إلى بولينس، أسقف نولا، حول التعمّق في الكتب المقدّسة هيروتيمس، جيروم

إلى بولينس أسقف نولا[1]

ولِمَ التوقُّف هنا عند أدباء الوثنيَّة؟ ألم يقلْ بولس، الإناء المختار (أع 9: 15)، ومعلِّم الأمم، متقوِّيًا بذاك الذي يحملُه في داخله: "تريدون برهانًا على أنَّ المسيح يتكلَّمُ بلساني" (2 كو 13: 3). فبعدَ أنَّ مكث طويلاً في دمشق، وجالَ في بلاد العرب قاطبة، ألم يَرجع إلى أورشليم ويُقمْ مع بطرس خمسة عشر يومًا، يستطلع خلالها المعاني الروحيَّة للبشارة التي سينقلها إلى الأمم؟ (غل 1: 17-18). وبعدها بأربعة عشر عامًا، ترك طيطس وبرنابا، وعاد إلى أورشليم لكي يُطلِع الرسل على الإنجيل الذي يُنادي به، لئلاَّ يسعى أو يكونُ قد سعى باطلاً (غل 2: 1-2). ذاك أنَّ التعليمات التي تُعطى شفهيًّا لها قوَّة سرِّيَّة، ذاك تأثير بالغ على القلبِ والعقلِ على السواء، وخاصَّةً إذا صدرت عن معلِّمٍ واسع المعرفة. من هنا جاء أنَّ أشينُس، يوم نُفيَ إلى رودُس، وتلا على سامعيه الخطابَ الذي واجههُ به ديموستينُس، وأمام إعجابهم قال: "ما تراهُ، إذًا، كان حالكم، لو سمعتموه من فيه؟"[2]

وإذا كنتُ أقول ذلك، فليس هذا من قبيل التباهي بمعرفة أمور تستحقُّ منك الدراسةَ والاهتمام؛ وبغضِّ النظر عمّا ترحوه منِّي، فأظنُّ أنَّ من واجبي الثناءَ على تفانيك الحارِّ في طلب العلم. فالعقلُ المهيَّأ للعلم جديرٌ بالثناء، ولو من غير معلِّمٍ يُنشِّئه. واهتمامي بما تسعى إلى معرفته يفوقُ اهتمامي بما تعرف. فالشمعُ الطريُّ، ولو من غيرِ شكل، يحتوي في ذاته جميعَ الأشكال التي بوسعِ صانعٍ حاذقٍ أن يصوغَها. والقدِّيس بولس الرسول، يُفاخرُ بكونه تعلَّمَ ناموسَ موسى والأنبياء على يد جملئيل، حتّى إذا تسلَّح بتلك الأسلحة الروحيَّة حُقَّ له أن يقول، بملء الثقة: "فليس سلاحُ جهادِنا بشريًّا، ولكنَّه قادرٌ في عين الله على هدمِ الحصون. ونهدمُ الاستدلالات وكلّ كبرياء تحولُ دون معرفة الله، ونأسرُ كلَّ ذهن لنهديَه إلى طاعة المسيح. ونحن مستعدُّون أن نعاقِبَ كلَّ معصية متى أصبحت طاعتكم كاملة." (2 كو 10: 4-6). والرسول نفسُه يحثُّ طيموتاوس، الذي نشأ، منذ طفولته، على دراسة الكتاب المقدَّس، على الثبات على ما تعلَّم (2 تي 3: 14-15)، لئلاَّ يُهملَ الموهبةَ التي وُهبت له بوضع اليد (طي 4: 14). وبعد أن رسم لطيطس الأسقف الفضائلَ التي ينبغي أن يتحلَّى بها، أمره بألاَّ يرفع إلى الكرامة الأسقفيَّة إلاَّ من جمع إلى تلك الفضائل، علمَ الكتاب المقدَّس، فقال: "عليه أن يلازم الكلام السليم الموافق للتعليم لكي يكونَ قادرًا على الوعظِ في التعليم السليم والردِّ على المخالفين" (طي 1: 9). والحال، فإنَّ الجاهل، مهما سما في الفضائل، لا يكون ذا فائدة إلاَّ لنفسه؛ فإن لم يقاوم الذين ينقضُّون على كنيسة الله، فبقدر ما يرفعها بفضيلته، يحطُها بجهله: يقول حجّاي: هكذا قال ربُّ الجنود: اسألِ الكهنة عن الشريعة. (حج 2: 12). من أجل ذلك، كان من واجب الكاهن، بل من صلبِ كهنوتِه، أن يجيبَ على كلِّ سؤال يُطرَح عليه بشأن ناموسِ الله. "سلْ أباك يُخبرْك، وشيوخك يُحدِّثوك" (تث 32: 7). وفي المزمور الثامن عشر بعد المئة: "كانت فرائضك أناشيد لي في دار غربتي" (118(119): 54). وبعد أن رسم داود صورة الصدِّيق، وامتدح فضائله، شبَّهه بشجرة الحياة التي في الفردوس، قال: "في شريعة الربِّ هواه بشريعته يتمتمُ نهارَه وليله." (مز 1: 2). وفي آخر رؤيا له، يقول دانيال: "ويضيء العقلاء كضياء الجلد، والذين جعلوا كثيرًا من الناس أبرارًا كالكواكب أبدَ الدهور". من هنا ترى الفارق بين بارٍّ يعيش في ظلمة الجهل، وبين متنوِّر يجمع بين الفضيلة والمعرفة؛ ذاك أنَّ النبيَّ يشبِّهُ الأوَّل بالكوكب، والآخر بضياء الجلد. والنصُّ العبريُّ واضحُ المعنى إذ يقول: "يضيءُ العقلاء كضياء الجلد، والذين يُرشدون الآخرين إلى طريق البرِّ كالكواكب يُضيئون إلى الدهر والأبد."

لماذا دُعي بولس "الإناء المختار"؟ أليسَ لأنَّه كان مملوءًا من شريعة الله ومن علم الكتب المقدَّسة؟ لقد وقف الفرِّيسيّون مذهولين بالحكمة التي كان يتحدَّث بها يسوعُ المسيح عمّا هو لله، وأعجبوا بمعرفة بطرس ويوحنّا بالشريعة، وهما لم يدرسا يومًا. ولكنَّ الربَّ نفسه، على ما يقول الكتاب، كان يُعلِّمهما، والروح القدس يوحي إليهما ما لا يقوى آخرون على تعلُّمه ألاَّ بالجهد المتواصل والتأمُّل الطويل. ولمّا بلغ ابن الله الثانية عشرة، ذهب إلى الهيكل، حيث بسط أمام الشيوخ، بعضَ المسائل الشائكة في الشريعة ولكن بكثير من الفطنة، بحيث بدت أسئلتُه دروسًا لهم. وربَّما كان بوسعنا أن ندعو بطرس ويوحنّا أمِّيَّين، ولكن بوسع كلِّ منهما أن يقول: "إن كنتُ جاهلاً في البلاغة، فلستُ جاهلاً في المعرفة" (2 كو 11: 6). ألم يكن يوحنّا صيّادًا قرويًّا فقيرًا؟ فمن أين، إذًا، كان له أن ينطق بهذه الكلمات: "في البدء كانت الكلمة والكلمة كانت لدى الله، والكلمةُ هو الله."؟ (يو 1: 1). لأنَّ لفظة "كلمة" (لوغس) اليونانيَّة تحملُ العديد من المعاني: الكلام، والعقل، والتبصُّر، وعلَّة الوجود؛ وهذه جميعُها تنطبقُ تمامًا على يسوع المسيح. لا أفلاطون، على ما تمتَّع به من علم، ولا ديموستينوس، على ما بلغ من براعة في البلاغة، كانا يعرفان تلك الحقائق. لقد كُتب: "سأبيدُ حكمةَ الحكماء، وأُزيلُ فهم الفهماء" (1 كو 1: 19). الحكمة الحقيقيَّةُ تبيدُ حكمة الناس الكاذبة. وعلى الرغم من أنَّ بشارة الصليب تبدو جهالةً في عين الأمم، غير أنَّ بولس "... على حكمةٍ نتكلَّمُ بين المؤمنين الراشدين، وليست بحكمة هذه الدنيا ولا بحكمة رؤساء هذه الدنيا، ومصيرهم للزوال، بل نتكلَّم على حكمة الله السرِّيَّة التي ظلَّت مكتوفةً في الماضي، تلك التي أعدَّها الله قبل الدهور." (1 كو 2: 6-7). وحكمةُ الله التي يتكلَّمُ عليها بولس، إنَّما يعني بها يسوعَ المسيح، الذي هو قوَّة الله وحكمته. والحكمةُ هذه، محجوبةٌ في السرّ؛ لذا كتبَ داود مزموره التاسع، على موت الابن، أي الابن الذي يحتوي في ذاته كلَّ كنوز الحكمة والمعرفة، والمحتجب في السرّ، والمُعدّ من قبلِ الدهور، والذي ظهر في الناموس والأنبياء. من أجل هذا عُرفوا بالرائين (1 صم 9: 9) إذ كانت لهم رؤى، يرون فيها ما حُجب عن أعين الآخرين. إبراهيم رأى يومه فابتهج (يو 8: 56)؛ والسماءُ التي أقفلت على الشعب الآثم، فُتحَت لحزقيال. يقول داود: "افتحْ عينيَّ فأبرص عجائبَ شرائعك." (مز 119: 18). ولمّا كانت شريعة الله روحيَّة، فنحنُ بحاجة إلى الوحي لكي نُدرِك وجه الله ونعاينَ مجدَه.

يتكلَّم القدِّيس يوحنّا في الرؤيا على كتابٍ مختومٍ بسبعة أختام، إذا "يناولونه لمن يعرف القراءة قائلين: اقرأ هذا، فيقول: لا أستطيع، لأنَّه مختوم" (إش 29: 11). كم نرى، اليوم، من أدعياء العلم، لا يستطيعون أن يفتحوا الكتابَ المختوم، ما لم يفتحه لهم "من عنده مفتاج داود، من يفتح فلا أحد يغلق، يُغلِق فلا أحد يفتح." (رؤ 3: 7). ونقرأ في أعمال الرسل أنَّ فيلبُّس، لمّا سأل خصيَّ ملكة الحبشة، إذا كان يفهم ما يقرأه في النبيِّ إشعيا، أجاب الرجل (كما يدعوه الكتاب): وكيف لي، إن لم يُرشدني أحد؟ (أع 8: 30-31). أمّا أنا فلا أجرؤ أن أدَّعي أنِّي أبرُّ، ولا أكثرُ فهمًا من ذاك الخصيِّ الذي ترك بلاط الملكة، وأتى من عمق الحبشة، أي من أقاصي العالم، لكي يزور هيكل أورشليم، تدفعُه لهفةٌ عارمة إلى التعرُّف إلى شريعة الله، وإلى الكتب المقدَّسة التي كان يقرأها حتّى وهو في العربة. ولكن، على الرغم من أنَّ الكتاب كان في يده، ويفهم كلام النبيّ، ويُردِّده، إلاَّ أنَّه لم يكن يعلم من يكونُ ذاك الذي يعبُده في الكتاب، من دون أن يعرفه. ولمّا جالسه فيلبُّس، عرَّفه بيسوعَ المسيح المحتجب في الكلام الذي كان يقرأه. فيا لروعة ما يُمكن تعلُّمه من معلِّم خبير! وللوقت، آمنَ الخصيُّ بيسوعَ المسيح، واعتمد، ودخل البيعة، والتلميذُ صار معلِّمًا، ووجد في ماء ينبوع الكنيسة المقدَّسة، في القفر، ما سعى إليه عبثًا في هيكل المدينة المذهَّب.

ولمّا كان إطارُ رسالة لا يسمحُ بالتبسُّط مطوَّلاً في هذا الموضوع، فإنِّي أختصر فأقولُ إنَّك بحاجة إلى معلِّم ليُرشدك في دراستك الكتب المقدَّسة، وأحذِّرك من أن تسلك، من غير دليل، طرقًا وعرة المسالك. لا حاجة بي إلى الكلام على النجاة والخطباء والفلاسفة وعلماء الهندسة والفلك والطبّ الذين يؤدُّونَ للناس خدماتٍ جلَّى، ويقوم عليمهم على القواعد والمنهجيَّة والتطبيق؛ حسبي الكلامُ على مهاراتٍ أقلَّ شأنًا، اليدُ فيها أكثرُ استعمالاً من العقل؛ فكلُّ أصحابِ المهن، من فلاَّحين وبنّائين وحدَّادين ونجّارين، وحيّاكين، وسواهم من الحرفيِّين، لن يكونَ بوسعهم أن يبرعوا في مهنتهم من غير معلِّم. في المرض نلجأ إلى الطبيب، وفي العُري إلى الحائك. أمّا في علوم الكتاب المقدَّس فكلٌّ يريدُ أن يُنصِّبَ نفسه معلِّمًا؛ فينبري للشعرِ عالم وجاهل.

عجوزٌ يثرثر، وشيخ يهذي وصوفيٌّ يهذر، وجميعهم يدَّعون معرفة الكتاب المقدَّس. وكلٌّ يفسِّره على هواه، ويعلِّمه قبل أن يتعلَّمه. هذا يتلبَّس وجه المتمكِّن ونبرة المعلِّم، ويطرحُ في ندواتِ النساء أدقَّ الأسئلة وأصعبها؛ وذاك لا يخجلُ من أن يتعلَّم من النساء ما أحرى به، هو، أن يعلِّمه. وتبلغُ الصفاقةُ ببعضهم، لما يفاخرون به من طلاقة اللسان، أن يُبادروا، بكلِّ قحة، إلى تعليم الآخرين ما لا يعلمونه هم أنفسهم. ولا أقول شيئًا عمَّن لجأوا، مثلي، إلى التعمُّق في الكتاب المقدَّس بعد أن درسوا الآدابَ العالميَّة؛ حتّى إذا راقوا لسامعيهم بأسلوبهم الراقي وتعبيرهم البليغ، زعموا أنَّه ينبغي تلقِّي كلامهم وكأنَّه خارج من فم الله، فلا يشغلون أنفسَهم في تفسير المعاني الحقيقيَّة للأنبياء والرسل، ويُفسِّرون كلام الكتاب على هوى أفكارهم الشخصيَّة، كما لو أنَّهم أتوا أمرًا جللاً، فيما هم، في الحقيقة، يرتكبون إثمًا عظيمًا بتحوير المعنى وتحميله فوق ما يحمل. وهذا ما حصلَ مع مؤلِّفين فهموا فرجيليوس وهوراس على هواهم، وجعلوا من مارو[3] الوثنيِّ مسيحيًّا لأنَّه قال: "إلى الأرض تعودُ العذراء... ومعها الرخاء... وابنٌ يُعطى لنا من السماء" (فرجيليوس، قصائد ريفيَّة 4: 6-7). وفي مكان آخر جعلوه ينطقُ بلسان الآب: "بُنيَّ، أنت قوَّتي... ولداه أنت عزَّتي" (الإنياذة 1: 664). وبلسان الابن المرفوع على الصليب: "ذكَّر بذلك كلِّه وصمد فلم يلِنْ" (الإنياذة 2: 650).

يا لسخافة تلك المقولات! أليس دجلاً أن يعلِّمَ المرء ما ليس يعلم؟ ولأنِّي لا أتمالك من أن أعاملَ مثلَ هؤلاء، بما يستحقُّون من احتقار أقول: أوليسَ دجلاً ألاَّ يكونوا هم أنفسهم عارفين بجهلهم؟

ماذا إذًا؟ أما في سفر التكوين أيُّ صعوبة في أمر خلق العالم والإنسان وتوزيع الأرض، واختلاط الألسن ودخول العبرانيِّين إلى مصر؟ ألا نجدُ صعوبة في سفر الخروج والضربات العشر التي أنزلها الله بفرعون، وفي الوصايا العشر التي تحوي الكثير من الأسرار؟ أم أنَّ فهم سفر الأحبار هو اليسير؟ كلُّ ما في السفر أسرارٌ في أسرار، من عدد الذبائح، إلى ملابس كبير الكهنة، إلى مهامّ اللاويِّين المتعدِّدة، إلى مقاطع الألفاظ نفسها. أليس سفر العدد مليئًا بالأسرار من الدفَّة إلى الدفَّة، أكان بخصوص إحصاء الشعب، أم بخصوص نبوءة بلعام، أو بالمظالِّ الاثنين وأربعين التي نصبها الشعبُ في البرِّيَّة؟ ألا تحتوي تثنية الاشتراع، وهي صورة الإنجيل والشريعة الثانية، ما سبق أن ورد في الأسفار الأربعة الأولى، فإذا بالسفر يبدو كتابًا جديدًا بكلِّيَّته؟ تلك هي أسفار موسى الخمسة التي تُسمّى التوراة، أي الشريعة. إنَّها تلك الكلمات الخمس التي يُفاخرُ بولس بقولِها في جماعة المؤمنين. (1كو 14: 19).

كم من الأسرار يحتوي سفرُ أيّوب، ذاك الرجل الذي ضُربَ المثلُ به في الصبر؟ أوَّلُ السفر وآخره نثر، والباقي كتب شعرًا. يحافظُ الكاتب فيه بدقَّة على أصول الحوار، فيبدأ بعرض موضوع الخطاب، ثمَّ يعمدُ، بعد ذلك، إلى أقامة البرهان بالتحليل المنطقيّ، مُدعمًا بالحجج والشواهد، إلى أن يختُم باستخلاص العبرة، مستخدمًا التعابيرَ النابضة بالشجو؛ ويتكلَّم، بنوعٍ خاصّ، في القيامة، بكثير من اليقين والوضوح، كما لم يفعل أحدٌ من قبل. يقول: "فاديَّ حيٌّ، وسيقوم الأخير على التراب... أعاينُ الله في جسدي. أعاينُه أنا بنفسي ويعناي تريانه لا غيري" (أي 19: 25-27، ترجمة هيرونيمُس الفولغاتا).

ولنأتِ إلى يشوع بن نون، صورةِ يسوع المسيح، لا بالأفعال، بل بالاسم أيضًا. اجتازَ الأردنَّ وسيطر على بلاد الأعداء، وقسَّمها بينَ أسباط إسرائيل. ومن خلال تقسيمه المدن والقرى والجبالَ والأنهارَ والمنحدرات، وإقامته حدودًا لفلسطين، فإنَّه يرسمُ صورةً لملكوت الكنيسة الروحيّ، ولأورشليم السماويَّة.

وكلُّ واحد من حكّام إسرائيل الذين يردُ ذكرُهم في سفر القضاة صورةً لما سيأتي. ونشهدُ في راعوت الموآبيَّة ما تحقَّق في نبوءة إشعيا: "أرسلوا الحملان إلى متسلِّط الأرض من سيلعَ في البرِّيَّة[4] إلى جبل بنت صهيون" (إش 16: 1).

وفي صورة موت عالي (1 صم 4) ومقتل شاول (1 صم 31)، يظهر لنا إبطال الشريعة القديمة. ويرتسمُ أمامنا في صورة صادوق الكاهن الأعظم (2 صم 8: 17) وداود الملك (2 صم 5: 3) إرساء كهنوت جديد ومُلك جديد. أمّا سفر الملوك الأوَّل والثاني اللذان يُسمِّيهما العبرانيُّون "ملاخيم" فيتكلَّمان على تاريخ ملوك يهوذا من سليمان إلى يكنيا، وعلى ملوك إسرائيل من يربعام بن ناباط إلى عُزِّيّا الذي أُسر واقتيدَ إلى سبي بابل. فإن أنتَ توقَّفتَ على التاريخ، فالرواية سهلة، أمّا إذا تمعَّنتَ مليًّا في روحيَّة الحرف، رأيتَ، في آن، أعداد المؤمنين القليلة، والحروبَ التي يشنُّها الهراطقة على الكنيسة.

والروايات التي تتضمَّنها أسفارُ الأنبياء الاثني عشر تحملُ الكثيرَ من المعاني الروحيَّة.

ويغلب لدى هوشع الكلام على إفرائيم والسامرة ويوسف ويزرعيل والبغيَّ وبنيها (هو 1: 2) والزانية المسجونة في بيت رجلها، ترقُبُ طويلاً مجيئه وحيدةً متجلببة ثيابَ الحداد (هو 3: 1-4).

ويوئيل بنُ فنوئيل يُبيِّن لنا أرض الأسباط الاثني عشر وقد غزاها الزحافُ والدود والجُندب والجراد (يوء 1: 4)؛ وبعد هلاك الشعبِ القديم، حلول الروح القدس على عبيد الله وإمائه (يوء 2: 29)، أي على المئة والعشرين مؤمنًا المجتمعين في علِّيَّة صهيون (أع 1: 13-15). وهذا العدد يُشكِّل مجموعَ الأعداد من واحد إلى خمسة عشر وفي ذلك إشارة سرِّيَّة إلى المراتب الخمس عشرة في سفر المزامير.[5]

وعاموس الذي لم يكن أكثرَ من راعٍ وفلاّح يقطف ثمارَ الجمَّيز (7: 14)، لا يُشرَح ببضع كلمات؛ إذ من ذاك يكشفُ لنا أسرارَ معاصي دمشق وغزَّة وصور وآدوم الثلاثة والأربع[6] وموآب وبني عمُّون ويهوذا وإسرائيل؟ إنَّ ذاك النبيَّ الذي يُخاطبُ عجالَ جبال السامرة السمان (4: 1)، يرى اليوم جابلَ الجراد (7: 1)، الربَّ السيِّد الواقف على حائطٍ مبنيٍّ على المطمار (7: 7)، وبيده مهمازٌ يُسقِط به الثمار، كصورةٍ لعصا يدمِّر بها المعتدين، ولجوعٍ يعمُّ العالم، لا جوعٍ إلى خبز أو عطش إلى ماء، بل إلى كلمة الله.

وعوبديا، ومعناه عبدُ الله، يقومُ بوجه أدوم[7] المجبول من ترابٍ والمصطبغ بالدم، ويضربُ بسيف الروح عدوَّ يعقوب الدائم.

ويونان، ومعناهُ الحمامة الجميلة، يرمزُ بغرقه إلى آلام المخلِّص، وباسم نينوى، المدينة الخاطئة، يدعو العالمَ إلى التوبة، ويُبشِّرُ الأمم بالخلاص.

وميخا المورشتيّ[8]، شريكُ يسوع المسيح في الميراث، يتنبَّأ لابنة السالب[9] بالسلب، وبأنَّه سيُلقى عليها الحصارُ لأنَّها ضربت قاضي إسرائيل بالقضيب على خدِّه (مي 5: 1).

ونحوم، معزِّي العالم، يرمي بالويل مدينة الدماء[10] بأسرها (نح 3: 1)، وعندما يُقضى عليها، يصرخ: "ها إنَّ على الجبال قدمَي المبشِّر المسمع بالسلام" (نح 2: 1).

وحبقوق المحاربُ الشديد البأس، يقف على مرصده وينتصبُ على الحصن (حب 2: 1) يتأمَّلُ المسيح على الصليب، ويهتف: "غطّى جلاله السماوات، وامتلأت الأرض من تسبحته. بهاؤه يكونُ كالنور، وله من يده أشعَّة، وهناك تحتجبُ عزَّته" (حب 3: 3-4).

وصفنيا الوسيط العارف بأسرار الله، يسمع صراخًا من باب السمك، وولوالاً من الباب الثاني، وانحطامًا عظيمًا من الأكام (صف 1: 10)، فيحرِّضُ سكّان المكتبَش[11] أن: ولولوا، "فإنَّ كلَّ شعب كنعان قد دُمِّر، وكلَّ وازني الفضَّة قد انقرضوا" (صف 1: 11).

وحجّاي، أي المبتهج المتهلِّل، الذي زرعَ بالبكاء لكي يحصد بالفرح (مز 126: 5)، منشغل بإعادة بناء الهيكل، وينطقُ بلسان الله الآب: "بعد وقت قليل أُزلزلُ السماء والأرض والبحر واليابسة، وأزلزلُ جميع الأمم، وتأتي نفائسُ جميع الأمم، فأملأُ هذا البيت مجدًا." (حج 2: 6-7).

وزكريّا، ومعناه "الله يتذكَّر" تنبَّأ بأمور كثيرة؛ فرأى يشوع الكاهنَ العظيم لابسًا ثيابًا قذرة (يش 3: 3) وحجرًا واحدًا عليه سبعة أعين (3: 9)، ومنارة كلُّها ذهب، كوبُها على رأسِها، وسرجُها سبعة (4: 2)؛ وزيتونتين إحداهما عن يمين الكوب والأخرى عن يساره (4: 3)؛ والأفراش الحمر والدهم والبيض والنُّمر (6: 1-3)؛ والملك يستأصلُ العجلةَ من إفرائيم والخيلَ من أورشليم (9: 10)، آتيًا صدِّيقًا مخلِّصًا وديعًا راكبًا على جحشٍ بن أتان (9: 9).

وملاخي، آخر الأنبياء، يتكلَّم بصراحة عن نبذ اليهود، ودعوة الأمم، "ليس هواي فيكم، قال ربُّ القوّات. ولا أرضى تقدمةً من أيديكم، لأنَّه من مشرقِ الشمس إلى مغربها اسمي عظيمٌ في الأمم، وفي كلِّ مكان تُحرَقُ وتقرَّبُ لاسمي تقدمةٌ طاهرة." (ملا 1: 10-11).

ومن بوسعه أن يفهم أو يشرح إشعيا وإرميا وحزقيال ودانيال؟

أمّا إشعيا فأراه إنجيليَّا أكثر منه نبيًّا.

وأمّا إرميا فيرى قضيب شجرة لوز (إر 1: 11)، وقِدرًا تغلي ووجهُها من جهة الشمال (1: 13) ونِمرًا تغيَّر رقطه (13: 23). وينظِّمُ أربعة ضروب من الشعر على الترتيب الهجائيِّ (مرا 1-4).

وحزقيال يحملُ الكثير من الغموض في أوَّله وفي آخره، فأغلِقَ فهمه على العبرانيِّين ولم يُسمح بقراءته، مع أوَّلِ سفر التكوين، قبلَ بلوغ الثلاثين.

ودانيال، رابعُ الأنبياء الكبار وآخرُهم، الذي أوتي علمَ الأزمنة، ومعرفة تاريخ العالم، يتنبَّأ بوضوح عن الحجر الذي انقطع من الجبل، لا باليدين، فسحقَ أمم الأرض كلِّها (دا 2: 45).

وداود الذي هو لنا ما هم للأقدمين سيمونيدس وفندا وألكيوس وهوراس وكاتولُّس وسيرينُس، يُنشد على نغم القيثارة مجدَ يسوعَ المسيح، وعلى سنطورٍ بعشرةِ أوتارٍ قيامتَه.

وسليمانُ، رجلُ السلام وحبيبُ الله، يخطُّ لنا قواعد للسلوك، ويُعلِّمنا طبيعة الأشياء، ويُنشدُ اتِّحاد الكنيسة مع المسيح بأجملِ أناشيد الحبِّ (نشيد الأناشيد) احتفاءً بالعروسين.

وأستيرُ، صورةُ الكنيسة، تنقذُ شعبَها من الخطر وبعدَ أن صرعت هامان – أي الظلم – سنَّت لليهود ونسلِهم في ذلك اليوم المشهود، عيدًا لا يبطُل ليومين (أس 9: 27).

وسفرا أخبار الأيّام، أي الأخبارُ المهملة، يُشكَّلان موجزًا لتاريخ تدبير الله. وهما من الأهمِّيَّة بحيث من الجهل ادِّعاء معرفة الكتاب المقدَّس من دونهما. فمن خلال الأسماء وارتباط الكلمات، تتمُّ الإضاءة على كثير من مفاصل التاريخ التي أهملَت ذكرها أسافر الملوك، وعلى العديد من أسئلة الإنجيل.

وعزرا ونحميا اللذان ناداهما الربُّ لينهضا بمصالح الشعب، يُعنيان بإعادة إقامة الهيكل، وبناء حصون المدينة، وبإحصاء جميعِ الشعب العائد إلى بلاده، والكهنة واللاويِّين والمُهتدين الجُدد؛ ويُخبرانا عن أمور الناس الذين يتوزَّعون مهامَّ البناء. ويُشكِّلان في آنٍ معًا مرجعًا تاريخيًّا وروحيًّا.

إنَّ ولعي بالكتب المقدَّسة يكادُ يذهب بي، فأتخطّى إطارَ الرسالة؛ هذا ولم أقلْ بعد ما أردتُ قوله. وقد اكتفيتُ بذكر ما ينبغي أن نعرفَه ونبتغيه، لكي نتمكَّن من أن نقول مع داود: "ذابت نفسي من الرغبة في أحكامك كلَّ حين." (مز 119: 20). وفي ذا تنطبق علينا حكمة سقراط: "لا أعرفُ ألاَّ شيئًا واحدًا، وهو أنِّي لا أعرفُ شيئًا." (أفلاطون، الدفاع عن سقراط 22: 21).

وسأكتفي ببعض الكلمات حول العهد الجديد. إنَّ متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا هم عجلاتُ العربة التي تحملُ المسيح، والكاروبون الحقيقيّون الذين يختزنون كنوز المعرفة، وأجسادُهم ملأى عيونًا (حز 1: 18)؛ أرجلهم أرجلٌ مستقيمة، وتلمعُ كالنحاس الصقيل (حز 1: 7)؛ تنطلق وترجع كمرأى البرق (حز 1: 14)؛ أجنحتهم منبسطةٌ من فوق، لكلِّ واحد اثنان متَّصلان أحدهما بالآخر (حز 1: 11)، تسير كأنَّما الدولاب وسط الدولاب (حز 1: 16)، إلى حيث يوجِّه الروح (حز 1: 20).

وكتب بولسُ الرسول إلى سبع كنائس[12]، (أمّا الثامنة – إلى العبرانيِّين – فإنَّ كثيرين يعتقدون أنَّها ليست منه). ويُعلِّم طيموتاوس برسالتين، وطيطس برسالة، وفي رسالة يتشفَّع لدى فيلمون لعبد فارّ. وأفضِّل ألاَّ أقول شيئًا في ذلك الرسول العظيم على أن أقول ما لا يفي.

وتبدو أعمال الرسل في ظاهرها مجرَّدَ رواية بسيطة، تروي لنا أحداث الكنيسة في بداياتها. أمّا إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ كاتبها هو لوقا الإنجيليّ الطبيب، وجدنا أنَّ في كلِّ كلمة من كلماتها دواءً للنفوس المريضة.

أمّا الرسل يعقوب وبطرس ويوحنّا ويهوذا فقد كتبوا سبع رسائل، مقتضبة، تضمُّ في ثناياها الكثير من الأسرار، فإذا هي مقتضبة بالكلام، زاخرة بالأفكار والمعاني، حتّى أنَّ قليلين يُدركون أبعادَها.

أمّا رؤيا يوحنّا فعددُ أسرارها بعدد كلماتها. ويبقى أيُّ قول دون الحقيقة، لأنَّ كلَّ كلمةٍ تحملُ معنى مختلفًا.

أسألك، أيُّها الأخ العزيز، أن تمضي حياتَك وسط هذه الكتب، تتأمَّلُ فيها وتجهدُ لأن تفهمها، وألاَّ تطلبَ غيرها. وسترى أنَّ ذلك سيكون لك، في الدنيا، سعادة تنبئك عن نعيم السماء. لا تُثنينَّك، في الكتب المقدَّسة، بساطةُ لغةٍ أو سهولةٌ تعبير، ولا يجرحنَّك أسلوبٌ عامّيّ. فلعلَّ ذلك عائدٌ إلى هفوة مترجم أو أسلوب ناقل، أحبَّ أن يجعلها في متناول عامَّة الناس، فيفهمها، ولو بشكل متفاوت، عالمٌ وجاهل. أمّا أنا فليس لديَّ ما يجعلني أدَّعي أنِّي علاَّمةُ في الكتاب المقدَّس، فأجتني ثمار شجرة جذورها في السماء. إلاَّ أنِّي أقرُّ بأنَّ لديَّ الرغبة في أن أكون كذلك. وأراني أفضل من البطّال. لستُ أرغبُ في أن أكونَ معلِّمًا، حسبي أن أكون رفيق دراسة. يقول متّى الإنجيليّ: "من يسأل ينل، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له." (مت 7: 8). فلنتعلَّم، في الأرض، العلمَ الذي يبقى لنا في السماء.

إنِّي لفاتح ذراعيَّ لاستقبالك. وحتّى ولو حدث أن تصرَّفتَ بحماقة هرماغورَس[13]، فإنَّ كلَّ ما ترغبُ في تعلُّمه، سأسعى إلى تعلُّمه معك. إنَّ أخاك العزيز يوسيبيوس الموجود هنا، جعل فرحي برسالتك مضاعفًا، لما أخبرني عن أخلاقك الحميدة، وازدرائك هذا الدهر، وثباتك على الصداقة وعلى محبَّتك ليسوع المسيح. وقد أتت رسالتُك لتُخبرني بما تتمتَّع به من حكمةٍ وبلاغة. فأسألك أن تبادر، لا إلى رفع مرساة قاربك فحسب، بل إلى قطع الحبل الذي يشدُّه إلى المرسى. إنَّ من تخلَّى عن العالم، وقرَّر أن يبيع ملكًا يزدريه، عليه ألاَّ يسعى إلى بيعها غاليًا. اجعل لك ربحًا في كلِّ ما أنت خاسر. لقد قيل: البخيلُ في فاقةٍ ممّا يملك، فوق فاقته بما لا يملك.

إنَّ للمؤمن عالمًا من الثراء، وغيرُ المؤمن مفتقرٌ إلى الفلس. فلنعشْ كأنَّ "لا شيء عندنا ونحن نملكُ كلَّ شيء." (2 كو 6: 10). فالقوت والكسوة كفايةُ المسيحيّ. (1 طي 6: 8). وإذا كنتَ سيِّد ملكك، فبعه، أو تخلَّ عنه؛ وتخلَّ عن ردائك لمن يطلب ثوبك (مت 5: 4).

لمَ تؤجِّل بتَّ أمرك يومًا بعد يوم؟ أتخشى ألاَّ يكونَ ليسوعَ المسيح ما يقيتُ به الفقراء، إن لم تهتمَّ بأن تبيع ما تملك؟ إنَّما يُعطي كلَّ شيء من يعطي ذاته لله. لم يتخلَّ الرسلُ إلاَّ عن قاربٍ وشباك. وفلسا أرملة الإنجيل، كانت أغلى في عيني الله من ثروة قارون كلِّها. ومن تأمَّل في الموت، ازدرى كلَّ ما في العالم.

 

 


[1] رسائل هيرونيمُس، الجزء الأوَّل (1-67)، أعدَّها وقدَّم لها ووضع حواشيها سعد الله سميح جحا، التراث الروحيّ، دار المشرق، بيروت، 2008، ص 281-297.

[2] جاء في كتاب شيشرون في الخطباء (3: 56): يوم خرج أشينُس، من أثينا إلى رودُس، ذليلاً مهانًا، سأله أهلُ الجزيرة أن يتلو عليهم خطابهُ في المحكمة، ضدَّ كتيسيفون Ctésiphon وكان خصمُه في المحاكمة ديموستينُس، ففعل. وفي اليوم التالي، سألوه أن يتلو ردَّ ديموستينُس لمصلحة كتيسيفون، فتلاه بنبرة قويَّة ورشيقة. وعلى هتاف الجمهور المعجَب قال: ما تراه، إذًا كان حالكم لو سمعتموه من فمه؟

[3] هو فرجيليوس، واسمه بوبليوس فرجيليوس مارو Publius Virgilius Maro.

[4] صحرة البرِّيَّة: موآب.

[5] في إشارة إلى المزامير المتدرِّجة من المزمور 120 إلى المزمور 134 وهي خمسة عشر مزمورًا ويبلغُ حاصل مجموع الأعداد من 1 إلى 15 مئة وعشرين.

[6] الثلاث أو الأربع، عندما تتوالى، تدلُّ على الكثرة. وذلك القول مثلاً عن السبع أو الثماني.

[7] أدوم تعني الدم. ولعلَّها أيضًا مشتقَّة من أَدَمَه أي التراب، ومنها آدم.

[8] المورشتيّ تعني الميراث.

[9] هي أورشليم.

[10] أي نينوى.

[11] يُعتقَد أنَّه موقع في أورشليم.

[12] الكنائس السبع التي كتب إليها بولس هي: رومة – قورنتُس – غلاطية – أفسس -  فيلبِّي – قولوسّي – تسّالونيقي.

[13] خطيب يونانيّ مُضجِر ذكره شيشرون في معرضِ كلامه على الخطباء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM