الفصل الخامس: هوشع ومشروع حبِّ الله

الفصل الخامس
هوشع ومشروع حبِّ الله

سنة 722 سقطت السامرة بيد الأشوريِّين ودُمِّرت بعضُ أسوارها بحيث لا تستطيع بعد أن تقاوم، وهي التي صمدت على تلَّتها المشرفة ثلاث سنوات. سنة 722، قُتل الملك، ومضى الأعيانُ وقوَّاد الجيش والمجتمع المخمليّ إلى السبي. اقتادوهم كالقطيع. باعوا النساء والأطفال، واقتادوا الرجال بعد أن جعلوا الخشبة بين الكتفين مثل النير، ولاحقهم القضيب كما تُقاد البقر. وصلَ الذلّ إلى القعر. ماذا يقول الشعب بعدُ وهو ممتلئ كبرياء وتشامخًا؟ أما عرف أفرائيم وسكّان السامرة أين صارت مدينتهم؟ نبَّه النبيُّ إلى الخطر الآتي، ولكن ليس من يسمع وليس من يلتفت إلى الربّ. والآن بعد أن حصل ما حصل، هرب العديدون إلى مملكة يهوذا واستعادوا كلام هوشع. حسبوا الربَّ بعيدًا، فإذا هو أمٌّ تهتمُّ بهم! حسبوه رافضًا لشعبه، فإذا هو يتألَّم في قلبه من الوضع الذي آلَتْ إليه الأمور! وهكذا جاء وقتٌ تنبَّه فيه المؤمنون إلى أقوال الربِّ. اعتبرت مملكة يهوذا أنَّها بخير لأنَّها أفضل من مملكة إسرائيل. ولكن حين سقطت أورشليم سنة 587، استعاد الشعب أقوال هوشع. هم أيضًا لم يتعلَّموا. لا مجال للاتِّكال على البشر، فلا يبقى سوى الاتِّكال على الله. فهو يعمل المعجزة في الوقت الذي يراه. «ارجع يا شعبي إلى الربِّ إلهك لأنَّ إثمك جعلك تعثر وتسقط. خذ معك كلمات فمك (الخارجة من  قلبك، لا العجول والكباش) وارجع إلى الربّ. قلْ له: أنت ترفع كلَّ إثم وتتقبَّل ما هو طيِّب، أقوال شفاهنا (أو: ثمار شفاهنا، كما قالت السريانيَّة)» (14: 1-3). وحين يعرف المؤمنون أنَّ «طرق الربِّ مستقيمة والأبرار يسلكون فيها» (آ10)، عندئذٍ يسمعون صوت الربّ: «أنا أشفيهم من ضلالهم، أحبُّهم وأحبُّهم... أكون لهم كالندى فيزهرون مثل السوسن ويغرزون جذورَهم مثل لبنان (مع غاباته وشجره وعطره). وأغصانهم تمتدُّ، وبهاؤهم يكون كالزيتون ورائحتهم تكون مثل رائحة لبنان» (بأرزه وسروه وأزهاره) (آ5-7). الله قال وهو يفعل. «والحكيم وحده يفهم هذا، والفهيم وحده يعرف» (آ10).

1-    الحكيم والفهيم
فضَّل شعبُ السامرة الذي توجَّه إليه هوشع حكمتَه الخاصَّة على حكمة الله. اعتبر أنَّ أشور يخلِّصه. فإذا خرابُه أتى من أشور. شتَّته في المدن العديدة وجاء بغرباء من مدن عديدة فسكنوا أرضه وجعلوا آلهتهم بجانب الربِّ الإله الواحد. وهكذا صار ابن الأرض غريبًا عن أرضه، والغريب أقام في أرض السامرة فضاعت أصالة يعقوب وأبنائه، وتشوَّه الإيمان. من يعبد المقيمون في هذه المدينة الساهرة على البلاد، التي دُعيَت السامرة؟ إله بابل أم إله كوث وعوا، إله حماة أم إله سفروائيم؟ (2 مل 17: 24).
حكمة السامرة هي حكمة الجيش والخيل والمركبات. فالملك أخاب امتلك ألفي مركبة وعشرة آلاف من الجنود. نتخيَّل هذه المملكة الصغيرة. كلُّ هذا المال يُرمى في السلاح وكأنَّ كثرة السلاح تخلِّص البشر. فالمرض هو هو. في الماضي واليوم. شعوب فقيرة أو تحت الفقر، وتفتخر بامتلاك السلاح الذي لا يتأخَّر بأن يُصبح بلا فائدة: حديد للكسر. ولكن من يفهم؟ لا أحد. والناس في أعيادهم، يعرضون هذا السلاح ويتبجَّحون به. ولكن ماذا نفعَ السامرةَ سلاحُها؟ لا شيء. ومات الناس بالجوع قبل أن يموتوا بالنار. أما أكلت امرأة ابنها خلال الحصار؟
حكمة السامرة قادتهم إلى عبادة الأصنام، ولاسيَّما البعل الرابض على جبل الكرمل ومعطي المطر والخصب للناس. يقدِّمون له الذبائح وربَّما الأطفال بحيث يكون راضيًا عنهم. وإذا تعقَّدت الأمور، يعودون إلى الربّ. ولكن عادة يتوجَّهون إلى «البعل» ويهتفون له: «أنت إلهنا». مع أنَّ أيديهم تصنع هذه التماثيل، فهذا يدعونه «إلهًا». جحدوا الله، تنكَّروا له، مضوا جماعات وجماعات إلى الجبل. أكلوا، شربوا، رقصوا حول الثور. كانوا حول أنبياء البعل وعددهم أربعمائة وخمسون رجلاً، هذا عدا أنبياء أشيرة، تلك الغابة المقدَّسة، ومقابلهم كان إيليّا وحده. فإذا كان الملك أخاب وامرأته إيزابيل بجانب البعل، من يجسر أن لا يكون معهما؟ فطاعة الملك تعني طاعة إلهه.
النبيّ هو وحده. وتجاهه الشعب. أما فهموا بعد أنَّ البعل لا صوت له ولا كلام. هو في سفَر، هو نائم... هكذا سخر إيليّا بهؤلاء «الأنبياء». ثمَّ قال إيليّا: «اقتربوا منِّي». هذا يعني ابتعادًا عن الملك. وهكذا تشجَّعوا واقتربوا. فهموا أنَّهم صاروا يتامى بعد أن تركوا الربّ. فمن سيرحمهم؟ (آ4). فهل تتعلَّق بعدُ، يا أفرائيم، بالأصنام؟ فماذا فعلتْ لك؟ هل كلَّمتْك؟ هل أعطتك سؤلك؟ ويعلن الله: أنا أجيبُ على سؤالاتكم. أنا أسهر عليكم (آ9). نظر إسرائيل إلى إله الخصب، فما نال شيئًا. فقال الله عن نفسه إنَّه هو إله الخصب. وشبَّه نفسه بالسرو، تلك الشجرة الخضراء طوال السنة، المفعمة دومًا بالحياة، «التي يجد عليها الشعب الثمار المرجوَّة» قال: «أنا كسروة خضراء، منِّي يخرج كلُّ ثمر». فإلى أين تمضون؟ «فارجعوا إلى الربِّ إلهكم» (آ3).

2-    هوشع وملوك السامرة
هوشع، كما يبدو، هو أقدم الأنبياء الذين وصلت إلينا نبوءة على اسمهم. وقد يكون أتى بعد عاموس بوقت قليل. عاش وأطلق أقواله النبويَّة في مملكة الشمال، التي اسمها أفرائيم أيضًا (4: 17) واسمها يعقوب (12: 3). اسم هذه المملكة إسرائيل تجاه يهوذا، عاصمتها السامرة تجاه أورشليم. كان كلامٌ في زمن يربعام بن يوآش. فيوآش لم يحكم طويلاً من سنة 803 إلى سنة 790 ق.م. كان من سلالة ياهو. تحدَّث عنه نصُب الملك الأشوريّ هددنيراري الثالث، الذي كُشف سنة 1967 في تلّ الرماح في العراق: يوآش السامريّ واحدٌ من دافعي الجزية. كان رجل حرب. على يهوذا، حيث انتصر على أمصيا. وعلى الأراميِّين حيث استعاد من بنهدد بن حزائيل المدن التي خسرها أبوه يوآحاز. وبالرغم من هذا النجاح، حكم عليه سفر الملوك الثاني (13: 11): «عمل الشرَّ في عيني الربّ، وما حاد عن جميع خطايا يربعام (الأوَّل) بن ناباط، الذي جعل إسرائيل يخطأ». بل هو سار في هذه الخطايا. حُكمُ كتاب الملوك يرتبط بعبادة الله الواحد، وبهدم المعابد الوثنيَّة التي كانت على مشارف المدن وتلالها.
أمّا يربعام الثاني الذي حكم البلاد إحدى وأربعين سنة (790-750)، فاستفاد من ضعف الأشوريِّين والأراميِّين (دمشق)، فاستعاد أرض المملكة من مدخل حماة حتّى بحر العربة وصولاً إلى شرقيّ الأردنّ. كان عهده عهد ازدهار على مستوى البلاد، وهذا ما نعرفه اليوم بفضل الاكتشافات الأركيولوجيَّة التي بدأت في مستهلّ القرن العشرين وتواصلت. غير أنَّ ما يلفت النظر هو أنَّ الغنى تكدَّس في يد قلَّة قليلة، وازدادت حالة الفقراء فقرًا. فشجب عاموس هذا الوضع. ومثله فعل هوشع، فندَّد بالجور المسيطر في البلاد وعدم المساواة الصارخة. انتهى حكم يربعام هذا مع مجيء تغلت فلاسر الثالث. فانفتحت الأزمة التي انتهت في الكارثة ودمار العاصمة.
كان يربعام هذا الملك قبل الأخير من سلالة ياهو، التي أعلن هوشع نهايتها في 1: 4: «وقال الربُّ لهوشع: أعطه (= ابنك) اسم يَزرعيل، لأنِّي بعد قليل أعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل وأضع حدًّا لمملكة بيت إسرائيل». إذا عدنا إلى سفر الملوك الثاني، نقرأ حاشية قصيرة عن حكم ملوك عاصروا النبيّ هوشع. زكريّا بن يربعام قُتل بعد أن حكَم ستَّة أشهر. وشلوم القاتل ومغتصب الحكم أقام شهرًا في السامرة قبل أن يقتله مناحيم. ملَك مناحيمُ بعض الوقت. أمّا ابنه فقحيّا الذي خلفه، فقُتل بعد سنتين من الحكم. وبعد بضع سنوات قُتل فقح المغتصب الجديد بيد هوشع الذي اسمه على اسم النبيّ. فهوشع هذا كان آخر ملك على السامرة. حاصر الأشوريُّون المدينة ثلاث سنوات، ولمّا سقطت كان الدمار النهائيّ لمملكة إسرائيل.
يبدو أنَّ هوشع النبي لم يعرف بسقوط السامرة، وأمّا ما أشير في نبوءته إلى هذه الكارثة فجاء بيد مدوِّن لاحق. وإن كان ناشر الكتاب لم يذكر من ملوك السامرة سوى يربعام الثاني، فسكوته يعكس حكم النبيّ باسم الربِّ على هؤلاء الملوك، الذين لا يَستحقُّون أن يُذكر اسمهم. قال عنهم النبيّ: «أقاموا (صنعوا) ملوكًا بدون رأيي (أنا ما صنعتُهم ولا أقمتهم). أقاموا (سمَّوا) رؤساء وأنا لم أعرف (بدون علمي، وأنا ما وافقت)». اغتصبوا الحكم وما وصلوا إليه بالطريقة العاديَّة. ما هم ملوك شرعيُّون، فكيف يعرفهم الخلَف؟ أهكذا كان الشعب حكيمًا؟ أهكذا بانَ أنَّه يفهم!

3-    هوشع والأمور السياسيَّة والاجتماعيَّة
وضعٌ متقلِّب في المملكة، وهو نتيجة ظروف السياسة الخارجيَّة. ها هي أشوريا صارت أعظم قوَّة في الشرق مع تغلت فلاسر الثالث واللذين خلفاه: شلمنصَّر الخامس وسرجون الثاني. في أيَّامهم تكاثرت الحملات العسكريَّة باتِّجاه الغرب: الممالك الأراميَّة، المدن الفينيقيَّة، مملكة إسرائيل. أصاب مملكة يهوذا الكثير من جرّاء هذه الحملات، ولكنَّ أورشليم لم تسقط كما سقطت أختها. ومقابل أشوريا، مصر. فمصر وإن كانت ضعيفة، فهي تحوك المؤامرات. وهكذا بدت إسرائيل، أفرائيم، ممزَّقة بين هذه الجهة وتلك، ممّا يُنذر بعاقبة وخيمة لم تخفَ على النبيّ: «أفرائيم حمامة رعناء (تُجتذَب في كلِّ جهة) بلا قلب (أي: بلا دماغ يفكِّر، لا تعرف ماذا تفعل). تارة يدعون مصر وطورًا يمضون (يركضون) إلى أشوريا» (7: 11).
تريدون أن تمضوا إلى أشور؟ لا بأس. هناك تأكلون الطعام النجس (9: 3). أتريدون أن تكونوا في مصر؟ هناك تتذكَّرون العبوديَّة. وعجلُكم الذي تتعلَّقون به، سيؤخذ إلى أشور هديَّة إلى الملك (10: 6). فأقيموا عهدًا مع أشوريا واتركوا العهد مع الله، واحملوا الزيت إلى مصر (12: 2). هكذا يفرح بكم الأشوريُّون من الشمال والمصريُّون من الجنوب. تحملون الهدايا إلى هنا وهناك. وسوف يأتي وقت تُداسون فلا يبقى منكم أثر. هكذا تكونون حكماء. تركتم الحكمة الآتية من الربّ، وماذا كانت النتيجة؟ وها تأتي الردَّة متكرِّرة: شعبي لا يفهم، شعبي لا يعرف.
لا الملوك اهتمُّوا بشعبهم، ولا العظماء مارسوا العدالة، فعاث الظلم في البلاد والفقر والعوز عند الناس، فما نجت سوى قلَّة من الأغنياء. لا حكمة في الداخل. لهذا تأرجحت البلاد فصارت كأنَّها تمشي في الوحل. تنالها الضربة من كلِّ جهة. وفي هذا الوضع، رفضوا أن يتطلَّعوا إلى الله، أن يطلبوا صوته. رفضوا صوت الأنبياء. فماذا بقي لهم؟ الأوثان وما يتبع ذلك من فساد خلقيّ عميق.
«اسمعوا كلام الربّ، يا بني إسرائيل! للربِّ محاكمة مع سكّان الأرض، لأنَّه لا أمانة (أو: صدق) ولا لطف (أو: حبّ القريب) ولا معرفة لله في الأرض: لعن، كذب (وغشّ)، قتل، سرقة (سرقة الأشخاص وبيعهم قبل الأشياء) زنى. كلُّ هذا يتكاثر (عمليًّا، تذكير بالوصايا). الدماء (المسفوكة) تلحق الدماء. لذلك تنوح الأرض، ويذبل (مثل زهرة) كلُّ الساكنين فيها، مع حيوان البرِّ وطير السماء.  حتّى سمك البحر يزول» (4: 1-3).
ويعود النبيُّ إلى هذا المناخ الفاسد، متذكِّرًا الإنسان الأوَّل، آدم الذي تجاوز أمر الربِّ بكبريائه، ناظرًا إلى عدم الأمانة والخيانة في كلِّ مكان وعلى جميع الصعد:
«أمّا هم، فمثل آدم تجاوزوا العهد. هناك غدروا بي. جلعاد (مدينة في شرقيّ الأردنّ) مدينة فاعلي الإثم، مملوءة بآثار الدم. وكما يكمن اللصوص لإنسان (من الناس). كذلك فرقةُ الكهنة تقتلُ في الطريق نحو شكيم (المركز الدينيّ). تلك هي الفاحشة التي صنعوا! في بيت إسرائيل رأيت أمرًا فظيعًا: هناك زَنى أفرائيم، فنجَّس إسرائيل» (6: 7-10). أفرائيم أو إسرائيل، هي مملكة الشمال.
وما يؤلم الله أنَّه حين كان يهتمُّ بهم، حين بدأ يشفيهم، أو فيما هو يشفيهم، كانوا يضيفون خطايا على خطايا. «وحينما كنتُ أشفي إسرائيل، انكشف إثم أفرائيم وشرور السامرة (العاصمة). هم يمارسون الغشّ. والسارق يدخل إلى البيوت، واللصوص ينهبون في الخارج. ولا يفكِّرون في قلوبهم أنِّي تذكَّرت كلَّ شرِّهم. والآن أحاطت بهم أوثانهم. هي هنا أمام وجهي» (7: 1-2).
لا عدالة اجتماعيَّة في البلاد، وكلُّ هذا مسؤوليَّة الكبار. ولكنَّ جذور كلِّ هذا الفساد وسبب هذه الشرور يكمن في خيانة الله، في الكذب على المستوى الدينيّ. فالربُّ الذي أخرج شعبه من مصر، أرض العبوديَّة والأوثان، لا يريد له أن يعود إلى العبادات الوثنيَّة في أرض كنعان. في الواقع، لا يتخلَّى إسرائيل عن عبادة الله، بل يعبد آلهة البلاد مع الإله الواحد. فإنَّ بعل هو السيِّد المطاع في حياة الفلاّحين: يتحَّكم بقوى الطبيعة. هو إله المطر والرعد. يمنح الخصب للأرض. أمّا يهوه – الربُّ، فهو إله البرِّيَّة. لا شكّ. كان رفيقنا في الطريق إلى هنا، مررنا في صحراء سيناء وصولاً إلى موآب فأمَّن لنا الطعام، المنّ والسلوى، وأمَّن لنا الشراب فأعطانا الماء من الصخر. ولكن توقَّفت سلطتُه بعد عبورهم الأردنّ حيث يملك بعل، السيِّد وصاحب أرض كنعان. عندئذٍ بدا الله مثل دخيل، متطفِّل. وفي أقصى الحالات، إن نحن عبدناه على أنَّه إله الآباء، فنحن لا نغيظ صاحب الأرض، بعل. ولماذا لا يتصالح الإلهان فيكون لكلِّ واحد دوره. هي المساومة الدينيَّة.
وكيف ينالون ما يعتبرون أنَّهم نالوه من بعل؟ بممارسة البغاء المكرَّس. في ظلِّ معبد بعل، في الغابة المقدَّسة، يتَّحد الملك والعظماء مع البتولات، فيرمزون إلى اتِّحاد السماء بالأرض، وهكذا يأتي المطر والخصب. صورة قاتمة. ذاك ما يحصل بقرب المعابد. مشاهد من الزنى والفجور. هناك الشبَّان والشابّات المستعدُّون لاستقبال الآتين. هم مكرَّسون لعشتاروت ويدفعون لها بعض ما ينالون لقاء «خدماتهم». الفتاة هي «ع ل م ة» غلامة. أو «أ م ة. ع ش ت ر ت»، أمة عشتاروت. والشبَّان هم «ك ل ب م»، كلاب. يُدعَون كذلك لأنَّهم مرتبطون بالإله حتّى الموت كالكلب بالنسبة إلى صاحبه. أو هم «ع ر م» (ربَّما تحريف: ع ل م، غلام). وقد يُدعى الشابّ «ع ب د. ع ش ت ر ت»، عبد عشتاروت. أو: عبد بيت (ب ت) عشتروت. تحدَّث أوسيب في حياة قسطنطين عن وجود هذه الممارسات في أفقا وفي بعلبكّ حتّى القرن الرابع ب.م.: أين حكمة إسرائيل؟ ومتى يرون الانحدار الذي وصلوا إليه؟ ولكنَّ النبيَّ هو هنا. يهزأ بمثل هذه العبادات وهذه الأصنام. هو تمثال «ثور» يدعوه النبيّ «عجلاً»، وهو يرمز إلى الإله. أو بالأحرى يُعتبر مطيَّة للإله بعل. أمّا هوشع فيرفض أن يلفظ الناس اسم «بعل». والمرأة التي كانت تدعو زوجها «بعل»، لا تدعوه بعدُ بهذا الاسم. كلُّ هذا يدلُّ على عمق هذه العبادات الكنعانيَّة في النفوس. فمتى يفهمون؟

4-    هوشع وشعائر العبادة
وفي هذا الإطار، ندَّد هوشع بممارسات خارجيَّة في الديانة. ما هذه الذبائح؟ ما هذه الشعائر العباديَّة؟ في 4: 12-14 هي ممارسات مشبوهة. فبعد كلام عن الفجور والسكر اللذين يُضلاّن القلب (آ11)، يقول النبيّ: «شعبي يسأل (كما يسألون الله كيف يتصرَّفون) خشبة (أو: شجرة)، وعصاها (أو: غصنها) تُخبره. لأنَّ روح الزنى أضلَّهم، وإذ يزنون ابتعدوا عن إلههم. على رؤوس الجبال (هناك معابد البعل) يذبحون (أو: اعتادوا أن يذبحوا) وعلى التلال ينحرون، تحت السنديانة والصفصاف والبطم (تحت كلِّ شجرة خضراء، تث 12: 2؛ 1 مل 14: 23، هي الغابة المقدَّسة)، لأنَّ ظلَّها طيِّب. لذلك تزني بناتكم وتفسق كنّاتكم. لن أحسب عدد زنى بناتكم ولا فسق كنّاتكم، لأنَّهم – أي الكهنة – يعتزلون مع الزانيات ويذبحون (يشاركون في أكل الذبيحة) مع الزانيات الناذرات (أُفرزن، تكرَّسن، تخصَّصن لمثل هذا العمل). وشعب لا عقل له يمضي إلى دماره» (آ12-14).
وما اكتفى هوشع بالكلام عن عبادات البعل، بل ندَّد أيضًا بعبادات تقليديَّة غرَقتْ في الروح الوثنيَّة. الشعائر الطقسيَّة والذبائح هي هي. ولكنَّ الديانة التي تحرِّكها هي «تأمين»: حين نقوم بهذه الممارسات بدقَّة، نتصالح حالاً مع الإله ونربح ودَّه وخيراته. نقول بشكل عامّيّ: أوتوماتيكيًّا. يكفي أن نقدِّم ذبيحة حتّى يكون لنا ما نريد. نحرِّك الآلة فتكون النتيجة. ما هذه الديانة التي تجعل الله يأتمر بأمرنا، وبسرعة. وما كان في زمن هوشع، هو اليوم في الزمن الذي نعيش فيه. عبادات خارجيَّة. صلوات، تساعيّات، مسيرة في حجّ، وحتّى صوم وإماتة! هكذا يكون الله بجانبنا. ولكن هل يطلب الربُّ مثل هذه «الذبائح»، كما قال في مز 50؟ كلاّ. فالديانة الحقَّة هي ديانة القلب. والنبيّ قال: «أريد رحمة (أو: المحبَّة هي ما يرضيني) لا ذبيحة، ومعرفة الله أفضِّلها على المحرقات» (6: 6).
يأتون بالذبائح، يحملون المحرقات! وهكذا يُرضون الله. يغشُّونه، يرشونه. هذا ما يفعل عدد من المسيحيِّين في أيَّامنا. يرضون الله ببعض المال يدفعونه إلى الكنيسة أو إلى خدَّامها. وهكذا نغلق عيوننا عمّا يفعلون. يشترون رجال الإكليروس منذ بداية «رسالتهم»، هذا إذا كانت تهمُّهم الرسالة، ويذكِّرونهم من وقت إلى آخر «بسخائهم». عندئذٍ نتركهم يفعلون ما يريدون. يستغلُّون الكنيسة والوقف والرعيَّة والكاهن. أو يضعون «بلاطة» يدوِّنون فيها مآثرهم. وبدون هذه البلاطة لا يفعلون شيئًا. كذب على الناس، ربَّما. ولكنَّنا نربح بهذا الكذب. أمّا الله فهو يعرف ما في القلوب.

5-    رجوع الشعب إلى الربّ؟!
«هلمَّ نرجع إلى الربّ. هو مزَّق (كما يفعل الأسد) وهو يشفينا. هو ضرب (فكسر) وهو يجبر (كسرنا). بعد يومين (أي: سريعًا. لا ينتظر طويلاً) يُحيينا (بعد أن كنّا مثل الموتى) وفي اليوم الثالث يقيمنا (فاليوم الثالث هو يوم اللقاء بالربّ). فنحيا (فنعيش) في حضرته (لا في حضرة بعل، الذي قد يموت ويقوم). نجتهد لنعرف الربّ، فشروقه أكيد مثل الفجر. يأتي إلينا كما يأتي المطر ومثل مطر الربيع يسقي الأرض» (ربط الشعبُ الخلاصَ بعودة الفصول التي لا تُخطئ. دون النظر إلى صدق العودة إلى الله، وإلى حرِّيَّة الله. كم يخطئون!) (6: 1-3).
هل صدَّق الله نواياهم؟ كلاّ. هو ينتظر الأعمال لا الأقوال. «إذا أنتَ رجعتَ إلى إلهك، فاحفظ الأمانة والاستقامة (أو: الرحمة والحقّ)، واجعل دومًا رجاءك في إلهك (انتظره)» (12: 7). انتظرَ الربُّ، ولكن خاب انتظاره. فهتف: «ماذا أصنع بك يا أفرائم... فحبُّكم كسحاب الصبح (يزول سريعًا بدون نتيجة، بدون مطر) ومثل الندى الباكر الذي يمضي سريعًا» (6: 4). مثل هذا الموقف مرفوض من النبيّ لأنَّه مرفوض من الله.
دافع هوشع عن عظمة الله. ورفض دومًا أن يُمزَج الربُّ الإله مع آلهة كنعان. ولكنَّ الدفاع لا يكفي. والموقف السلبيّ يُبقي الشعب في ضياع. بما أنَّ عبادة البعل تجتذب الناس، قدَّم النبيُّ اجتذابًا آخر يأتي من عند الربِّ الإله تجاه شعبه.
«أجل، أمُّهم (أو: الأمَّة والشعب. ثمَّ العاصمة) زنت. تلك التي حبلت بهم غطَّاها العار، حين قالت: "اذهب (أو: أريد أن أذهب. أو: أركض) وراء محبِّيَّ (أو: عشّاقي. أحبُّوني وخصوصًا أنا أحببتهم. هم الآلهة الكنعانيَّة وأوَّلهم بعل وعشتروت). هم الذين يعطوني الخبز والماء، والصوف والكتّان، والزيت والشراب (من خمر وغيرها)"» (2: 7). ماذا يفعل الربُّ تجاه هذا الشعب الذي يلهث وراء العبادات الكنعانيَّة؟ يجعل السياج والحائط. يجعل الضباب بحيث لا تجد «الزانيةُ» الطريق. ويواصل الربُّ كلامه بفم النبيّ: «لذلك ها أنا أسيِّج (أضع سياجًا من الشوك في) طريقك، وأبني حائطها (أو أقفلها بالحواجز) حتّى لا تجد دروبها. فتتبع محبِّيها ولا تدركهم، وتفتِّش عليهم ولا تجدهم. فتقول: "أذهبُ (أو: ها أنا أعود) إلى زوجي الأوَّل (صورة الزواج بين الله وشعبه، والزوج الأوَّل هو الربُّ الإله، وإليه تعود الأمَّة كما المرأة إلى رجلها)، حينئذٍ كنتُ أكثر سعادة ممّا أنا الآن"» (2: 7-9).
وإذ الزوجة تكون مع زوجها، فماذا تنتظر بعد؟ أمّا الشعب مع ربِّه، فما زال يتطلَّع إلى الوراء كما كان يفعل في وقت عبور البحر والمسيرة في البرِّيَّة. هم يتطلَّعون إلى خيرات مصر، إلى اللحم والسمك والبطِّيخ... وإن عادوا إلى العبوديَّة، لا بأس! فماذا يعني لهم خلاص الله. وذاك هو وضع الشعب في زمن هوشع. ما فهموا ولا يريدون أن يفهموا، لا يعرفون ولا يريدون أن يتعرَّفوا إلى ذاك الذي يعطيهم الخصب في الأرض كما كان يعطيهم المنَّ من السماء وهم ماضون إلى جبل سيناء.
وعروس الربِّ لم تعرف (ولم تفهم) «أنِّي أنا أعطيتها القمح والنبيذ الجديد (كلَّ سنة، لا مرَّة واحدة في الحياة، وكما يتخلَّصون من غلَّة السنة الماضية، يتخلَّصون من النبيذ العتيق) والزيت الطريء (الآتي من الزيتون الأخضر. هو أفضل زيت). أنِّي أنا كثَّرتُ (أعطيتُ بكثرة، بسخاء) الفضَّة والذهب» (آ10). اعتبروا أنَّ كلَّ هذا العطاء آتٍ من عند البعل. فعملوا ما يجب أن يُعمل. «جعلوه للبعل».
«لهذا» (لذلك)، تصرَّف الربُّ مرَّة أولى حين وضع الحواجز بين «العروس» وبين محبِّيها (أحبَّائها، عشّاقها، الآلهة). ومع ذلك، هي لم تعرف، لم تفهم بعد. فلا بدَّ من عقاب أكبر وأكثر قساوة من الأوّل: الماء يأتي من بعل. توقَّف الماء فنرى ماذا يستطيع أن يفعل بعل. هل القمح هو «قمح بعل» أم «قمح الربّ»؟ إذا كان القمحُ قمحَ بعل، فليعطكم القمح بعد الآن... كان الربُّ أعطى، وها هو يستعيد كلَّ ما اعتبرته «الزوجة الخائنة» آتيًا من عند البعل. بعد «لهذا» أوَّل، ها هو «لهذا» ثانٍ.
«لهذا، أرجع وآخذ (أو: أستردّ، أستعيد) قمحي في حينه، وخمري الجديد في وقته، وأنتزع صوفي وكتّاني اللذين كانا يستران عريها» (آ11). وعندما يحلُّ الجوع في الأرض، وعندما يُعدَم الخمر للشراب والزيت للعطور، لن يبقى هناك أعياد ولا احتفالات وأناشيد، بل  يسيطر الحزن في كلّ مكان. وربَّما تفهم في ذلك الوقت، أو إن هي فهمَت فلوقتٍ قصير. فالعبادات الكنعانيَّة لها سحرها، فكيف التخلُّص منها بكلِّ سهولة.

6-    رجوع الربِّ إلى الشعب
المبادرات تأتي من الله ولا تأتي من الإنسان. فهو يعود إلينا قبل أن نعود إليه. إنَّه يعرف أنَّ البشر ضعفاء. يسحرهم العالم بما فيه، كما تجتذبهم الخطيئة. يبحثون عن الطريق السهلة، لا الطريق الصاعدة، عن الباب الواسع لا عن الباب الضيِّق. وبما أنَّهم كذلك، فلا يستطيعون أن يرجعوا إلى الله. لهذا، يرجع الربُّ إليهم.
في الماضي رفضَهم. الابن الأوَّل لهوشع اسمه يزرعيل. اسمٌ كلُّه شؤم. هناك قتلَ ياهو سلالةَ عمري، ملك إسرائيل، كلَّها. وفي يزرعيل تكون الانقلابات بين حكم يربعام الثاني وسقوط السامرة. في هذا قال النبيّ: «في شرِّهم يُفرِحون (يسلُّون) الملك، وبكذبهم العظماء. كلُّهم فاسقون كتنُّور محمَّى لا يني الخبّاز يشعله من الوقت الذي فيه يُعجَن العجين إلى أن يختمر. في يوم ملكنا (أي في يوم عيده)، يمرض الرؤساء من سورة الخمر، ويبسطون يدهم نحو الهازئين... جميع ملوكهم سقطوا وما من واحد بينهم يصرخ إليَّ» (7: 3-5، 7).
والولد الثاني بنت. اسمها «لارحمة». فالربُّ لا يرحم شعبه بعد الآن. لن تكون أحشاؤه أحشاء أمّ. والثالث اسمه «لاشعبي»، لأنَّكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم (حاضرًا، لا أفعل لكم شيئًا ولا أحميكم).
ولكنَّ الأمور تتبدَّل سريعًا مع الربّ: «لأنَّ غضبه يدوم لحظة ورضاه يدوم طول الحياة. عند المساء يبيت (يطول، يلبث في البيت) البكاء وفي الصباح يكون هتاف الفرح» (مز 30: 6). هذا ما يورده هوشع حين يعد الشعب بحقبة من السعادة. قيل إنّ الحروب آتية فلا يعود الشعب كثيرًا، بل يكون قلَّة قليلة. لا، يقول النبيّ «لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر (هذا ما قيل لإبراهيم بعد ذبيحة إسحق، تك 22: 17) الذي لا يُكال بكيلة ولا يُعدّ» (2: 1). في الماضي قالوا لهم: «لستم شعبي». أمّا اليوم فيُقال لهم: «أنتم أبناء الله الحيّ». والوعد الثالث: يتبدَّل معنى «يزرعيل» فيضحي يومَ الربّ العظيم. الإخوة هم شعبي. والأخوات محبوبتي. أجل، عادت رحمة الربّ.
كانت «حرب» بين الله وشعبه. راحت الحرب إلى غير رجعة. كان التهديد والوعيد. أمّا الآن فأجملُ الوعود. انفصلت السماء عن الأرض، وغاب المطر. ابتعد الله فانقطعت كلُّ علاقة بينه وبين شعبه. كلُّ هذا صار من الماضي. قال الربّ:
«أقطع لهم عهدًا في ذلك اليوم (هو يوم يحدِّده الربّ) مع حيوان البرّ وطيور السماء وكلِّ ما يزحف على الأرض (تلك حالة الفردوس الأرضيّ، حيث لا عداوة إطلاقًا بين الإنسان والحيوان). وأكسرُ القوس والسيف وأدوات الحرب. وهكذا لن تكون حربٌ من بعد (إذًا، لا تهديد بعد اليوم من أرام ولا من أشور. وبما أنَّ الحرب زالت) أجعل السكّان ينامون آمنين (مطمئنِّين)» (2: 20).
وحين يعرف الشعب الربّ، في ذلك اليوم يستجيب الربّ، وتتوالى سلسلة الاستجابات. الربُّ يستجيب لانتظار السماء. لن تبقى مغلقة. وتتجاوب السماء مع الأرض. والأرض مع المزروعات: مع القمح والخمر الجديدة والزيت الطريء. اقتُلع الشعب في الماضي، وها هو الربُّ يزرعه لنفسه في الأرض. الغرسةُ غرستُه، فمن يجسر على اقتلاعها. عادت المحبَّة، عادت الثقة. يهتف الربّ: «أنتم شعبي». وهم يجيبون: «أنت إلهنا» (آ23-25).

الخاتمة
تلك كانت مسيرتنا مع النبيّ هوشع. دعا شعبه إلى الحكمة الحقيقيَّة، طلب منه أن يفهم من هو الربّ وما هو عمله. ولكنَّهم رفضوا أن يفهموا، أن يسمعوا. بل أطاعوا رغباتهم. راحوا إلى البعل وعشتاروت، كما اعتادوا أن يفعلوا منذ دخلوا الأرض مع يشوع. ومع أنَّهم قطعوا العهد في شكيم ها هم يتراجعون: في شعائر العبادة التي يضعون فيها شفاههم لا قلبهم. في الحياة الاجتماعيَّة حيث يسيطر الظلم والجور في البلاد. في الحياة السياسيَّة مع الغشّ والكذب بحيث لا تعرف البلاد الراحة، من ثورة إلى ثورة، ومن انقلاب إلى انقلاب، فلا يموت ملك إلاَّ قتلاً. بانتظار الكارثة التي ستحصل سنة 722. عندئذٍ لا يُقتَل الملك وحده، ولا بعض العظماء وحدهم، بل ينطلق الشعب في طرق المنفى، وتزول مملكة إسرائيل إلى الأبد بانتظار دمار يهوذا على يد البابليِّين، كما دُمِّرت أختها على يد الأشوريِّين. ذاك هو النبيّ. يرى الخطر آتيًا فيبيِّنه للمؤمنين. يدعوهم للرجوع إلى الله وبالتالي إلى بعضهم بعضًا. فيمضي كلُّ واحد في طريقه. وحين تصبح الكارثة آتية لا محالة، يكون الوقت قد فات. أمّا النبيّ فلا ييأس، بل هو ينتظر دومًا القيامة بعد السقوط، والحياةَ بعد الموت. دُمِّرت المدينة، فهي سوف تُبنى. اقتُلع الشعب. فالربُّ سوف يغرسه. ويمضي النبيّ، ولكنَّ كلامه لا يمضي، بل تردِّده الأجيال بعد أن قال الربُّ إنَّ كلامه لا يزول.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM