رسالة مار اخسنايا عن العالم إلى انسان ترهّب حديثا

رسالة مار أخسنايا

إلى إنسان ترهَّب حديثًا عن العالم[1]

رسالة أخرى أنفذت إلى دير، إلى إنسان ترهَّب حديثًا عن العالم.

1                   إنَّني أردِّد كلمة القدِّيس (مار بولس) الرسول في وقتها مسبِّحًا الله: "إنَّني أفرح بسماع ترتيب سيرتك، وإيمان نفسك الحارّ بيسوع المسيح ربِّنا أرجو بثقة المحبَّة، وأنا كلِّي سرور، أن تسلك بربِّنا يسوع المسيح كما قبلتَه، متأصِّلاً في أرض تعليمه، ومبنيًّا في رجائه المحيي".

2                   والأمور التي سمعتَها منّا مرارًا عن قرب، اذكرها الآن أيضًا بالروح مع ذكر المسيح. واذكر من أين ومن أيَّة حالة انتشلك حنان المسيح. فعندما يكون ذكر البدايات بتمييز، فإنَّه يزيد النفس اجتهادًا لتجدَّ في عملها.

3                   إنَّ الذي يذكر دومًا دَينَه، يجتهد أن يسدِّده. وأنت مَدين للمسيح بأمور كثيرة، لا فقط كسائر الناس، بل بحسب مستوى معرفة دَينك. فالذي تعرَّف على الكثير، يَدين بالكثير. المعرفة تُبيِّن معرفة. وإدراك البدايات هو طريق للمحبَّة نحو أمور أخرى أفضل منها.

4                   قد بدأتَ في طريق وصايا المسيح، فلا تُبطئ في السير بها. بطء في طريق العالم ولكن اجتهاد وإسراع في طريق السماء. إنَّ حرصك في البدايات، عندما كنتَ تسير في طريق المعاثر، وتجمع المنافع البشريَّة، فليكن لك مثالاً لسيرك في طريق الحياة التي تقود إلى ملكوت الله.

5                   حوِّلْ جميع أهوائك وأحاسيسك الجسديَّة والروحيَّة، لترى وتسمع وتتنشَّق وتذوق وتلمس الحياة الروحيَّة التي صرتَ أهلاً لها.

6                   اقبل طعم المسيح الذي دعاك بإحساس عقلك. وتذوَّق الخفيَّ بنوع خفيّ. كلُّ شيء يُذاق في مكانه وعبر الأشياء التي تجانسه: أحاسيس الجسد تذوق شهوات العالم، أمّا عقل النفس فيذوق حلاوة المسيح.

7                   لا تنظر إلى خلفك لئلاَّ تتعثَّر في سيرك. اذكر امرأة لوط. واقطع عنك محبَّة الأمور البشريَّة.

8                   فلتكن سمة المسيح مثالاً حقيقيًّا لأعمالك. لا تنظر إلى أحد، لئلاَّ تكون تصرُّفاتك بشريَّة. احذرْ، لأنَّ المسيح يراك في كلِّ حين. واجتهد أن تُظهر حسناتك له، هو الذي يعطيك أجرًا عن حسناتك. ألا فليكن هو مراقبًا لتصرُّفاتك.

9                   لا تعمل في بيت الله كالعبد، فيكون عملك هذا خوفًا من جهنَّم. ولا كالأجير الذي ينتظر نهاية اليوم ليأخذ أجرته، فيكون عملك أملاً بالملكوت. لقد دُعيتَ ابنًا بنعمة أبيك وأنت كذلك. اعمل مع أبيك بمحبَّة الأبناء، دون أجر ولا خوف. فلقد جُعلتَ عضوًا روحيًّا في جسم المسيح الحيّ. ومن حيث وُضعتَ، من هناك اقبلْ الغذاء والشراب.

10             لا تدخل بيتًا مليئًا بالدخان لئلاَّ يتشوَّش ويضطرب ويكمه بصر حدقتيك. لا تمكث طويلاً في الأفكار النفسيَّة لئلاَّ تصطبغ عبرها بألوان بشريَّة. لا تكن عشرتك مع الإخوة المتراخين لئلاَّ ينقلوا إليك نصائح الشيطان. ابحث عن رفاق لك يكونون مثلما نويتَ أن تكون أنت. لا تُطِل الحديث مع الأشرار، لئلاَّ يُزرع  فيك حبُّ الشرور.

11             لا تطلب لنفسك عادات الراحة، لئلاَّ تقودك إلى أعمال الكسل. لا ترفض القيام بالأمور الحقيرة، لكي تصير إناء كاملاً من التواضع.

12             لا يشرد ذهنك في وقت الصلاة، كي لا يُجعل نصيبك مع المرائين.

13             لا تعمل مع يسوع بالظاهر، ومع العالم بالخفاء. لئلاَّ يكون موتك دخولاً إلى العالم. لا تعانق بذراعي خواطرك محبَّتين منفصلتين الواحدة عن الأخرى، لئلاَّ تفقد كلتيهما، وتُحسب عقيمًا من الله. لا تعبد سيِّدين متخاصمين: لئلاَّ تُحرَم الأجر من الجهتين.

14             فلتسرْ أفكارك مع كلمات ترنيمك لكي تطيب لك العبادة التي تقدِّمها لله، وتفيد منها حكمة. إذا شرد ذهنك في وقت ترنيمك، تصبح نفسك مركزًا للأفكار الرديئة. إذا ركَّزت بالك على ترنيمك، تفيد من ذلك حكمة. ومتى ربطتَ أفكارك بكلمات عبادتك، امتلأتَ ألمًا. وإن كنتَ متألِّمًا، تكون مجتهدًا. إن كنتَ مجتهدًا، تفرح بأعمالك. وإذا كان فيك فرح أعمالك، تمتلئ محبَّة. وإذا وجدتَ المحبَّة، فقد بلغت الكمال.

15             لا تنظر إلى ورائك إلى الأمور التي فعلتها، لئلاَّ تفقد معرفة ما عليك من دَين. انظر وامشِ قدمًا، لكي تنبسط طريقك، وتدركَ مقدارَ دَينك. انتقل إلى عمل أمور أخرى غير الأعمال الأولى التي تستخفُّ عادة بوزنها. لا تحبَّ الأعمال الأكسل من غيرها، لأنَّ طريق ملكوت الله موجودة في الضيق.

لا تنظر إلى الذين ركضوا وقصَّروا، أو إلى الإخوة الخمولين الذين معك، لئلاَّ تقع في أهواء الكبرياء والخمول. لا تنظر إلى أسفل، كي لا يغشى عليك وتُسحق إلى عمق الشرور. تذكَّر شرورك كي تُمحى. في أوان صلاتك، تأمَّل ذاكرًا هاتين الفكرتين: جهالاتك ودَين حسنات الله تجاهنا.

إن لم تكن لديك قدوات للصالحات قريبة منك، اجعل الأبرار الأوَّلين هدفًا لأعمالك. لا تتأخَّر في سعيِكَ إلى الذين هم أقدم منك في الرهبنة. بل تذكَّر علوَّ تعليمك وأنَّك قد أتيت قبل قليل للعمل داخل الكرم. لا تنتظر مكافأة قريبة عن أعمالك، كي لا تكفَّ عن أعمالك إذا ما حصلتَ عليها.

16             لا تحبَّ راحات الجسد لئلاَّ تصبح مسكنًا للشهوات.

17             لا تعتبر الأمر الصادر عن إخوة ناقصين إهانة، لئلاَّ يظهر بأنَّك تطيع السلطة لا المسيح. أدِّ الطاعة للسلطة لأجل الله. واخضع لأخيك الأنقص منك لأنَّ المسيح يظهر فيه.

18             لتكن عيناك ناظرتين إلى الأرض وأفكارك إلى السماء. لا تنظر بوقاحة إلى الوجه، لئلاَّ يتعلَّم فكرك الصلف والجسارة.

19             تكلَّم مع أخيك لسببين: إمَّا لكي تقبل منه علم السيرة الروحيَّة، وإمَّا لتعرف طرق الخدمة التي تُقدِّم لجماعة الإخوة. كلُّ كلام ما عدا ذلك، احسبه زائدًا.

20             تحاشَ الضحك كلِّيًّا. وإذا أطلقتَ العنان للشعور بالفرح، فليكن انفراج السريرة حدودًا لك. لا تظهر أبدًا مكفهرَّ الوجه لئلاَّ تُعدَّ متكبِّرًا وساذجًا. فليكن منظرك لائقًا بحضورك دائمًا. فهذه علامة عدم تحوُّل العقل.

21             لا تدنُ من أحد أعمالِ البرِّ دون ألم، لئلاَّ يضطرب طريق مسيرتك. وليكن طعامُك الرئيسيُّ هو رؤية خيرات المسيح. ومتى تغذَّيتَ من مائدة خيرات الأبرار، يتلذَّذ به في النهاية مذاقُ عقلك الروحيّ.

22             لا تدنُ من عمل الأمور العظيمة، بل تمرَّس أوَّلاً في الأمور الصغيرة لتتعوَّد عليها. اصعدْ دائمًا من أسفل إلى أعلى لتتمرَّس في السير في الطريق التي تقود إلى السماء.

23             ابتعد بالكامل عن ذكر الأحبّاء الأوَّلين والجنس وعادات الجسد، لئلاَّ تنحطَّ إلى العالم بسبب ذكرها.

24             قرِّبْ صلاتك لله في هدوء المكان أو الأفكار، وبهذا الشكل، تسير طلبتك في سبيل صلاةِ ربِّك.

25             لا تُصغِ إلى أخٍ يتكلَّم مع صديقه بشرٍّ، لئلاَّ تنساق بسبب السمع إلى الكلام. لا تكفهرّ أبدًا لعبارة عنيفة تفوَّه بها أخ، لا بمنظرك الخارجيّ ولا بأفكارك.

فلتسبقْ أفكارك أعمالَك في كلِّ شيء، لئلاَّ تهيم على وجهك بدون طريق، تائهًا في بيداء. إنَّ الأعمال المنفذة بالجسد دون تشغيل العقل، تُعمل لينظرها الناس.

26             إن كنتَ تنام في وقت الصلاة، أو تسبح في أفكار شرِّيرة، احسبْ أنَّك في ذلك الوقت تغيط الله.

27             عندما تقدِّم خدمة حقيرة لأخيك، تذكَّر تواضع الله تجاه تلاميذه. عندما تتلو صلاة إراديَّة خارج العادات المحدَّدة، تذكَّر صلاة الآلام التي كان المسيح يقدِّمها وحده لأبيه.

28             لا تضجر من الصوم الطويل. تذكَّر الأصوام الطويلة التي صامها الأبرار الأوَّلون وربُّك.

29             لا تزد عملك أكثر من مقدرتك، كي لا تتعب وتلبث قبل نهاية الطريق.

30             أمِتْ أهواء النفس ومعها تموت شهوات الجسد.

31             لا تلبس ثيابًا موشّاة كما هو مكتوب، ولا تزرع حقلك خليطًا من الحبوب. اسمع روحيًّا هذا الكلام. لا تحرث على ثور وحمار معًا، بالأفكار الضعيفة والقويَّة. لا تزرع أرضًا غريبة، لئلاَّ يأخذ آخر غلَّتك في زمن الحصاد.

32             أحبَّ السهر الطويل بيقظة الصلاة، لكي تستحقَّ بذلك عدم فساد العقل. عندما تتراءى لك أحلام رديئة بطيش الشهوات في سباتك، فإنَّ نفسك تكون قد تدنَّست بأفكار قذرة في يقظتك. فارحضها بالندامة، بدمع أحداقك. وامنع الأطعمة عن جسدك ليُقمع. لا تتمتَّع بخيالات الأحلام، لئلاَّ تطلب راحات اليقظة.

33             لا تشتهِ المنافع الصغيرة المُكتسبة في الأديرة، لا تَنتَقِ ثيابًا لتأخذها. وإلاَّ لم تخرج بعد من العالم. لا تتنقَّل من دير إلى آخر. حتّى ولو ظننتَ أنَّه يعيقك عن ممارسة الأعمال. لا يوجد مكان يعوق (عمل) الصالحات، بشرط أن لا يضجر الفكر. لا تسمح بأن يسيطر عليك سبات العادة، حتّى في الصالحات نفسها. أمّا إذا حدث وغرقتَ في العادة، فاصرفها عنك بنباهة التمييز. إنَّ العادة هي ظلام يغشى على عين العقل، وتُطرد من النفس بذكر المعرفة.

34             رُدَّ الشهوات عنك وهي بعد في مكانها، لئلاَّ يكون انتصارك بدون تعب الجسد. عوِّد جسدك، لئلاَّ يقع في صراع مع النفس. بل ليعمل معه الصالحات كشريك، ولا يُساق بالإكراه إلى الأعمال كمتمرِّد.

35             كُنْ مثابرًا على قراءة الكتب وسماعها، لكي تفيد حكمةً وتقتني ضبط الأفكار. ولا تعلِّم الآخرين ما لا تعمله أنت، فربَّما تُعثر الذي يسمعك وتحتقر نفسك. انتبه من دخول أهواء النفس التي تأتي بعد الانتصار على أهواء الجسد. عندما تسمع قراءة الكتب، لتكن أفكارك نقيَّة من الأهواء، لئلاَّ تصطبغ كلمات الروح بأمراضك، وتتحوَّل فيك إلى أضرار وأوجاع. لا تسمع قصص القدِّيسين لكي تخبرها وتتباهى أمام الآخرين، بل لتفعل ذلك وتُمدح من قبل ربِّك.

36             اطرحْ عنكَ الكسل واليأس، متذكِّرًا كلمة الله التي قيلت بواسطة النبيّ: "إن ارتدَّ، لا تُسرُّ به نفسي". حذار من الكسل، فإنَّه سياج يمنع من العبور إلى الخيرات العتيدة، وظلام يغطِّي الأعمال التي نُفِّذت من قبل. نقِّ عين نفسك لتتأمَّل بكنزك، ومن رؤيته تنال نورًا حقيقيًّا.

37             لا تعتمد على تعزية الآخرين لئلاَّ تألف الحصول على التعزية من هنا، وعند ضيقك، ترتدُّ إلى العالم. ضع السماء نصب عينيك، وليكن حبُّ المسيح معزِّيك. حسبُكَ أن تنظرَ من تحبُّ ووراء من خرجتَ لكي تتعزَّى.

38             لا تتراخَ إذا لم ترَ أنَّ آخرين كثيرين صاروا مثلك. فذلك من شأنه أن يمنحك تشجيعًا. فما لم يقتنه الآخرون، وجدته أنت بعون ربِّك.

39             "اخلعْ عنك تمامًا الإنسان العتيق مع كلِّ تصرُّفاته وأعماله، والبس الجديد الذي يتجدَّد بمعرفة الحقّ". وبالإضافة إلى هذه الأمور القليلة التي كتبتها للتذكير، اذكر الأمور الكثيرة التي تحدَّثتُ بها معك، عندما كنتَ عندي. تذكَّر كلماتي، دون أن تتأمَّل بأدناسي. فإنَّ كلماتي وتعليمي هي من ربِّك. فخُذْ أنت (كلمات وتعليم) ربِّك عن يدي، واترك التي تخصُّني في مكانها لأجل إدانتي، اذكرني في الصلاة عند الاشتراك مع الذين هم مثلك، لكي أستحقَّ مغفرة خطاياي في يوم تجلِّي المسيح.

40             هذه الأمور كتبتها لك بدموع، فتذكَّرْني أنت أيضًا بالدموع بالصلاة الدائمة.

تمَّت هذه الرسالة التي كُتبت إلى دير، إلى إنسان ترهَّب حديثًا.


[1] الراهب روجيه يوسف أخرس، المؤلَّفات الروحيَّة، الجزء الأوَّل، مجموعة مار فيلكسينوس المنبجيّ، 3، دير مار أفرام السريانيّ، معرَّة صيدنايا، 2007، ص 265-285.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM