، بل ليُعرَف أنَّ الذي وُلد هو الله وابن (ومن ذات) كيان الروح الذي جبل جسده وقدَّسه، لا إنسان.
وأيضًا جبل الروحُ جسدَ الكلمة، ومسحه وقدَّسه لكي يُعرَف تمييز الأقانيم في الثالوث: الأب الذي أراد (له) أن يتجسَّم (يأخذ جسمًا) والروح القدُّوس الذي جسَّمه (كوَّن له جسمًا، لأنَّه جبل جسده من البتول. هكذا أيضًا كان الترتيب باتِّجاه البرايا: أمر الآب لكي تكون الأشياء، والابن صنعها، والروح القدُّوس أتمَّها وكمَّلها. وأيضًا: الآب مَسح. الابن مُسح. الروح ملأ المكان بالزيت. ولهذا ندعو الله الكلمة، المسيح (61-62/46).
لا ننتظر من الشرّاح السريان ما اعتدنا أن نراه في كتب الغرب، حيث يُفصَل الشرح عن النظرة الروحيَّة والرعائيَّة. فعند ديونيسيوس اكتشفنا شرح الكلمات في معنى تاريخيِّ، كما التطبيق الروحيّ، فوصلنا إلى اللاهوت. ومثله نتذكَّر فيلوكسين المنبجيّ الذي نقل الأناجيل من أجل النقاش اللاهوتيّ. هكذا يغتني القارئ في أكثر من مجال، فلا تصبح نظرته فقيرة مثل أرض يُزرَع فيها نوعٌ واحد من الخضار سنة بعد سنة فلا تعطي الكثير من الغلال.

الخاتمة
الأدب السريانيّ واسع جدًّا، وشروحه كثيرة، وأنا أعطيت القليل من الكثير، لأنَّ آثارًا ضاعت بسبب كبرها، مثل شرح ديونيسيوس برصليبي للعهد القديم، وأخرى أُتلفَتْ كما اعتاد الشرق أن يفعل وخصوصًا مؤلَّفات حنانا الحديابيّ الذي أراد أن ينتقل من تيودور المصيصيّ إلى الذهبيّ الفم، بل هو نفسه اعتُبر هرطوقيًّا ونُعت بأبشع النعوت. ثمَّ إنَّ الكثير لم يُنشَر حتّى الآن، بل لم يُكشَف بعد، لأنَّ أهل البيت ليسوا أدرى بما فيه، بل هم آخر من يدري. والحمد لله أنَّ الغرب الأوروبّي خصوصًا، ينشر لنا النصوص ويفتح لنا الآفاق. وما نلاحظ هو ارتباط المدارس بأنطاكية، لأنَّ أنطاكية لبثت ساميَّة في جزء كبير من فكرها، وشدَّدت على المعنى الحرفيّ للنصوص وأبرزت وجه يسوع البشريّ في قراءة الأناجيل. وما نلاحظ أيضًا هو تلاقي السريان، المشرقيِّين منهم والغربيِّين، يأخذون بعضهم من بعض، وإن اختلفوا على مستوى اللاهوت، بين تشديد على الأقنوم والوحدة في المسيح، وبين تشديد على الطبيعة وتمييز بين ما هو بشريّ وما هو إلهيّ في يسوع. الانطلاقة الأولى التي نعرف كانت مع أفرام الذي سوف يرد اسمه في جميع المؤلَّفات حتّى المتأخِّرة جدًّا، ثمَّ تلاميذه البعيدون والقريبون، وتوالى الشرّاح السريان الذين اغتنوا بما نقلوا من آثار اليونان، من تيودور إلى الذهبيّ الفم وغيرهما، وصولاً إلى الإسكندريَّة مع أثناز وكيرلُّس، لا أوريجان الذي لم يُقبَل بسبب تفسيره الأليغوريّ. وأخيرًا، نلاحظ هذا التقليد الثابت الذي يبقى متجذِّرًا بالرغم من شخصيَّة هذا الكاتب وذاك، فنكتشف كيف أنَّ الأفكار عينها تتجمَّع وترتفع مثل كتلة الثلج فتعطينا غنى أضعناه لأنَّنا تركنا شرقنا وأخذنا التفاسير الغربيَّة الحديثة بحيث نسينا تراثنا الذي يمكن أن يكون موضع حوار في الكنيسة الجامعة، وإلاَّ شابهنا العبد البطّال الذي أخفى فضَّة سيِّده، لا سمح الله. فمتى يأتي الوقت لكي نستثمر الغنى الذي تركه لنا الآباء والأجداد؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM